تجديد الحديث عن الفكرة القومية في زمن الطائفية والتفتيت

يحتاج الواقع العربي في لحظته المتشظية الراهنة إلى العودة للأفكار والمبادئ القومية الكبرى التي يمكن أن تضعه في سياقات عقلانية وتؤطر وتنظم حراكه ويمكنها أن تسهم في إعادة بنائه وانتظامه ، بعد أن بزغت وطغت العصبيات التحتية وصراع المذهبيات والطوائف بمختلف ألوانها ومشاربها ومقاصدها التفتيتية وأصبح صوتها يعلو ويتقدم على صوت الأمة ، وأنتجت واقعاً مذرراً ومشرذماً تحكمه الأهواء والاندفاعات العصبوية والتعصبية والأصوليات والسلفيات المغلقة ، والفكر اليومي السيّار العابر الذي لا يمكث في الأرض ويجرد الواقع من حقائقه وجواهره وثوابته ، ويبقيه أشكالاً وهياكل مجوفة لا يمكنها أن تعبًر عن حالة مجتمع سوي في العصر الحديث أو عن حالة أمة في مخاضاتها الوجودية المفصلية وأطوارها النهضوية .

وكنا قد خبرنا في الماضي العربي القريب كيف أن الفكرة القومية استطاعت أن تطمس وتغالب الكثير من العصبيات التحتية في خضم دعوة عارمة للاندماج والوحدة ، وأن تحوَل وتعمّق الرؤية الشعبية وتجذبها نحو فكرة الأمة والشعب والوطن الواحد وتشدها عاطفياً وعقلياً إلى ما تجسد وشخص آنذاك في مشاهد وحالات واقعية ( وهج وحدة مصر وسوريا ومشاريع الوحدة الأخرى) وجرى السعي والنضال متعدد الأشكال إلى تحويلها إلى فكرة قومية جامعة تتجاوز القطريات وتقدّم الأمة على القطر وتطمس العصبيات أو تخنق وتحاصر البيئات والمناخات التي يمكن لها أن تنمو وتتمدد فيها أو تجد صدىً لدعواتها لديها .
وكان هناك نواة لمشروع قومي نهضوي عربي محدد الملامح والأبعاد قاده ناصر و حزب البعث العربي الاشتراكي والقوى القومية الأخرى ، ولكنه كان أولياً غير مكتمل أو هو في طور التبلور والاكتمال والإنجاز ، وكان فيه ما يمكن البناء عليه وجعله مشروعاً مستديماً للأمة وقابلاً للتحقق ، إلا أن هذا المشروع قد تعرقل وتراجع وتوارى في مراحل لاحقة لأسباب متعددة داخلية وخارجية ( وبعضهم يقول ويزعم أنه فشل وانتهى ولم يعد له وجود أو مبررات واقعية ) ، وهذا ما قيل بعد أن تراءى للناس أن هزيمة الخامس من حزيران قد أعلنت فشل وانتهاء وهزيمة هذا المشروع برمته وأنها لحظة النهاية لهذا الفكر وأحزابه ودعاته في الوطن العربي .
ومع أن الكثير من هذه الاعلانات (الانتقاصية- الاتهامية – الرثائية والعدائية) قد انطلقت في كافة أرجاء الوطن العربي بدوافع من الضديّة والنقض أو بدوافع من البحث الموضوعي والنقد الذاتي والتأمل ، إلا أنها لم تطلق بدائل واقعية ومغايرة منذ تلك اللحظة وحتى أيامنا هذه يمكنها أن تحتل ما احتله الفكر القومي في الوجدانات والعقول وما أسّسه في الواقع من حقائق ومعطيات واستجابات ، وما أنتجه من مناهج في النظر الى الواقع العربي ، كما أنها لم تدفع القوميين إلى التخلي عن هذا الخيار أو الانقلاب عليه وإعلان إفلاسه ، وإنما دفعتهم في الكثير من الأحيان إلى ابتداء عملية نقد عميقة لهذا الفكر ومراجعة مسلماته ويقيناته واشكالياته ( ويمكن ملاحظة ذلك فيما أنتجه مركز دراسات الوحدة العربية منذ منتصف السبعينيات من دراسات قومية نقدية وعلمية هامة في هذا المجال وما عقده من مؤتمرات توفيقية – تصالحية بين تيارات النهضة ، وما أطلقه وحدده من عناصر تشكل مشروعاً نهضوياً لا تختلف عليه قوى النهضة ويصلح أن يكون من أهم المشاريع التي يمكن للأمة أن تأتلف حولها) ، وخاضوا حوارات فكرية مفتوحة مع الأمميات والأصوليات بأنواعها وبأطوار من الحوارات بقصد التقريب النظري بين هذه الفكريات وبين الفكر القومي والتفاهم على مشروع نهضوي موحد يجمع كل تيارات النهضة في الوطن العربي ويوحد جهودها في إطار واحد ، أو بقصد وقف الابتذالات وسوء التفاهمات والاستهدافات الفكرية التي أصبح يتعرض لها الفكر القومي من أطراف مختلفة في الوطن العربي بغية اجتثاثه وإبعاده عن المجالات السياسية التي يمكن أن يتحرك ويشتغل فيها .
كانت الفترة الماضية التي امتدت لعدة عقود واستمرت الى يومنا هذا هي محاولات متتالية لإقصاء الفكر القومي بشتى الطرق والتعرضات، ومحاولة حثيثة ومقصودة لترذيل وتبخيس الفكرة القومية وجعلها لوناً باهتاً من الأحلام الوردية العتيقة ، وأفكاراً عابرة وماضوية لا تستطيع أن تقدم أجوبة عن أسئلة الحاضر العربي ، وتم على هذا الأساس محاولة إخراج الفكرة من التداول ومن فضاءات العقل والبحث عن البدائل .
وأدى غياب الأفكار القومية العروبية التوحيدية الكبرى إلى إستيقاظ العصبيات التحتية والمذهبيات الطائفية والإثنيات والأقليات الانفصالية وكل ألوان وأفكار التفتيت الممكنة ( حتى وصلت المفارقة إلى ذروتها بالاعتراف بالأكراد قومية في العراق وبالعرب هناك على أنهم سنة وشيعة ) ، وكانت هذه هي الصورة البديلة للفكرة القومية بأن تنشأ أفكار هجينة غائمة وجغرافيا لقيطة بديلاً عن فكرة الوطن العربي الكبير ، جغرافيا بلا تاريخ أو بصورة تاريخية جديدة مشوهة وممزقة ، وعلى ضوء ذلك يصبح ممكناً الاختراق بكل ألوانه سواء كان اختراقاً صهيونياً أو طائفياً أو استعمارياً . وقد سهلت هذه الصورة الجديدة المقلوبة للأمة وللوطن العربي الواحد مهمة من يريد أن ينفّذ مشاريعه ورؤاه واندفاعاته الدولية والإقليمية الخاصة في هذا المجال الجغرافي غير المعرّف وبلا هوية قومية أو المعرف بأنه وطن خليط من السكان والأقليات والطوائف والإثنيات المتعددة والمتصارعة وليس وطن العرب الجامع الكبير .
ومن هنا وإزاء ما تتعرض له الأمة من أخطار تفتيتية – طائفية يصبح ملحاً تجديد الحديث عن الفكرة القومية خياراً ضرورياً ووجوبياً تتطلبه المرحلة الراهنة وتقتضية حال الوطن العربي الممزّق .
والعودة إلى المبادئ الكليّة والأفكار الكبرى في عصر التفتيت وصناعة الأقليات هي سياق ونسق جديد من التفكيرالوحدوي البديل الذي يمكنه عن طريق التجديد والنقد والمراجعة أن يضع حلولاً وتصورات عاجلة ومستقبلية بمواجهة ما تتعرض له الأمة العربية من محاولات التمزيق والتفتيت والتشطير والسعي الاستعماري – الصهيوني الحثيث إلى إبتداع هويات قاتلة، وتحويل العصبيات والمذهبيات والانتماءات الطائفية إلى واقع عربي لابد من التعامل معه والاعتراف به واقعاً وبديلاً عن الأمة الواحدة الموحدة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى