أنتجت التطورات والاحتجاجات التي حدثت في الوطن العربي في السنوات الأربع الأخيرة مشهدا وواقعا غرائبيا يصلح أن يكون مختبرا للكثير من الظواهر التي تحتاج الى معاينة وتحليل ، ووضعها أمام العقل بطريقة تتيح له استيعابها والمضي بها الى نتائج وخلاصات تجعلها قريبة من الفهم والاشتغال ، واستنتاج واستنطاق الدلالات وتوظيفها في ترتيب عقل الأمة واستنهاضها والدفع بها الى الحراك الايجابي والتقدم .
ما يجري في الواقع العربي يحتاج الى تعريفات وتعليلات واضحة تجعله في متناول العقل والفهم ، والتعريفات والمفارقات المرتبطة بها هنا قد تتعدد كثيرا نظرا لتعدد الرؤى واختلاف التصورات والقراءات ، ولكنها أصبحت في الآونة الأخيرة ومن خلال نتائج ما حدث وما أنتجه من فوضى تعريفات احباطية وسلبية تعتمد على النتائج السلبية والكارثية لما حدث ، ولا تتوقف كثيرا عند نقاط البداية الواعدة لما حدث ، وهذا مما يشوش الصور والتصورات ويحدث القطيعة والتنافر والتناقض في التحليلات ويأخذها الى مساحات تزيد العماء عماءا ، وتؤجج فوضى التحليل ، ويحول دون الفهم الصحيح لما جرى ويجري .
في لحظة معينة استندنا الى كليات فكرية وقلنا أنه مخاض عربي جديد يجري في سياق التحولات التاريخية التي يشهدها الوطن العربي ، وفي المخاض واشتعالاته لابد من تعرجات وانسدادات قد تجعله فوضى وانفلاشات يتعذر فهمها والامساك بحقائقها ومعانيها ودلالا تها ، وأن لا بد من خلال هذا التصور من تاريخ طويل مكتمل ومتكون حتى نحكم على المخاض أنه ايجابي ونهضوي يحقق أهداف الأمة أو يعرقلها ويضاعف اعضالاتها ، أو قد يفضي الى حالة ومرحلة جديدة من النهوض والتغيير الى الأفضل ، ذلك أن الاعتماد على تاريخ مباشر لا يزال في طور التكون والتحول وانتاج المصائر لا يكفي ليكون مساحة التحليل المناسبة لاستقراء واستنباط النتائج والمعاني والدلالات الراسخة والأكيدة .
أما التحليلات الجزئية والمتسرعة التي انغمر واستغرق فيها البعض فقد سرّعت في ظهور أنماط من الفهوم الخاطئة والتحليلات التي تأسست على نقص في الرؤية وأحيانا على فساد في الفهم والحكم ، وأدخلت عنصرا جديدا في فوضى التحليلات الارتجالية التي باعدت بين المواطن العربي وبين تمكينه من فهم واقعه والانخراط ايجابيا وجديا في تحولاته وعملية صنع تاريخه ، وكان لذلك نتائج لا تعد ولا تحصى على صعيد تعقيد عملية فهم لحظة تاريخية عربية انبجست ذاتيا بمواجهة الاستبداد والانسداد ، وكادت أن تفتح أفقا في هذا الانسداد والاستعصاء التاريخي الطويل والمؤسي ، وحالت دون بروز الدلالات الايجابية التي يمكن للمواطن العربي أن يؤسس على هديها برامج نضاله وتحركاته نحو التغيير والنهضة .
ووجدنا أنفسنا الآن في اللحظة العربية الراهنة المعقدة أمام مشهد فكري – سياسي مضطرب عصيّ الى حد كبير على التحليل والمساءلة يكاد لا يعرف فيه الخيط الأبيض من الأسود ، ويحتاج الى قدرات تحليلية مركبة ومعقدة لكي تفك طلاسمه وعماءاته . كما أنه أصبح يتطلب عمليات تفكيك متواصلة لعناصره حتى تتاح لنا امكانية فهم أبعاضه ومفرداته ودمجها لاحقا في سياق واحد يشكل خلاصة فهمنا الواقعي له ولمعانيه المتعددة والمتناقضة .
ونحن نعيد ذلك في كل الأحوال الى غياب واضح ومزمن للعقل ، وتغييب واستلاب للانسان العربي ، وانهدام وتخلف لمراكز انتاج المعرفة والأفكار ، وسياسات الاستبداد والتجهيل التي مورست على مدار عقود طويلة ، وأنتجت هذه العشوائيات في العقل والواقع العربي ، وجعلت هذا الواقع مبهما ومعقدا يستعصي على التحليل ، وموقدا ملتهبا لانتاج واطلاق شرارات التناقضات والتصارع في مداراتها ومن خلالها ، وأدى ذلك الى هذا الاستعصاء المؤرق .
والأنكى من كل ذلك أننا أصبحنا لا نجد الآن العنوان المناسب لتوجيه أي نداء من نداءات العقل والتحذير والاستنهاض ، فالكل العربي يدير ظهره الآن كما يبدو لنداءات العقل أو يراها من سقط المتاع ، وعاد الكل الى سياسات ” أنج سعد فقد هلك سعيد !! ” وتلك حالة فكرية – سياسية لافتة حد الألم ، والأصعب من كل ذلك تلك النداءات التي تطلق الآن على كل الألسنة لتمجيد الماضي الاستبدادي الأسود والعودة اليه فكرا وواقعا تحت عنوان > ليس با لامكان أحسن مما كان <! وتلك في معايير الفكر والنهضة سقطة وسقوط يستدعي القلق والشقاء الفكري مرة أخرى !!
في ذكرى رحيله الـ ٥٣ .. قراءة في حيثيات “العروة الوثقى” بين عبد الناصر وجماهير الشعب العربي
بعض الناس يشبهون الوطن، إن غابوا عنا شعرنا بالغربة (نجيب مح... إقرأ المقال