في ضرورات استلهام الدرس الكوبي لاثراء المقرر الكفاحي الفلسطيني

من البعيد البعيد جاءنا الخبر السعيد، وتأكد لدينا ان الدم قد انتصر مجدداً على السيف، وان الكف قد نجح مرة اخرى في مناطحة المخرز، وان الاخطبوط الامريكي قد اذعن لارادة العنكبوت الكوبي، وان الصبر الثوري قد تغلب على الغرور الامبريالي ولو بعد نصف قرن.. ذلك وعد الله بان يقف مع الصابرين اذا صبروا، وان ينصر المناضلين اذا صمدوا وثبتوا وما بدلوا تبديلا، ولا استسلموا لليأس والاحباط والقنوط، ولا اذعنوا لشياطين ”الواقعية السياسية” البائسة، ولا تعجلوا الحصاد قبل نضج المواسم، ولا تنازلوا عن حقوقهم الوطنية بذريعة اختلال موازين القوى، وبدعوى ”انقاذ ما يمكن انقاذه”.

يا الهي ما اجمل وابلغ صناعة الصبر الثوري.. صناعة الصبر الايجابي الذي لا يهدر الوقت عبثاً، ولا يدمن الانتظار السلبي العاجز، بل يحرص على استثمار الوقت في ما يستطيع فعله، ويجهد لتحويل الانتظار الى طاقة مثابرة وتحفز وتحين للظروف وترقب للفرص، ورهان على المتغيرات في الموازين والمعادلات، واعتلاء سرج المبادرة – بل المباغتة- بمجرد ان يحين الحين ويئين الاوان وتأتي الرياح بما تشتهي السفن.

خمسون عاماً وكوبا تحترف الصبر والصمود، وتقف وحيدة على متن جزيرة قبالة الرخ – وليس النسر – الامريكي الغاشم والجاثم عن مساحة قارة، وتبتكر انجع الوسائل والاساليب اللازمة لمقاومة الحصار السياسي والجدار العسكري والطوق الاقتصادي الخانق، وتؤدي قسطاً كبيراً في مساندة حركات التحرر الوطني والعمل الثوري في عموم امريكا اللاتينية، وتسطر كل يوم صفحة مشرقة في ”ديوان الحماسة” وموسوعة التحدي والتصدي والاستبسال.

خمسون عاماً وشعب فيديل كاسترو يغازل المعجزات ويسامر المستحيلات، فيمتشق السيف بيد ويشيد العمران باليد الاخرى.. يكتفي باقل القليل من الطعام واللباس ولكنه يمتلك كنزاً من الانفة والعزة والكبرياء.. يكابد اعتى الاخطار عقب انهيار المعسكر الاشتراكي ولكنه يحافظ على رباطة جأشه ويضرب المثل حول قدرة الشعوب الصغيرة على استجماع قوتها وبسالتها لمواجهة اصعب الظروف واشرس الامبراطوريات.

في تاريخ الشعوب والامم علامات فارقة ومحطات مشرقة ولحظات مجيدة ووقائع حاسمة لا تقبل النسيان ولا تسقط بالتقادم، وبالامس وقفت كوبا مباشرة امام مجدها الوطني ونصرها التاريخي حين انحنى الرئيس الامريكي بين يدي حقها في الحرية والكرامة والاستقلال، واعترف بعظمة لسانه بهذا الحق الوجودي الذي انتزعته بقوة الصبر والكفاح لا بذل التسول والانبطاح، وايقظ – دون ان يدري – روح ارنستو جيفارا وروح هوغو شافيز للطواف ببشرى الانتصار على ارواح كل شهداء الثورة والحرية في عموم القارة البوليفارية.

حتى في ذروة التهديد الامبريالي لها والحصار المحكم من حولها، لم تتردد كوبا في اعتبار نفسها مشعلاً للحرية ومرجلاً للثورية ومعقلاً لحركة اليسار التقدمي في القارة البوليفارية، وها هي الايام تثبت ان القيادة الكوبية ”القومية” والبعيدة النظر قد انتصرت بهذه الحركات اليسارية فيما بعد قدر ما دعمتها وناصرتها فيما قبل، فلولا الانعطافة الوطنية والتحررية والديمقراطية التي شهدتها معظم دول امريكا اللاتينية منذ اوائل هذا القرن، لما ظفرت كوبا – ربما – بهذا الاعتراف الامريكي المبين، ولما اذعنت ادارة اوباما لارادة آل كاسترو.

وعليه.. فاننا نسجل للرئيس اوباما فضله، ليس في الاعتراف بكوبا والتعامل معها بل في الاعتراف بالحقيقة والتعامل مع الامر الواقع، ونحمد له حرصه، ليس على حقوق كوبا ومصالحها وتطلعاتها بل على مصالح ومطامح بلاده التي شد ما اعمتها الغطرسة الجوفاء، وادمتها الحروب الخاسرة، وافلستها المغامرات الرعناء والحمقاء، وآن لها ان تراجع حساباتها، وتعيد تقييم استراتيجيتها، وتثوب سريعاً الى رشدها، لان امام اوباما شوطاً طويلاً على طريق الاعتراف بالحقوق والحقائق العالمية الجديدة والتعامل معها بذهنية انفتاحية واستدراكية.. فماذا عن الحقائق والحقوق في باقي دول امريكا اللاتينية، وتحديداً في فنزويلا ؟؟ وماذا عن الحقائق والحقوق في اقاصي آسيا، وتحديداً في كوريا الشمالية ؟؟ وماذا ثم ماذا عن الحقوق والحقائق في الشرق الاوسط، وتحديداً حق تقرير المصير في فلسطين المصلوبة منذ عشرات السنين على مثلثات نجمة داود ؟؟

فاصل ونواصل، لكي نحاول ادراج ”الدرس الكوبي” في صميم المقرر الكفاحي الفلسطيني، ونستخلص منه قبساً ينير دربنا، وزخماً يضاعف عزمنا، وشاخصاً يصوب مسيرتنا، ويقيناً يعزز صبرنا، واملاً يوطد ثقتنا بانفسنا وبحتمية انتصارنا.. فالشعوب المنكوبة مثل شعبنا العربي الفلسطيني في اشد الحاجة الى استلهام اية تجارب كفاحية ناجحة، واستيعاب اية عبر ومواعظ وخبرات ثورية من شأنها التمكين من قهر العدو الصهيوني، والتسريع في تحرير التراب الوطني المحتل.

جميعنا نعرف ان لا وجه للمقارنة بين كوبا وامريكا في نواحي القوة العسكرية والمساحة الجغرافية والامكانات السياسية والاقتصادية والتكنولوجية، فكوبا محض جزيرة صغيرة محدودة ومحاصرة، بينما امريكا قارة شاسعة وقوة امبراطورية عظمى لا تغيب الشمس عن فيالقها وقواعدها واساطيلها المنتشرة في البر والبحر، ولا تكاد السماوات تتسع لمنظومات اقمارها التجسسية ومركباتها الفضائية التي تترصد دبيب النمل ليلاً ونهاراً في اربعة اقطاب الكرة الارضية.

اذن، بالمقاييس العادية والحسابات التقليدية والموازين الواقعية فالامور محسومة سلفاً وبالمطلق لصالح الكاوبوي الشرير، فلا امل البتة في انتصار السنونو الكوبي على الرخ الامريكي.. غير ان هناك معايير ومكاييل وحواسيب اخرى غير منظورة ”وفوق واقعية” يحسن ان تقاس بها كفاءات الشعوب وطاقتها وقدراتها وعبقرياتها.. اولها قوة الارادة الوطنية والروح المعنوية التي تعتبر ”ام القوى” المؤهلة لانتزاع الحقوق وتحرير الاوطان، مهما طال الزمان واختلت المعادلات.. وثانيها اكسير الشجاعة والشهامة والاستعداد العالي للتضحية والعطاء والفداء، وهو ما يضفي على الشعوب المكافحة هالة اسطورية، ويضيف اليها طاقات وقدرات ارتوازية واستثنائية لم تكن في الحسبان.. وثالثها الصبر الثوري البعيد المدى والمتعدد المراحل والمبرأ من التسرع والاستعجال وقصر الانفاس واللهاث خلف الفتات والجزئيات والكسور العشرية.. ورابعها قوة التفكير وسلامة التقدير وصوابية بوصلة الاتجاه ودقة الحساب الاستراتيجي وحسن ادارة الصراع مع الاعداء، بعيداً عن الانزلاق الى جحيم المغامرة، او الاذعان لسلطان الخوف، والفرار من ميدان المواجهة بادعاء ان ”ما باليد حيلة”.

”كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة باذن الله”.. أليس هذا هو دستور العرب والمسلمين الى يوم الدين ؟؟ أليست معارك اليرموك والقادسية وحطين وعين جالوت والكرامة وجنوب لبنان شواهد على الفئة القليلة التي هزمت جحافل الفئة الكثيرة والمتفوقة عدداً وعدة وعتاداً ؟؟

المهم اعتناق الصبر وادامة الصراع وتنويع اشكال المقاومة وترتيب البيت الداخلي وممارسة انجع اساليب القوة الخشنة حيناً والناعمة حيناً آخر، فكوبا لم تدخل معركة عسكرية مع الولايات المتحدة ولم تناطحها رأساً برأس، وانما داورت وناورت واتقنت فنون الالتفاف ووسعت دائرة المواجهة حتى شملت كل ارجاء امريكا اللاتينية، كما عرفت كيف تبني نفسها داخلياً وتسوق قضيتها العادلة خارجياً، وهو ما ضمن لها تأييداً عالمياً واسعاً.

اسرائيل ليست باقية.. ليست مؤهلة للاستمرار والاستقرار، فكل القراٌّءات التاريخية والشواهد الواقعية تشير الى انها حالة عابرة ومؤقتة مهما امتد بها الزمان، فهي صورة عصرية طبق الاصل عن الكيانات الصليبية التي انتشرت في بلادنا قديماً، فقد قامت مثل تلك الكيانات بحد السيف، كما انطلقت ظاهرياً من مزاعم دينية بينما هي جوهرياً موجة عنصرية احتلالية، ثم ظلت على مدى قرنين غريبة عن نواميس الشرق ودخيلة على المحيط العربي الذي استطاع آخر الامر ان يهزمها ويعيد تصديرها الى مصادرها.

اسرائيل، كما وصفها بعض مؤرخيها الجدد، مكان.. كيان.. مستودع وافدين لا دولة مواطنين.. ثكنة عسكرية وليست دولة دينية او مدنية، ولذلك فهي مضطرة ان تتحمل فوق طاقتها، وان تعيش حالة طوارئ دائمة، وان تستهلك ذاتها وتستنزف مقدراتها بسرعة قياسية.. وكلما زادت عليها الضغوط والمواجهات العربية والاقليمية والدولية ازداد حجم اعبائها، وارتفع منسوب المصاعب والتحديات التي تواجهها، واقترب يوم تشييع جثمانها الى مثواه الاخير.

اسرائيل التي تبدو للوهلة الاولى قوية وعفية وعنفوانية، تقف اليوم في مقدمة الدول والكيانات المهددة بالتفكك والمرشحة للزوال والمؤهلة – دون ان تدري او تريد – لمعاونة كل من يتقصد هزيمتها.. ذلك لان علتها تكمن في داخلها، ونقاط ضعفها تتمركز في صلب قوامها وعمق وجودها، فهي نبات شيطاني بلا جذور وبلا قدرة على التجذر في تربة مغتصبة، وهي لذلك مرغمة على استيراد نمائها وغذائها ودمائها واسباب بقائها من لدن حلفائها في القارات البعيدة، وعبر شبكة انابيب وشرايين وحبال سُرية طويلة ومتشعبة ومعرضة للانقطاع والتهتك في اية لحظة.

هذه اسرائيل التي قامت على هيئة ثكنة او قاعدة عسكرية منذ عام 1948 ما زالت عاجزة – وستبقى كذلك – عن الخروج من طبيعتها الحربجية، والافتراق عن روحها العنصرية الاستكبارية، والتكيف مع محيطها العربي وبيئتها المشرقية، رغم اوهام المصالحة والسلام التي عقدتها سراً وعلانية مع بعض العملاء الفلسطنجية والعربجية الذين تعرف انهم لا يمثلون شعوبهم، ولا يعبرون عن ارادتها، ولا يستطيعون اجبارها على رفع الراية البيضاء امام انجاس اليهود واحفاد داود.

طال المقال، وآن لنا ان نريح القارئ العزيز من عناء البحلقة والتحديق في عرائش الحروف المعلقة والمعتلة، وليس امامنا في نهاية المطاف الا الوقوف عند اثمن جواهر ”الدرس الكوبي” التي يتعين نقلها الى المقرر الكفاحي الفلسطيني، والتي تقضي بلزوم تخليق رؤية استراتيجية جديدة، وثقافة وطنية استنهاضية، وقيادة رائدة وراشدة لها صمود كاسترو وصبر مانديلا وبسالة هوشي منه، خلفاً للقيادة الحالية الراكدة والفاسدة والمكرسة، طوعاً او كرهاً، لخدمة مشاريع العدو ومخططاته !

 

 

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى