حين تتعب فلسطين من تاريخها وتخجل من مهازل قادتها

اقسم بالله اننا قد سئمنا ومللنا وزهقنا، وحتى قرفنا، هذا المسلسل السخيف من المناكفات والمهاترات والتراشق بالشنائع والفظائع والاتهامات الجاري، منذ بضع سنوات، بين حركتي فتح وحماس، او سلطتي ”الحكم الذاتي” في رام الله ”والامر الواقع” في غزة.
سئمنا لعبة الحب والحرب في سرير واحد.. الصيف والشتاء على سطح واحد.. التقارب والتباعد في وقت واحد.. المصالحة يوماً والمقابحة في اليوم التالي.. التغني بالوحدة الوطنية امام عدسات التلفزيون ثم المسارعة الى وأدها ولعنها وتمزيق اوصالها خلف الكواليس وفي الغرف المغلقة.
نعرف اننا نعيش ارذل الزمان.. زمان الغرائب والعجائب.. زمان الدواعش والفواحش.. زمان الاقوال المعسولة والافعال المرذولة، ولكن قضية فلسطين يجب ان تبقى فوق كل هذه الكوارث والبلاوي والدونيات، بالنظر الى انها كانت وما زالت قضية العرب المركزية، وحاضنة الاقصى والقيامة، وبؤرة التصادم التاريخي بين المشروع القومي العربي، والمشروع العدواني الصهيوني.
نعرف الفرق بين حركة حماس المجاهدة رغم اختلافنا مع بعض مواقفها، وبين حركة فتح المتقاعدة رغم احترامنا لشطر من تاريخها، ولكن من العار ان تنحدر قضية فلسطين – في عهدهما – الى هذا الدرك من المذلة، وان تتحول الى كرة تتقاذفها القوى والاقدام والمحاور الاقليمية والدولية، وان تنصرف الجهود عن هدف التحرير واقامة الدولة المستقلة الى تحصيل المعونات، وتدبير الرواتب، وترتيب المقالب، وتوطيد التنسيق الامني مع دولة الاحتلال.
منذ بداياتها قبل قرن ونيف لم تهن قضية فلسطين على قياداتها وزعاماتها كما تهون هذا الاوان، ولم تفقد هالة القداسة وتغرق في وحول السياسة والنجاسة والنخاسة مثلما يحدث في الوقت الحاضر، ولم يهجرها شبانها، بتأثير وتضليل الاعلام الوهابي، للقتال خارج ساحتها وحدود خارطتها مثلما يجري حالياً، حيث يتقدم ”جهاد المناكحة” في الرقة والرمادي وسيناء على واجب المكافحة ضد العدو الصهيوني الغاصب للارض والعرض والمصير الفلسطيني.
يا لبؤس الفصائل الفلسطينية كافة حين تهزمها عصابات داعش والنصرة في عقر دارها، وفي صميم شعبيتها، وفي مبرر وجودها، وفي درجة حضورها وحجم تأثيرها ونفوذها، سواء عند جماهيرها في الداخل المحتل عامي النكبة والنكسة، او في المخيمات واماكن الشتات المرمية على خارطة العالم.. فالمقاومة والتحرير والعودة وباقي شعارات وادبيات منظمة التحرير الفلسطينية لم تعد اولوية لدى قطاع عريض من ابناء القضية الرازحين تحت نير الاحتلال والمشردين في ديار الغربة، بعدما تعددت الاختراقات في جدران المشروع الوطني الفلسطيني، على ايدي الجماعات الارهابية، والدوائر الاستخبارية، ومراكز التمويل الاجنبي التي تلتقي جميعها على اجندة واحدة تتضمن خلط الاولويات وتشويش الاذهان وبعثرة الاهداف وتمزيق الصفوف واضعاف الروح الوطنية والدافعية الكفاحية.
المحزن حد الوجع، ان هذا التيه الشعبي الفلسطيني، والانقسام ما بين المعتقد الديني والانتماء الوطني، والانفطام عن حلم التحرير وزهو الكفاح المسلح، والانغماس في الحرب الاهلية الاعلامية والسياسية بين فتح وحماس، تأتي في اسوأ الاوقات، واحلك الظروف، واخطر مراحل تصفية القضية الفلسطينية.. فالعدو الليكودي والتلمودي يغتنم كل لحظة لفرض مخططه الاجرامي في تهويد القدس وتطويق الاقصى وزرع الضفة بالمستوطنات، ووضع العالم كله امام ”يهودية الدولة” باعتبارها قدراً نافذاً وامراً واقعاً لا يقبلان المناقشة.
يهودية الدولة، او الدولة اليهودية لا تمثل، في حال تحققها، عدواناً عنصرياً فادحاً على الجغرافيا والديموغرافيا في فلسطين وحدها، بل تشكل تهديداً جدياً واستراتيجياً لمصر ودول الهلال الخصيب المبتلاة حالياً بالفتن والدواعش والاستنزاف المبرمج، والمدرجة – امريكياً وصهيونياً – على لوائح التقسيم والتفكيك والتوطين والتهجير والتبديل السكاني والمكاني على غير صعيد، وكلما سنحت الفرص وتهيأت الشروط.
اما دول مجلس النفط الخليجي التي باتت تتشكك في نوايا الحليف الامريكي، وتتحسب من عواقب الغزل غير العذري بين واشنطن وطهران، فقد باشرت هجرة امنية جماعية الى مرابع تل ابيب، واقامت سلسلة من العلائق السرية وشبه العلنية معها حتى قبل قيام ”الدولة اليهودية”، وعقدت العزم على الاستقواء بها لردع المخاطر والتهديدات الايرانية في قادمات الايام.. وطز في فلسطين وناسها ومقدساتها.
ولكن كيف يمكن ان نلوم دولاً عربية مشرقية تحترق بنار الفتن، واخرى خليجية ترتجف من الخوف، لانها ادارت الظهر لقضية فلسطين، ما دام ابناء القضية انفسهم قد فرطوا فيها، واصطرعوا حولها، وانشغلوا عنها باوهام السلطة، واكوام الفساد، وشهوات المال الحرام، وآثام الالتحاق بالمحاور الاقليمية والدولية، وموبقات التنسيق الامني مع العدو، وعمليات الملاحقة الدائمة لشبان المقاومة والانتفاضة والعمل الثوري.
يتملكنا العجب قبل الغضب، حين نشاهد بام العين ونسمع بطبلة الاذن، كيف تحول الفدائيون والثوار ورجال المقاومة الذين زايدوا يوماً على جمال عبد الناصر، الى حثالات من الاوغاد والعملاء واللصوص.. وكيف انقلبوا من مكافحين الى منبطحين، ومن اعداء للعدو المحتل الى جلاوزة وسماسرة يتحكمون في رقاب العباد واقدار البلاد، ويتفوقون في ظلمهم وجورهم على ابشع واشرس الحكام العرب.
الغريب ان هؤلاء الاوغاد حالياً والثوار سابقاً قد صادموا اسرائيل وتصدوا لها ببسالة فائقة، وهي في عز قوتها وسطوتها قبل اربعة عقود، ثم ما لبثوا ان استسلموا لها وسلموا بوجودها وفتوحاتها، بعدما ثبت ضعفها، وظهرت على الملأ نقاط هزالها وارتخاء مفاصل جيشها الذي هزمته المقاومة اللبنانية مرتين في العقد الماضي، وناددته المقاومة الفلسطينية باقتدار في قطاع غزة وردت له الصاع صاعين بالامس القريب.
هذا في ميدان المواجهة القتالية، اما على صعيد السياسة الدولية، فلا شك ان هناك تحولاً ملحوظاً في توجهات الرأي العام الاوروبي لصالح الحقوق الفلسطينية المغتصبة، وضد العنطزة الليكودية التي لم تعد تقيم وزناً للمجتمع الدولي والامم المتحدة، رغم ان اسرائيل صنيعة هذا وتلك، فلولا القرارات الدولية الجائرة ثم الدعم الاسطوري الذي قدمته اوروبا وبعدها امريكا للصهاينة، لما قامت هذه الدولة الباغية، ولما بقيت قائمة حتى الآن، ولما اختال نتنياهو تيهاً وعربد وتمرد.
وعليه.. فالسؤال المطروح على بساط الجدل.. ما العمل؟؟ وكيف السبيل الى المخرج من هذا الوضع الآسن والخانق ؟؟
يصعب على العواجيز من امثالنا الذين عاصروا عبد الناصر وبن بيلا وبومدين وعارف وصدام والاسد، ان يجترحوا اجابة وردية وتفاؤلية عن هذا السؤال الاستراتيجي، فالاحوال الفلسطينية والعربية الراهنة بالغة البؤس والرثاثة، ومعتمة حد انعدام الرؤية والاستشراف، ومخيبة للحد الادنى من المطامح والاشواق والآمال.. فلا امل – في المدى المنظور – لتكاتف جدي وحقيقي بين حركتي فتح وحماس، ولا مكان لحل سياسي مع العدو يسفر عن اقامة دولة فلسطينية مستقلة حقاً وصدقاً، ولا وجود لشروط استئناف المقاومة المسلحة – وهي اللغة الوحيدة التي تفهمها اسرائيل – من الداخل والخارج، ولا مجال لاستحضار ”قوة فعل” عربية ما دامت مصر مضطربة، وسورية مشتعلة، والعراق منقسمة، والجزائر منعزلة، والسعودية محتقنة ومرتبكة.
نعم.. الصورة قاتمة، والمشهد سوداوي ومأساوي، والوضع يحتاج الى نمط نضالي آخر لم يتوفر بعد.. ولكن الامم العريقة مثل امتنا العربية لا تعرف اليأس، ولا تفقد الثقة بالنفس، ولا تذعن امام العواصف والاهوال، بل تراهن على عبقريتها التاريخية، وتستنفر قواها الكامنة، وتفاجئ العالم من حيث لا يحتسب.. فقبل انتصار الثورة الجزائرية اوائل عقد الستينات لم يكن احد يتصور انسحاب فرنسا ديجول من ”شقها الافريقي”، وقبل انتصار حزب الله عام الفين لم يكن احد يتخيل ان الجيش الاسرائيلي قابل للانكسار والانقهار والاندحار، وقبل انتفاضة الحجارة عام 1987 لم يكن احد يتوقع ان يبدع الشعب الفلسطيني هذا الشكل الباسل والمبتكر من اشكال النضال الذي زلزل اسرائيل، واوشك على اقتلاع الاحتلال، لولا شلال الماء البارد الذي سكبه على جذوة الانتفاضة اتفاق اوسلو الملعون.
من حق القارئ ان يعتبر هذا الكلام غيبياً لا واقعياً.. رومانسياً لا سياسياً، طوباوياً وليس علمياً قابلاً للصرف في ميدان التطبيق، ولكن صدقوني ان الكتابة عن فلسطين لا تُقنع او تُمتع الا بالحروف الصوفية، والنقاط الرومانسية، والمقاطع الشاعرية، والفواصل النورانية.. ففلسطين، في ضمائر ابنائها الشرفاء ”الغرباء”، ليست تراباً وصخراً ونهراً وبحراً، بل هي قصيدة، انشودة، زغرودة، فردوس سماوي، حالة وجدانية، قبلة سماوية على جبين الكرة الارضية، وهمزة وصل بين الدنيا والدين والوطن، فاذا فقدت قداستها لدى اهلها فقدت اهميتها ومكانتها وعذريتها بين البشر، واصبحت عقاراً قابلاً للمساومة والسمسرة والمتاجرة والضرب والطرح والقسمة.
كم كانت لحظة استشهاد المناضل زياد ابو عين ملحمية وتراجيدية طالعة من الاساطير الاغريقية، الا ان كلماته التي سبقت سكون انفاسه حملت ابلغ دروس الواقعية السياسية والتجربة التفاوضية، حين قال في وصف الجيش الصهيوني : ”هذا جيش ارهابي لا يفهم لغة اغصان الزيتون، وانما يفهم فقط لغة القوة والمقاومة”.
نعم، لقد اغتالته اليد الصهيونية، ولكنها استقوت عليه بسلاح الذل والتخاذل والتنازل والتواكل لدى المتكالبين على مزبلة السلطة الذاتية في رام الله !!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى