ترى الأنظمة العربية على اختلاف مستوياتها أن المقاومة وفكرتها هي رجس من عمل الشيطان عليهم اجتنابة في لحظة معينة أو القضاء عليه وهزيمته في معظم اللحظات، ذلك أن هذه الأنظمة أصبحت ترى فيها ( أي في المقاومة ) تحديا لها ولانتظامها السلطوي ولشرعيتها أولا ، وتخشى كل الخشية من قيام الشعوب في وبعد كل مواجهة أو مفترق سياسي باعمال مباضع المقارنة والمفاضلة والادانة والنقد والمساءلة.
وأصبح لسان حال هذه الأنظمة – الغائبة عن التاريخ والفعل والملتهية بأزماتها وكوابيسها وهواجسها – عند وأمام بداية كل مواجهة مع أعداء الأمة ، الاستئناس بالحكمة وترديد المقولات والأمثلة التثبيطية والهروبية من مثل ” أن العين لا تواجه ولا تقدر على المخرز !!
وعندما تصمد المقاومة وتربك قوة الأعداء الهائلة وتنتصر عليها ولو من الناحية المعنوية ، وتجبرها على التراجع ( كما حدث في العراق وفلسطين ولبنان ) ، تسارع هذه الأنظمة الى الخيارات الوعظية التعويضية البديلة في التأسي والاغاثة والدعاء الى الله أن لا يمتد اللهب الى الأبعد ، وأن لا يشعل هذا الصمود المقاوم الاسئلة الجارحة والمدببة داخل شعوبها ، ومن ثم الحرائق في ديارها وبين ظهرانيها .
الأنظمة العربية لها ضرورات تؤلفها وتختلقها وتغيّرها هي على هوى مزاجها السياسي ووفقا للحالات الطارئة المستجدة ومتطلباتها ، وهي ( أي هواجس الضرورات ) التي تتحكم بقراراتها وردّات فعلها وأولها تلك المتخفية وراء الادعاءات الاعلامية الاخرى في البقاء والرئاسة والاستمرار في الحكم ، ولذا تراها تشتقّ خطابا تدليسيا تلفيقيا تخويفيا مواربا عنوانه ، عدم التهور والاستعجال والانجرار وراء العوام ، والتريث لحين انجلاء الحقائق ، أو انتظار انكسارات معينة لدى الطرف المقاوم لتعزيز منطقها وموقفها ، أو بالادعاء بعدم التفريط بالمصالح العليا .. الخ
هذا ما نراه للأسف وهذا ما أصبحت الأنظمة العربية تجهر به من دون تردد أو وجل ، وهذه هي الثقافة السياسية المهيمنة التي تحاول أن تفرضها على شعوبها تحت عنوان مخاتل وتدليسي ” الضرورات والاكراهات الضاغطة والملحّة ! ” ، وزادت الأنظمة على هذا ( وهو من تجلياتها وشطحها وتهافتها المستحدث ) أن بدأت تتمنى وتلهج بالدعاء سرا وجهرا بانتصار الأعداء وتخليصهم من هؤلاء الحالمين أو العابثين أصحاب الصواريخ الكرتونية العابثة والبدلات والكوفيات المرقّطة والبكمات المخلّعة !
واذا كانت الأنظمة قد فرضت ضروراتها على الناس ، أو أنشأت لهم ثقافة نكوصية رثّة مهيمنة تراودهم من خلالها على وطنيتهم أو أمنهم واستقرارهم ، أو تخيفهم بهذه الضرورات المصطنعة ، الا انها لم تستطع أن تسكت أو تلغي أو تغيّب ثقافة الشعب الوطنية والقومية الموازية والكامنة والمحمّلة بالكثير من الخيارات والمعطيات والاحتمالات ، وأولها الاقتناع بهذا الخيار المقاوم الذي أصبح واقعيا ومنتجا ومحركا للكثير من الاسئلة ، ومثيرا للمفاجاءات وواعدا بالتغيرات والانتصارات .
وبقدر ما تنجز المقاومة العربية في ساحاتها المختلفة من انتصارات – وحتى في حدودها الدنيا أي بالصمود وعدم الاستسلام – فان هذا الخيار أصبح يتعاظم ويزداد اقناعا ووجاهة لشعوب متلهفة للحرية ، تردد عليهم أنظمتهم صباح مساء ” أن العين لا تقاوم المخرز أو لا يجوز أن تقاومه ” “وأن في التأني والمفاوضات مع الاعداء الصهاينة السلامة ، وأن الحياة مفاوضات .. كما قال أحد فرسان المفاوضات مع الصهاينة ” ، “وأن من يرضى بمثل هذا الواقع المذّل يعيش بأمان واستقرار .. الخ !!
والآن وكما يبدو جليا تتواجه الضرورات ( السلطوية ) التي نؤكد دائما أنها مفتعلة ومتغيّرة وتدليسية ، مع خيارات الشعوب التوّاقة للتحرر والانعتاق من ثقافة الهزيمة المهيمنة ، تلك الخيارات القائمة والمتأسسة على درس العرب التاريخي ، في اليقين بقدرة الأمة على المواجهة والتحدي ، اذا اتيح لها المجال بأن تقرأ وتعي درسها التاريخي العربي جيدا ، وعندما تتسلح بثقافة مقاومة وطنية حقيقية لا ترى في الأعداء على اختلاف مشاربهم الا نمورا من ورق يمكن مواجهتهم والانتصار عليهم ، وسوف تكون نتيجة هذه المواجهة حاسمة بين من يؤلف الضرورات ويختلقها ، وبين من يجترح الخيارات الوطنية والقومية ويعمّقها ، ويمضي فيها الى النهاية بعين قادرة أن تكسر المخرز أو تثلمه على الأقل !