انـهيـار جبـهـة قـومـيـة كـاملـة اسـمهـا حسين مجـلي !!

جزى اللهُ عني ”صالحا” بوفائهِ                واجزلَ اضعافاً له في جزائهِ

بلوتُ رجالاً بعده في إخائهم                  فما ازددتُ الا رغبةً في اخائهِ

صديقٌ اذا ما جئتُ أبغيهِ حاجةً                   رجعتُ بما ابغيْ ووجهي بمائهِ

(ابو العتاهية)

بغير وداع ودون مقدمات او مؤشرات، رحل المحامي حسين مجلي، مؤذن القومية العربية وفارسها وحارسها.. اختار لموته اسهل الطرق واسرعها، واسلم الروح الى بارئها دون مكابدة وتوجع وعناء، ثم غادر ردهات الحياة واقفاً كما السنديان.. خفيفاً لطيفاً مرهفاً كما لو انه وميض خاطف او طيف عابر.

التحق ”ابو شجاع” بركب رفاقه من كبار المفكرين والمناضلين القوميين الراحلين.. عبدالله الريماوي، وسليمان الحديدي، ومنيف الرزاز، وامين شقير، وحمد الفرحان، وبهجت ابو غربية الذين صدقوا ما عاهدوا امتهم عليه، وما بدلوا تبديلا.

برحيل هذا الرمز الشامخ والطود الناصري الراسخ فقدت امتنا جامعة قومية كاملة، وخسرت جبهة نضالية باسلة.. فقد كان في واقع الامر جبهة لا رجلاً، وحشداً لا فرداً، واغلبية لا اقلية.. مصداقاً لقول الامام علي : ”ان صوتاً واحداً شجاعاً.. اكثرية”.

هذا المناضل الراحل كان مراهناً عنيداً على عبقرية امته، وكان حالماً كبيراً بخصوص مصيرها ومستقبلها، فهو لم ينفطم عن حلم الوحدة العربية حتى في احلك الاوقات، ورغم انه قد شارف على الثمانين من العمر.. ذلك لانه ينتمي الى رعيل عروبي اصيل يندر تعويضه، ويصعب نسيانه، ويتعذر على دنيا العرب الموبوءة بالدواعش المهووسين والحكام المتأمركين، ان تجود بامثاله من القابضين على جمر المبادئ، والثابتين على خط الوحدة والحرية والاشتراكية.

الكثيرون لم يفهموا هذا الرجل.. حسبوه جامداً او معانداً او مزايداً، فهو – عندهم – يؤذن في مالطا، ويبشر بوحدة الامة فيما هي تتمزق الآن شيعاً وقبائل وامارات، ويراهن على صحوة قومية وسط كل هذه الفتن والمذابح والحرائق الجهوية والطائفية والمذهبية.. لم يدرك هؤلاء ان ”ابو شجاع” الذي ساهم في مسيرة الجمهورية العربية المتحدة من خلال عمله كضابط في جيشها، ما زال يحتفظ بحلم الوحدة العربية ناصعاً لا تشوبه شائبة، ويحافظ على رومانسية المشروع القومي التقدمي في مواجهة هذا الغثاء الرث من انماط ”الواقعية السياسية” والتوحش الارهابي.

كان ”ابو شجاع” رجل قانون فذ، فهو استاذ في فن المرافعات الحقوقية، واولها المرافعة الدائمة عن قضايا الامة العربية ووحدتها القومية.. كان عقائدياً بامتياز وصاحب مواقف قاطعة وحاسمة كحد السيف، فلا وجود في حياته ومعتقداته للوسطيات والرماديات وانصاف الحلول، ولا مكان في اجنداته وقناعاته للمجاملات السياسية والعلاقات العامة على حساب المبادئ والاخلاق والشرف القومي، ولعل في هذا ما خلق له الكثير من الخصوم والحاقدين والحاسدين الذين عجزوا عن مجاراته ومباراته والتكافؤ معه.

اما مشاركته في حكومة البخيت التي اخذها عليه بعض الصيادين في الماء العكر، فهي في الحق والحقيقة مما يُحسب له ولا يُحسب عليه، فهو لم يدخل الوزارة لذاتها او الانتفاع منها، والا لكان قد توزرن في حكومة صديقه زيد الرفاعي، او بلدياته مضر بدران، او زميله في مجلس النواب طاهر المصري الذي وزرن المحاميين القوميين سليم الزعبي، ومحمد فارس الطراونة.. وانما دخل حكومة البخيت التي خلفت حكومة سمير الرفاعي المخلوعة، للمساهمة في تجنيب البلاد شرور ”الربيع العربي”، وفي تطوير ودمقرطة النظام من داخله وبالتراضي والتوافق مع شعبه، وفي توفير الظروف والمبررات والحيثيات الكفيلة بالافراج عن السجين البطل احمد الدقامسة.

ربما كان ”ابو شجاع” من بين الوزراء القلائل جداً في تاريخ الاردن الذين تم ترشيحهم من الملك شخصياً، واستمزاجهم من قبل الديوان الملكي وليس رئيس الوزراء المكلف، فقد تولى ناصر اللوزي، رئيس الديوان الملكي آنذاك (اوائل عام 2011) ابلاغه ان الملك الذي كلف معروف البخيت تشكيل حكومة جديدة لتهدئة الشارع الثائر، يريد تشكيلة وزارية من خارج الصندوق المعتاد، ويعتزم الدخول في عملية اصلاح سياسي واقتصادي واداري شاملة، وجلالته يرغب ان تكون شريكاً ومساهماً ليس في ورشة الاصلاح السياسي فحسب، بل في تطوير واستنهاض مرفق العدل والقضاء ايضاً، بحكم عمق خبرتك وطول باعك في هذا المجال.

بعد حوار قصير مع اللوزي طلب ”ابو شجاع” مهلة للتشاور والتفكير، وقام بالفعل بمشاورة عدد محدود من اهله واصدقائه، حيث اتجه الرأي الى ان دخوله الحكومة ينطوي على تجربة وعرة تصل حد المجازفة، غير انها تستحق خوضها نظراً لصعوبة اوضاع البلاد الراهنة من جهة، وقياساً على استجابة الملك حسين في وقت سابق لحزمة من المطالب الشعبية تحت ضغط انتفاضة نيسان المجيدة عام 1989 من جهة اخرى.

بعد اسبوع واحد من تقلده حقيبة وزارة العدل، قررت اسرائيل طرده من الحكومة.. ذلك لانه ما ان “شطح حتى نطح”، وتجاوز الخط الاحمر، وداس بقدمه عش الدبابير، حين تعهد جهاراً نهاراً وامام حشد من المتظاهرين قبالة وزارته، ببذل اقصى الجهود للافراج عن احمد الدقامسة الذي وصفه “بالجندي البطل” الجدير بتمثال يُقام له، لا بسجن يقيم فيه.

ثارت ثائرة اسرائيل، واشتعلت حنقاً على “ابو شجاع” وغضباً على حكومة البخيت التي تضم امثال هذا الوزير المتصقر والمعادي لليهود، وقد صرح الناطق باسم وزارة الخارجية الاسرائيلية ان اقوال مجلي “مثيرة للصدمة والاشمئزاز، ولا سيما انها تصدر عن الوزير المسؤول عن تطبيق القانون”.. ثم تمنى باسم حكومته الاسرائيلية على نظيرتها الاردنية “ان يُمضي الدقامسة في السجن مدة محكوميته كاملة”.

وفي اليوم التالي نشرت وزارة الخارجية الاسرائيلية على موقعها الالكتروني، انها قد استدعت القائم باعمال السفارة الاردنية في تل ابيب، للتعبير عن اشمئزازها من تصريحات مجلي، وللتأكيد على ان اسرائيل تأخذ هذه التصريحات على محمل الجد، وتطالب الاردن بالادانة المباشرة والقطعية لتصريحات هذا الوزير.

في هذه الاثناء اتصل بابي شجاع زميله ناصر جودة، وزير الخارجية وقال له ان اسرائيل مولعة، وان الامريكان منزعجون من تصريحاتك بشكل عنيف، ويؤسفني ان ابلغك مسبقاً ان وزارة الخارجية مضطرة لاصدار بيان رسمي يوضح ان تصريحاتك بخصوص الدقامسة مجرد رأي شخصي يخصك، ولكنه لا يعكس موقف الحكومة الاردنية، او يعبر عن سياساتها الرسمية.

الوقائع والتفاصيل بعد ذلك غير مهمة، فالمهم ان اسرائيل قد اسقطت ورقة الفقيد مجلي منذ ذلك الحين من دفتر الحكومة، وافشلت مساعيه لادراج قضية الدقامسة ضمن القضايا المشمولة بقانون العفو العام، وتحايلت عبر عملائها الكثر لقذفه بتهمة المساهمة مع وزيري الداخلية والصحة في تسفير المحكوم خالد شاهين الى لندن، مع انه كان بعيداً كل البعد عن هذه “الطبخة” المسمومة.

فهم “ابو شجاع” الرسالة الصهيونية بوضوح، ورد على التحدي بالتحدي.. شطب الوزارة من حسابه، فكتب استقالته واحتفظ بها في جيبه، ثم جمع اوراقه ومتعلقاته الشخصية من مكتبه، وبات يتحين اللحظة المناسبة للمغادرة.. مدركاً ان الدهاء اليهودي قد اختار له ان يغادر الصف الحكومي “طريداً” من بوابة خالد شاهين، وليس “شهيداً” من بوابة احمد الدقامسة.

غير ان حسابات الحقل الصهيوني لم تطابق حسابات البيدر العربي، فباستثناء بعض محترفي المماحكة والمكايدة والمزايدة السياسية الرخيصة، ظل “ابو شجاع” الى آخر يوم من حياته يحظى باطيب سمعة، ويحتفظ بارقي كاريزما، ويتمتع باوسع مساحة من التقدير، واوفر عديد من المريدين والمناصرين والمتتلمذين والرفاق المخلصين والاصدقاء الحميمين.. ويكفيه عزاً ومجداً وتكريماً ان صدى رحيله بالامس قد تردد بشديد الاسى واللوعة في كل انحاء الحمى الاردني، وان نعيه قد عز على سائر الوطنيين والقوميين الاحرار ما بين المحيط والخليج، وان حجم جنازته ومراسم وداعه ورثائه والتعزية فيه قد شكلت استفتاءً شعبياً عفوياً على علو شأنه، وسمو مكانته، وفداحة الخسارة فيه، وعمق الفجيعة برحيله، وصدق رهانه الدائم على اصالة ابناء شعبه وامته، الذين بادلوه الوفاء بالوفاء، وشيعوه بدموع ساخنة وانفاس حرى ونفوس ملتاعة.

وعليه، فهذا الرمز القومي الراحل كان صديقي الحميم، فقد اسعدتني الاقدار بصحبته الشخصية ورفقته العقائدية لما يناهز نصف قرن.. عرفته عن قرب، وسبرت اغواره في العمق، وامتحنت صداقته ومصداقيته غير مرة.. واشهد بين يدي بارئي وقارئي انه كان فاضلاً ومناضلاً وموئلاً لاشرف المبادئ والاخلاق، واهلاً لاعلى مراتب الثقة والمودة والاحترام.

كان سيد الصدق والصبر، وعاشق الخط المستقيم، وضرغام المواجهة العصي على المهادنة، وراهب الوعي القومي الذي لا يغفل، وصاحب طريقة خاصة في التدين والايمان والتقوى، وفق شعاره المعروف “الوحدة والتوحيد”.. ولعلي ما زلت اذكر مداعبة احد اصدقائنا اليساريين جداً له ذات سهرة نخبوية قبل نيف وعشرين عاماً، حيث قال : لقد حيرتنا يا ابا شجاع، فانت قومي عصري وتقدمي، ورغم ذلك فانك لا تشرب، ولا تعشق، ولا تدخن، ولا تمزح، وبدل ان تذهب سائحاً الى اوروبا مثلاً ذهبت حاجاً الى مكة، وعوض ان تدعو للتقارب بين القوميين واليساريين دعوت لتقارب القوميين مع الاسلاميين، فقل لي بربك ماذا تريد ولماذا تعيش ؟؟

نعم، لقد كان حسين مجلي ثورياً وتقدمياً في السياسة، ولكنه كان محافظاً وتقليدياً على الصعيد الشخصي والاجتماعي، فقد ظل محتفظاً بطيبته الريفية، وطبيعته العفوية، واصالته العروبية، ورزانته الزائدة عن الحد.. لم يتلون او يتغربن، او يقلد الحداثيين، او يتعاطى المساحيق والمكياجات السياسية والاعلامية، بل بقي اسير فطرته وبساطته وروحيته العذبة التي كثيراً ما جعلت جوهره افضل من مظهره، وتفكيره اليق من تعبيره، ونخوته اسرع من غضبته، ومروءته اوسع من خصومته، وحضوره الشهم وقت الشدة وفي الضراء اكبر منه في السراء وعند الرخاء.

لابي شجاع في عنق “المجد” دين كبير، فقد كان احد رعاتها حتى قبل صدورها، وظل كذلك الى آخر ساعات حياته.. لقد تبرع بالمال لها، وتطوع للكتابة فيها، وترافع في المحاكم دفاعاً عنها، وداوم حتى يوم رحيله على زيارتها وتناول قهوة الصباح في مكاتبها.

رحمة الله عليه، ورحمة الله علينا وعلى كل المفجوعين برحيله المباغت، وغيابه الصاعق دون سابق اخطار او انذار.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى