المطالبة بفتح ملف القطاع الخيري لضبطه وتنظيمه وتنقيته من الشوائب
كتب ساطع الزغول
افادت تقارير صحفية نُشرت اواخر الشهر الماضي ان وزارة التنمية الاجتماعية ضبطت جمعية خيرية ”كبرى” تقوم بجمع التبرعات خلافاً للانظمة والتعليمات، حيث كانت الوزارة قد عممت على كافة الجمعيات بضرورة تقديم طلب للحصول على موافقة رسمية لجمع التبرعات قبل الشروع في ذلك، والغاية من التعميم محاولة ضبط هذه العملية ومنع التجاوزات فيها.
وقالت التقارير ان اجهزة الوزارة ضبطت لدى هذه الجمعية نحو 615 الف دينار جمعتها خلافاً للتعليمات، وان الوزارة تنوي تحويل الجمعية الى القضاء للنظر في هذه المخالفة التي تشرع الابواب امام العديد من التساؤلات حول أوجه صرف هذه الاموال.
واقع الحال يقول ان هذا الضبط هو غيض من فيض حالة الفوضى التي تعم هذا القطاع، حيث تحرص مختلف الاطراف على استغلال شتى الفرص والمناسبات للحصول على حصة من الكعكة، حتى ولو تم ذلك عبر تشكيل لجان وهمية تجمع ما يتيسر لها من الاموال المجهولة المآل.
ويقول ايضاً ان ليس كل ما يجمع غير مرخص به او لا يذهب في اوجه مشروعة وخيرية، لكن عشوائية العملية تضع الغالبية العظمى من الجمعيات الخيرية في دائرة الشك حتى يتضح اليقين، ويتم اكتشاف الغث من السمين في ظل التواجد الكثيف لجامعي التبرعات في الاسواق، وعلى ابواب المساجد والاسواق التجارية وبيوت العزاء واروقة المستشفيات وغير ذلك من الامكنة التي تشهد ازدحام الناس وبالذات ايام الجمع والاعياد، وغير ذلك مما يمكن توظيفه لاستغلال طيبة الناس وصفات التراحم والخير التي يتصفون بها كابناء مجتمع يُعلي قيم التكافل والتواد بدرجة كبيرة.
المراقبون الذين يتابعون هذا المشهد اكدوا ان الانفلات هو السمة الغالبة على جمع التبرعات، محذرين من ان بعض هذه العمليات لا تخلو من التجاوزات والتحايل والخداع الذي يتمثل احياناً في ان يقدم الشخص الذي ينبري بعملية الجمع بعض الاوراق البالية الممهورة بتواقيع واختام من الصعب معرفة حقيقتها او مصدرها، موهماً غيره بانه يمثل لجنة مرخصة رسمياً، مع ان الحقيقة ربما تكون خلاف ذلك على طول الخط.
هذا الاستغلال والاستغفال دفع وزارة الاوقاف الى التحذير من الوقوع في الشرك والانخداع بدعاوى اولئك الناس، والسماح للمحتالين بالتغرير بأهل الخير، والحصول منهم على تبرعات تحت دعاوى شتى مثل بناء مسجد، او تمويل مشاريع خيرية اخرى، مشددة (الاوقاف) على ضرورة تسليم امر جمع تبرعات بناء المساجد الى الجمعيات واللجان الرسمية والجهات المختصة، ومؤكدة ان التعليمات تمنع جمع اي اموال من المتبرعين، حيث تناط هذه المهمة بلجان بناء المساجد، وهي لجان شبه رسمية تمارس عملها تحت مراقبة ومتابعة من قبل الوزارة.
صيادو التبرعات يذهبون بعيداً في ابتكار اساليب ووسائل استدرار العطف وجني المال، فهم على سبيل المثال يقصدون بيوت العزاء ويوظفون حالة الحزن والفقد عند اهل المتوفي، ويجعلون من الفترة المسائية حيث يكثر المعزون مسرحاً لنشاطهم الابتزازي المرفوض، ما يدفع بذوي المرحوم الى التبرع، مدفوعين اما بالرغبة في التصدّق عن روح فقيدهم، او الدفع تحت وطأة الحرج والتمظهر، وهو امر يحتاج الى فطنة ويقظة تقطع الطريق على المستغلين الذين يتسولون عطف الهدف/الضحية قبل تسول المال، وهو تسوّل في الحقيقة يجمع ما بين النصب والاحتيال والسرقة، ولا يمكن ان يلجأ اليه اي من الجمعيات المحترمة في جمع التبرعات.
تعقيباً على هذه الممارسات، يقول المراقبون ان البحث عن الاجر والثواب يرتبط بعاطفة الانسان الدينية، وهو ارتباط يوظفه من يزعمون انهم يمثلون لجان جمع التبرعات، وغيرهم من اشخاص يقفون منفردين يحثون الناس على التبرع، فيندفع من يبحثون عن الأجر والثواب نحو هؤلاء يلبّون نداءهم ويدفعون لهم ما تيسّر، وهو فعل لا احد يلومهم عليه، لكن يتوجب عليهم ان يتأكدوا الى اين ستذهب صدقاتهم، باعتبار ان كل انسان يريد ان يرى أثر عمله، وان تصل صدقاته لمستحقيها عبر اقصر الطرق، وان تسهم – وهو الاهم – في رفع ضائقة، او دفع حاجة، لا ان تتحول الى حسابات بنكية لا احد يعلم عنها شيئاً.
جامعو التبرعات وظفوا – اضافة الى ما سبق ذكره – احداث المنطقة والاقليم لذات الغاية، مثل تداعيات ما يسمى “الربيع العربي”، فما ان تحلّ ببلد عربي او مسلم نكبة او مصيبة حتى يخرج الكثير من الاشخاص الذين يدعون الناس للتبرع، وكل منهم ودونما اثبات رسمي “يدعي وصلاً بليلى”، فتتكدس تحت دافع النخوة والطيبة وحب الخير الاموال بين ايديهم، ولكن لا احد يدري ما هو “نصيب ليلى” تلك من المحصول، مع ان البعض يعتقدون ان نصيبها هو الصفر المكعب.
ايضاً من الوسائل التي يحذر منها المراقبون، ذلك الانتشار العشوائي الكبير لصناديق جمع التبرعات تحت مسميات عديدة، بعضها يتعلق بجوانب دينية، او جوانب انسانية وخيرية وصحية، حيث نجد تلك الصناديق تحتل امكنة بارزة في المولات والبنوك والاسواق التجارية، وحتى البقالات والمطاعم الشعبية، وغير ذلك من الامكنة، وفي المقدمة منها المساجد والكنائس، ودونما وجود ما يثبت عملياً وفعلياً انها صناديق مرخصة ومأمونة، ما يثير المخاوف من ان تكون موجودة لمنفعة ضعفاء النفوس الذين تسللوا الى القطاع الخيري بحثاً عن منافع شخصية.
هكذا ممارسات دفعت وزارة الداخلية الى التحذير من انتشار ظاهرة جمع الصدقات والتبرعات بواسطة اشخاص ولجان وجهات غير مرخصة رسمياً ومجهولة، مستخدمين في الوصول الى اهدافهم المشبوهة عدة وسائل من ضمنها الرسائل الالكترونية عبر الهواتف النقالة، والتي تدعو الى التبرع لصالح مشاريع خيرية، وتطلب ايداعها في حسابات بنكية لدى بنوك محلية محددة، الى جانب التواجد الشخصي في الاماكن العامة والمساجد ودور العبادة لمقابلة الناس بشكل مباشر، وتقديم شهادات واوراق ثبوتية مزورة تشير الى انهم مرضى او رعاة ايتام او رازحون تحت وطأة ديون يعجزون عن سدادها، وغير ذلك من التخرصات.
المراقبون الذين استذكروا نشاط الجمعيات الخيرية وتنافسها وتسابقها اعلامياً ودعائياً خلال شهر رمضان المبارك لكسب المزيد من المتبرعين، قالوا ان اعداد الجمعيات الخيرية يزداد عاماً بعد عام، وان القطاع الخيري يمكن تشبيهه بعالم الاسماك حيث يأكل الكبير الصغير، وبالتالي فان السؤال عن نشاط هذه الجمعيات الخيرية، واين تذهب اموال التبرعات التي تجنيها وكيف تنفق هذه الاموال، وهل القطاع الخيري بعيد عن الحسابات السياسية والفئوية، رديف او وجه آخر لبعض الجماعات الحزبية والتشكيلات السياسية.
من الواضح ان ثمة ازمة في هذا القطاع، يمكن ان اقول انها حرجة، سببها الاول غياب رقابة الدولة على القطاع الخيري الا ما ندر، في حين ان السبب الثاني يتعلق بالسؤال عن الحالة الانتاجية للجمعيات الخيرية التي تجمع التبرعات لمقاومة الفقر والعوز في ظل علاقة يسودها الشك والريبة.
السؤال الابرز الذي يطرحه المراقبون يقول : هل تتناسب كثافة نشاط جمع التبرعات مع ابعاد خريطة الفقر في البلاد ؟ ذلك ان المؤشرات لديهم تؤكد ان جغرافيا الفقر العميقة عن الخريطة الاردنية لم تلامسها ايدي العون والخير، وان بعضاً من نشاط القطاع الخيري يُمارس على قاعدة انتاج جزر اجتماعية مطلقة تستفيد من العون الخيري وحدها، وبلغة اوضح فإن العمل الخيري يميز بين الفقراء والمحتاجين وفق العديد من المعايير دون معيار الفقر والحاجة.
خلاصة القول.. ان عمليات جمع التبرعات يجب ضبطها وتنظيمها من قبل الجهات المسؤولة لمنع تسرب المشبوهين الذين يتقصدون جمع التبرعات عبر انتشارهم في الشوارع ودور العبادة وبيوت العزاء واعلانات القنوات الفضائية الانترنتية، وذلك لترك الطريق سالكة امام المؤسسات الشرعية التي تقوم بعملية الجمع بكل نظافة وامانة وخلق رفيع، حيث تذهب الاموال الى الجهة التي يتم الجمع لها.
ما تقدم يعني انه لا بد من قيام الجهات الرسمية المعنية بفتح ملف التبرعات والدعم الخيري ومراقبته وضبطه عبر تحديث الانظمة والتشريعات الكفيلة بتصفيته من الشوائب، بهدف استمرار عمل الخير بأمان ودون تشويه، خصوصاً في ظل ارتفاع اعداد المحتاجين لهذا النوع من الدعم الخيري