مطلوب من الحكومة اعادة قراءة الواقع المجتمعي بوعي يقود لاستعادة ثقة الناس بها
كتب ساطع الزغول
كشفت ردود الفعل الرسمية والمجتمعية على قضية حفرية عجلون التي شغلت الرأي العام خلال النصف الثاني من شهر ايلول الماضي وما بعد عن ارتباك اعلامي وسياسي ناجم عن غياب الشفافية والتنسيق بين مختلف الدوائر والمؤسسات الرسمية، ما نجم عنه قرارات مرتبكة تفتقد الى المصداقية والقبول الشعبي، ونقص في تقصي المعلومات وتمحيصها وتحليلها، وصعوبة في الوصول الى المعلومة، والاستسهال في نقل الخبر من جانب الوسائل الاعلامية الورقية والالكترونية والاذاعية والمتلفزة التي تصدت لهذا الموضوع.
وقد كشفت القضية أيضا ان عدم تدفق المعلومات حولها منذ اللحظة الاولى قد اماط اللثام عن هوة ثقة عميقة تفصل بين مكونات الدولة – الحكومة من جهة والجماهير من جهة ثانية -، وان غياب المعلومة المقنعة قد فتح الباب واسعا امام اشكال والوان من المعلومات والاخبار ذات الاهداف المتباينة، منها ما هو تضليلي غايته صرف انظار الناس عن احداث اكثر اهمية وخطورة يتزامن وقوعها مع ذات الحدث، وآخر تحريضي، وثالث تعبوي، ورابع مقياسي يأتي على صورة بالون اختبار لقياس ردود فعل الفئة او الجهة المستهدفة حيال أمر ما بقصد استكناه آلية رد فعلها والبناء في مواجهتها او عليها.
العديد من المراقبين أكدوا ان غياب التنسيق بين الدوائر الرسمية، اوقع هذه الدوائر – والحكومة من ورائها حكما – في فخ ثقافة التستر والتضليل رغم الفضاء الواسع الذي يتقاطع فيه الاعلام الالكتروني مع وسائل التواصل الاجتماعي التي وفرتها شبكة الانترنت، ما يعني ان المواطن تحول من متلقٍ للخبر الى مصدر اخباري او مراقب يسخر الصوت والصورة لايصال وجهة نظره او معلومته.
في ظل التلكؤ الرسمي بإعلان حقيقة الامر انقسم الناس الى فريقين، الاول صدق الرواية الرسمية المتدرجة والمتباينة لكنه افتقد الالية الاقناعية التي تساعده على تدعيم موقفه، والثاني غير المصدق لها، وبين هذا وذاك استغل طرف ثالث الفرصة لضخ ما شاء من الاشاعات والروايات التي استهدفت الحكومة لدرجة اتهامها بالتضليل، ما جعل الامر يتحول الى قضية رأي عام ساهمت مواقع التواصل الاجتماعي بالنفخ فيها وتضخيمها، وتناولت المواقع الاخبارية مخرجاتها وكأنها تحصيل حاصل.
في هذا السياق رصد مراقبون تداول نحو 3200 مادة اخبارية عن موضوع الحفرية خلال الفترة ما بين 30-19 ايلول الماضي، بينما نشرت الصحف اليومية حوالي 60 مادة اخبارية عنه في ذات الفترة، كما نشرت نحو 25 مقالا تناولت الموضوع من اوجه ووجهات نظر عديدة.
وقال هؤلاء الخبراء ان الموضوع الهب خيال العديد من الاشخاص الضالعين في التعامل مع شبكة الانترنت، فنسخوا صورا لكنوز وصناديق وآثار عن مواقع الكترونية أخرى وقدموها على انها بعض اللقى التي عثر عليها الحفارون في الحفرية العجلونية، وقد عززت هذه الصور الرواية الشعبية التي تناقلها المواطنون في الوقت الذي كانت فيه الرواية الرسمية غير متماسكة ما ساهم بدوره في تعميق فجوة عدم الثقة بما تقوله الحكومة.
وصول القصة الى البرلمان وقيام لجنة النزاهة والشفافية النيابية بتوجيه اسئلة الى الحكومة لتبيان الحقيقة دفع الصحف ومحطات التلفزة الى تناول الموضوع من زوايا وابعاد مختلفة، ما دفع وزير الداخلية الى التصريح خلال اجتماعه بلجنة النزاهة والشفافية قائلا بأن اعمال الحفر كانت عبارة عن اجراءات عسكرية خاصة لغاية انشاء منظومة اتصالات ورادارات وانذار مبكر تربط قيادة الجيش بالمنطقة العسكرية الشمالية.
بالمقابل نشرت مواقع على شبكة الانترنت شريط فيديو سبق نشره خلال العام الماضي يتحدث فيه شخص يقدم نفسه كصائد آثار فرنسي عن كنوز الاسكندر المقدوني الموجودة في الاردن، ما جعل تصريحات الوزير غير ذات بال، حيث تراجعت فرص تصديقها بدرجة كبيرة، امام ذلك الشريط الذي اشعل الخيال الشعبي المسكون اصلا بقصص اللقى والذهب المدفون بباطن الارض ووسط الاثار، وبالتالي تراجعت كل القضايا الاخرى سياسياً وامنيا واجتماعيا واقتصاديا، واصبحت قضية الحفرية هي العنوان الاول الذي يتصدر الاجندة الشعبية.
ويقول المراقبون ان الخطير في الامر هو ان الاوساط الشعبية ومعها وسائل الاعلام انشغلت كليا بهذا الموضوع وتراجع ما هو اخطر من ذلك بكثير مثل الحرب المجهولة المصير التي تخاض ضد تنظيم داعش، وبالتزامن مع قيام مجلس النواب بمناقشة حزمة من اخطر التشريعات المؤثرة في حياة المواطنين مثل قانون ضريبة الدخل وقانون استقلال القضاء، ما يدفع الى التساؤل عما اذا كان هذا التزامن محض صدفة ام انه بفعل فاعل، وهل كانت الغاية من تضخيم حكاية الحفرية واحاطتها بكل هذه الاثارة والدراما هو الحصول على ستار دخاني للتغطية على امر آخر يراد تمريره بصورة ما؟
ويقولون ان الاغراق في الاشاعات التي شهدتها البلاد يعود اولا الى غياب المعلومات الرسمية ثم الى تناقضها وعدم تماسكها، ما يكشف عن حجم الاخلال الرسمي بحق المجتمع في الحصول على المعلومات، وثانيا الى عدم التزام الوسائل الاعلامية بالقواعد المهنية واستسهال المعرفة على حساب الدقة وعدم التحقق من الاخبار والمعلومات والصور من جانب المواقع الاخبارية والصحف الاسبوعية تحديدا، ولقد كشف السجال الذي احتدم في تلك الفترة عن انهيار في صدقية الحكومة وعدم الثقة بما تصرح به او تدعيه وبالتالي فان السؤال الذي يفرض نفسه هو : ماذا كان يضير الاجهزة المعنية لو انها اعلنت مسبقا للسكان المحليين عن نيتها اجراء حفريات في الموقع طالبة منهم الابتعاد عن منطقة العمل، لكنها – وربما من باب الاستخفاف بحق الناس في الحصول على المعلومة – قامت بتنفيذ العمل في ساعات الليل المتاخرة، ما اضفى شكوكا على نواياها حيث كانت هذه الشكوك هي الحاضنة الاساس التي فرخت فيها الاشاعات التي تداولها الناس، بسوء او حسن نية لا فرق.
ثمة مراقبون نظروا الى الموضوع من زاوية مختلفة فقالوا ان ضيق الحال عند الناس وصل بهم حد التعلق بأوهام الكنوز والذهب المدفون املا في الخلاص من واقعهم المعيشي الصعب، كما انه يعكس مشاعر دفينة واحلاما عريضة تملأ قلوب الناس ويأملون في تحقيقها حالما يحصلون على حصتهم من الذهب، وهذا يعني انه لم يعد هناك من يراهن على العمل والعلم والمنافسة لتحقيق الذات بعد ان تحطمت امال الناس وليس هناك وسيلة لانتشالهم من قعر البئر سوى لقى مدفونة من غابر الازمان.
حفرية عجلون، او كنوز الاسكندر، او تفجيرات هرقلا، وكلها اسماء لمسمى واحد، تطرح سؤالا يقول: ما هو سبب عدم ثقة المواطن بتصريحات المسؤول ؟؟ وهل بذلك هو وجود تجارب سابقة اثبت فيها المسؤول انه ”غايب فيلة” وان جرابه فارغ وتنقصه المعرفة اللازمة للاجابة عن تساؤلات الشارع حول اي قضية من القضايا التي تقلقه ؟؟
المراقبون الذين رصدوا ومحّصوا مجريات الامور طيلة الاسابيع الثلاثة التي تصدرت فيها اخبار الحفرية المجالس ووسائل الاعلام والتواصل الاجتماعي، قالوا ان ثمة من كان يعمل على تعميق انعدام الثقة بين المواطن والمسؤول على ما في ذلك من خطورة قد تنسحب على العلاقة بين الطرفين في قادم الايام، وهو امر يجب التوقف عنده والعمل على تجنبه بشتى السبل.
مما تقدم يتبين ان ابرز ما يدفع هذه المخاطر هو قيام اركان الحكومة وكبار المسؤولين بقراءة الواقع المجتمعي قراءة واعية تقودهم الى تصحيح الاخطاء، وسد الثغرات والهفوات، واستعادة ثقة المواطن لان انعدام الثقة ستكون له عواقب لا تحمد عقباها.
وبالمجمل فان ردود الفعل على قضية الحفرية يجب ان تشكل درساً مهماً للدولة الاردنية في معالجة موضوع المعلومات العامة بوصفها خقا للمجتمع بعيدا عن التضليل، وايضا الحاجة الى تطوير الاعلام الرسمي ليكون اعلام خدمة وطنية يتحدث بلسان الدولة والمجتمع معا وليس اعلاما حكوميا ابرز مهامه التطبيل والتزمير.