اشكاليات تحليل الواقع العربي الراهن

بقلم : اسماعيل أبو البندورة

أنتجت التطورات والاحتجاجات التي حدثت في الوطن العربي في السنوات الأربع الأخيرة مشهدا وواقعا غرائبيا يصلح أن يكون مختبرا للكثير من الظواهر التي تحتاج الى معاينة وتحليل ، ووضعها أمام العقل بطريقة تتيح له استيعابها والمضي بها الى نتائج وخلاصات تجعلها قريبة من الفهم والاشتغال ، واستنتاج واستنطاق الدلالات وتوظيفها في ترتيب عقل الأمة واستنهاضها والدفع بها الى الحراك الايجابي والتقدم .
ما يجري في الواقع العربي يحتاج الى تعريفات وتعليلات واضحة تجعله في متناول العقل والفهم ، والتعريفات والمفارقات المرتبطة بها هنا قد تتعدد كثيرا نظرا لتعدد الرؤى واختلاف التصورات والقراءات ، ولكنها أصبحت في الآونة الأخيرة ومن خلال نتائج ما حدث وما أنتجه من فوضى تعريفات احباطية وسلبية تعتمد على النتائج السلبية والكارثية لما حدث ، ولا تتوقف كثيرا عند نقاط البداية الواعدة لما حدث ، وهذا مما يشوش الصور والتصورات ويحدث القطيعة والتنافر والتناقض في التحليلات ويأخذها الى مساحات تزيد العماء عماءا ، وتؤجج فوضى التحليل ، ويحول دون الفهم الصحيح لما جرى ويجري .
في لحظة معينة استندنا الى كليات فكرية وقلنا أنه مخاض عربي جديد يجري في سياق التحولات التاريخية التي يشهدها الوطن العربي ، وفي المخاض واشتعالاته لابد من تعرجات وانسدادات قد تجعله فوضى وانفلاشات يتعذر فهمها والامساك بحقائقها ومعانيها ودلالا تها ، وأن لا بد من خلال هذا التصور من تاريخ طويل مكتمل ومتكون حتى نحكم على المخاض أنه ايجابي ونهضوي يحقق أهداف الأمة أو يعرقلها ويضاعف اعضالاتها ، أو قد يفضي الى حالة ومرحلة جديدة من النهوض والتغيير الى الأفضل ، ذلك أن الاعتماد على تاريخ مباشر لا يزال في طور التكون والتحول وانتاج المصائر لا يكفي ليكون مساحة التحليل المناسبة لاستقراء واستنباط النتائج والمعاني والدلالات الراسخة والأكيدة .
أما التحليلات الجزئية والمتسرعة التي انغمر واستغرق فيها البعض فقد سرّعت في ظهور أنماط من الفهوم الخاطئة والتحليلات التي تأسست على نقص في الرؤية وأحيانا على فساد في الفهم والحكم ، وأدخلت عنصرا جديدا في فوضى التحليلات الارتجالية التي باعدت بين المواطن العربي وبين تمكينه من فهم واقعه والانخراط ايجابيا وجديا في تحولاته وعملية صنع تاريخه ، وكان لذلك نتائج لا تعد ولا تحصى على صعيد تعقيد عملية فهم لحظة تاريخية عربية انبجست ذاتيا بمواجهة الاستبداد والانسداد ، وكادت أن تفتح أفقا في هذا الانسداد والاستعصاء التاريخي الطويل والمؤسي ، وحالت دون بروز الدلالات الايجابية التي يمكن للمواطن العربي أن يؤسس على هديها برامج نضاله وتحركاته نحو التغيير والنهضة .
ووجدنا أنفسنا الآن في اللحظة العربية الراهنة المعقدة أمام مشهد فكري – سياسي مضطرب عصيّ الى حد كبير على التحليل والمساءلة يكاد لا يعرف فيه الخيط الأبيض من الأسود ، ويحتاج الى قدرات تحليلية مركبة ومعقدة لكي تفك طلاسمه وعماءاته . كما أنه أصبح يتطلب عمليات تفكيك متواصلة لعناصره حتى تتاح لنا امكانية فهم أبعاضه ومفرداته ودمجها لاحقا في سياق واحد يشكل خلاصة فهمنا الواقعي له ولمعانيه المتعددة والمتناقضة .
ونحن نعيد ذلك في كل الأحوال الى غياب واضح ومزمن للعقل ، وتغييب واستلاب للانسان العربي ، وانهدام وتخلف لمراكز انتاج المعرفة والأفكار ، وسياسات الاستبداد والتجهيل التي مورست على مدار عقود طويلة ، وأنتجت هذه العشوائيات في العقل والواقع العربي ، وجعلت هذا الواقع مبهما ومعقدا يستعصي على التحليل ، وموقدا ملتهبا لانتاج واطلاق شرارات التناقضات والتصارع في مداراتها ومن خلالها ، وأدى ذلك الى هذا الاستعصاء المؤرق .
والأنكى من كل ذلك أننا أصبحنا لا نجد الآن العنوان المناسب لتوجيه أي نداء من نداءات العقل والتحذير والاستنهاض ، فالكل العربي يدير ظهره الآن كما يبدو لنداءات العقل أو يراها من سقط المتاع ، وعاد الكل الى سياسات ” أنج سعد فقد هلك سعيد !! ” وتلك حالة فكرية – سياسية لافتة حد الألم ، والأصعب من كل ذلك تلك النداءات التي تطلق الآن على كل الألسنة لتمجيد الماضي الاستبدادي الأسود والعودة اليه فكرا وواقعا تحت عنوان > ليس با لامكان أحسن مما كان <! وتلك في معايير الفكر والنهضة سقطة وسقوط يستدعي القلق والشقاء الفكري مرة أخرى !!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى