أبعد من الإبعاد

في زمن الإنشداد إلى غزّة وبطولاتها وجراحها وشهدائها من أطفال ونساء وقادة، وفي لحظة تودّع فيها فلسطين أحد أشجع فرسان الشعر فيها، وأحد حراس هويتها وحريتها، بل أحد السدود المنيعة بوجه اختراق ثقافتها وحضارتها الشاعر المقاوم سميح القاسم، نتضامن اليوم مع المناضلة خالدة جرّار عضو المجلس التشريعي الفلسطيني، وإحدى قياديي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي تحيي هذه الأيام كذلك ذكرى استشهاد أمينها العام المناضل الكبير الشهيد أبو علي مصطفى، وقد بات اسمه عنواناً لأحد أبرز فصائل المقاومة في غزّة، ونسمعه كل يوم مع عمليات هذا الفصيل، كما نتضامن اليوم مع خالدة جرّار ومع وقفتها بوجه قرار إبعادها عن منزلها من قبل سلطات الاحتلال، ولنتدارس معاً السبل الكفيلة بإسقاط هذا القرار الجائر بعد التوقف عند أبرز معانيه ودلالاته:

أولاً: إن صدور هذا القرار بحق رفيقة “غيفارا غزّة” وغيره من الشهداء والأسرى، فيما يتعرض قطاع غزّة المجاهد لعدوان همجي صهيوني يستهدف البشر والشجر والحجر، هو تأكيد على تلازم المعركة بين غزّة والضفة ومعهما القدس وأراضي 1948، بل بين جرائم الإبادة وجرائم الإبعاد وكلها جرائم ضدّ الإنسانية.

ثانياً: إن قرار إبعاد نائب منتخبة عن منزلها الذي لا يبعد كثيراً عن مقر القيادة الفلسطينية في رام الله، هو انتهاك لكل المواثيق والقرارات والاتفاقات الدولية، ولكل الحصانات القانونية والدستورية، كما هو استفزاز صريح للرئاسة الفلسطينية والمؤسسات الشرعية الفلسطينية ولقيادة منظمة التحرير التي تشكّل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ركناً رئيساً من أركانها.

ثالثاً: أن استهداف قيادية مناضلة في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين هو إقرار صريح من سلطات الاحتلال بفعالية دور خالدة جرّار، كما دور الجبهة التي تنتمي إليها، وهي جبهة قدّمت وما تزال أبرز قادتها شهداء وجرحى وأسرى وبينهم أمين عام الجبهة المعتقل منذ سنوات الرفيق المناضل أحمد سعدات.

رابعاً: إن قرار إبعاد خالدة جرّار يكشف من جديد الجذر الحقيقي للفكر الإرهابي الصهيوني القائم على ثنائية الاقتلاع من الحياة عبر القتل، والاقتلاع من الأرض عبر الإبعاد، وهي ثنائية تجد جذورها في كل السياسات الاستعمارية والعنصرية التي عرفها العالم، لاسيّما سياسة المستعمرين البيض ضدّ السكان الأصليين في القارة الأمريكية، ومن هنا فمواجهة الإبعاد الفردي اليوم هو خطوة على طريق مقاومة الترحيل الجماعي غداً (الترانسفير) الذي هو أحد أهداف المشروع الصهيوني، لاسيّما في طبعته المتجدّدة (الدولة اليهودية).

خامساً: لقد أثبت هذا القرار فعالية وعظمة دور المرأة العربية الفلسطينية في الكفاح الفلسطيني المعاصر، سواء كمناضلة أو كأم شهيد وأخت شهيد، فوقفة خالدة جرّار بوجه قرار الإبعاد هي الوجه الآخر لوقفة المئات من أمهات الشهداء وزوجاتهم وبناتهم  في غزة وعموم فلسطين، كما نرى على شاشات التلفزة.

سادساً: لقد سعى العدو تاريخياً من خلال الإبعاد في المكان لإبعادنا عن الزمان الفلسطيني، ولكن أثبتت الأيام أن كل إبعاد في المكان كان يتحول إلى تشبث في الزمان الفلسطيني، كما نرى في هذا الحضور المميّز لفلسطين وقضيتها وكفاح شعبها في ضمير الأمّة والعالم.

في ضوء هذه المعاني والدلالات يكتسب تضامننا اليوم أهمية خاصة، لا لمضمونه العاطفي المتفاعل مع مناضلة ملأت حياتها وشبابها بالعطاء والنضال فحسب، بل أيضاً لإبعاده السياسية والفكرية والتاريخية الهامة، التي تجعل من إسقاط قرار إبعاد خالدة جرّار جزءاً لا يتجزأ من إسقاط قرار العدوان والإبادة في غزّة، وقرار التهويد في القدس والجولان وأراضي 1948.

لا داعي لتفصيل ما هو مطلوب لمواجهة هذا القرار سواء من القيادة الفلسطينية المدعوّة لاستخدام كل ما تملكه من وسائل لإبطال القرار، ولا ما هو مطلوب من القوى الحيّة في الأمّة المدعوّة إلى تصعيد تحركها وحراكها من أجل فلسطين، ولا ما هو مطلوب من أحرار العالم وقد أثبت الملايين منهم أن قروناً من السياسة الاستعمارية والعنصرية لم تستطع أن تطفئ فيهم وهج الضمير الإنساني والتحرّري، ولا ما هو مطلوب من رؤساء البرلمانات العربية والإسلامية والدولية للدفاع عن زميلة لهم، كما عن زملاء لهم ما زالوا قيد الأسر والاعتقال، ولا حتى ما هو مطلوب من الاتحادات النقابية والمنظمات المعنية بحقوق الإنسان، فكل هؤلاء يعرفون واجباتهم تماماً وننتظر تحركاً منهم بأسرع وقت.

لكن المطلوب إلى جانب كل هذا، وفوق كل هذا، أن يكون هذا القرار بكل أبعاده، شرارة أخرى تسهم في إشعال انتفاضة ثالثة في الضفة الغربية ومنطلقها القدس المنتفضة منذ أسابيع، خصوصاً أننا نأمل أن تكون التظاهرات، للدفاع عن غزّة هي بداية حراك يكسر الجمود الحالي، ويعيد بناء معادلات جديدة لا تسقط الحصار على غزّة فحسب، بل تفتح الآفاق واسعة لدحر الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية مستقلة وكاملة السيادة عاصمتها القدس.

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى