كيف نهضت الهند، وأُجهضت نهضتنا ؟!

باتت الهند في نظر العالم، قوة عالمية صاعدة تفورُ بالثورات الصناعية والتكنولوجية، بعد أن كان ينظر لها حتى زمن قريب، كبلد يسوده البؤس وتضربه المجاعة ويعشش فيه الوعي الغيبي، والسؤال الذي يعاد طرحه على العقل العربي، هو لماذا نهضت الهند ونهض غيرها من بلدان العالم الثالث، فيما ظل مشروع النهوض العربي يتعثر لتصل الأمة إلى وضع ينذر بخروجها من التاريخ ؟.

الباحثة الأمريكية سوزان هويبر رودولف أستاذة العلوم السياسية في إحدى جامعات شيكاغو، تقدم لنا رؤية لما ظهر من تصورات عرفها التاريخ المعاصر بشأن الحضارة الهندية، وفيما يتعلق بالهوية الجامعة لأبناء الهند . حيث توقفت الباحثة، عندما أسمته ” أربع تنويعات للحضارة الهندية ” .
وما قالته الباحثة من خلال مقاربتها للشأن الهندي، هو أن الغرب بعد أن أنجز نهضته، أخذ يتجه نحو معرفة حضارات الشعوب الأخرى، وبالتالي فقد لعب دوراً بالغ التأثير في عملية إعادة إنتاج الهوية الحضارية والثقافية لدى تلك الشعوب، بما أسهم بصورة أو بأخرى في رسم مستقبلها .
وقد صاغ الغرب، الرؤية أو التنويعة الأولى والثانية فيما يتعلق بالهند، وذلك ما جرى في الواقع بالنسبة للأمم والشعوب الأخرى ومن ضمنها ما يتعلق بالحضارة العربية الإسلامية وشعوبها .
وبالنسبة للرؤية الأولى، فقد ظهرت كما تشير الباحثة، في الحقبة الرومانسية التي سادت أوروبا فترة من الزمن . ففي هذه الحقبة، جرى الاهتمام بالحضارات الأخرى باعتبارها جزءاً من الموروث الحضاري الإنساني ومن المسيرة الحضارية التي عاشتها البشرية .
حيث جرى التأكيد عبر رؤية منفتحة، على دور الحضارات الأخرى الضاربة جذورها في التاريخ، في إغناء الحضارة الغربية المعرّضة للهرم إذا لم يتم إمدادها بنسغ الحضارات الشرقية، وفي إطار هذه الرؤية، جاء تغني الشاعر الألماني غوته، بفكرة اندماج ” أزهار حضارات الشرق، مع ثمار الحضارة الغربية ” .
وفي هذا الإطار كذلك، وضع غوته ملحمته الشعرية حول الرسالة التي حملها النبي العربي لأبناء أمته ومنطقته وللبشرية جمعاء، بما كان له أثر بالغ في مسار الحضارة الإنسانية .
وفي هذه الحقبة الرومانسية من تاريخ الغرب الأوروبي، برز مستشرقون انصبّ جهدهم على إزاحة أكداس التراب عن منجزات الحضارات الأخرى . وتذكر الباحثة، كيف نظرت هذه المدرسة من المستشرقين، إلى عظمة اللغة السنسكريتية في الهند، التي أقامت استناداً إلى جاذبيتها وتطورها، جسور تواصل بين أرجاء الهند، فغدت أداة توحيد ثقافي في هذا البلد، وأساس بناء هوية جامعة لتجمعاتها السكانية التي تتسم بتعددية لم تعرف مثيلا لها العديد من بلدان العالم .
وفي هذه الحقبة وعلى ذات الصعيد، أزاح المستشرق الغربي، أكداس التراب عن منجزات الحضارة العربية الإسلامية، وكما أفاد تيار النهضة الهندي المعاصر، من هذا الجهد البحثي العلمي للمستشرق الغربي في إعادة إنتاج هويته الحضارية الجامعة، فقد أفاد كذلك من هذا الجهد، رواد النهضة العربية، لكن نهضة الهند توطدت، فيما تعثّر مسار نهضتنا العربية، وذلك له أسبابه التي مازالت موضوع بحث الدارسين وسط النخب العربية.
ومع ولادة وصعود الحركة الاستعمارية الغربية، تشكلت في الغرب رؤية أو تنويعة أخرى مغايرة بشأن حضارة الهند، وبشأن الأمم والشعوب الأخرى غير الأوروبية الغربية . فضمن هذه الرؤية، جرى الحط من مكانة الحضارات الأخرى، بل نسبت شعوبها إلى البربرية، وذلك في سياق تغطية إيديولوجية لسياسات المستعمرين بحق الشعوب الأخرى، وتبريراً لممارساتهم العدوانية إزاءها، وذلك وسط دعوة لها، بأن تتخلى عن هويتها الثقافية وأن تنبذ إرثها الحضاري، أي أن تبدل جلدها بجلد غربي، لكي تخرج من بربريتها وتدخل في حظيرة الحضارة الوحيدة التي تستحق اسمها كحضارة، وهي الحضارة الأوروبية الغربية.
وبالانتقال إلى التنويعة الثالثة وفق نسق الباحثة الأمريكية، فإننا نلتقي بالتنويعة التي بلور ملامحها تيار غاندي – نهرو التحرري على الساحة الهندية . فقد أفاد هذا التيار كما أسلفنا، مما كشفته الحقبة الرومانسية الغربية من إرث حضاري هندي استناداً إلى أساليب بحث علمية وعصرية، كما أفاد كذلك من أساليب المستعمر في إدارة الصراع على كافة المستويات، وفي صلبها المستوى الثقافي، حيث تمكن هذا التيار، من بلورة هوية حضارية عصرية وجامعة للهند، شكلت أساس نهوضها التاريخي .
ولا تغفل الباحثة، تنويعة رابعة تتعلق بالنظر إلى حضارة الهند وإلى هويتها الحضارية، وهي التنويعة الانغلاقية والرجعية والاقصائية، التي كادت أن تعصف بمشروع الهند النهضوي الحداثي الذي أرساه تيار غاندي- نهرو الذي تصفه الباحثة بالليبرالي .
ففي عام 1999-1998، فاز حزب بهاراتيا جاناتا الممثل للأغلبية الهندوسية بالسلطة، وسعى هذا الحزب إلى فرض أحادية حضارية على الهند منطلقاً من فكرة أن جميع الأقليات ( البوذية – والإسلامية وغيرها )، عليها أن تندمج بالهوية الحضارية الهندوسية التي تعبر وحدها عن هوية الهند – كما هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية التي تقوم هويتها على أساس مكون واحد هو الانجلوسكسوني البروتستانتي – وذلك وفق منظري الحزب .
لكن هذا الفكر كما تشير الباحثة، لم يجد حاضنة اجتماعية له بما فرض على الحزب تعديل رؤيته، وذلك على العكس مما جرى في الشرق الأوسط – كما تشير الباحثة أيضاً – حيث وجدت الفكرة الوهابية من يدافع عنها معبراً عن رؤية إقصائية وتكفيرية تجاه الآخر .
ونستطرد هنا قبل العودة لسياق موضوعنا، بأن انتصار الحزب المذكور في الانتخابات الأخيرة، قد يقوده في ظل ما يدور من صراع دولي، إلى الانجرار نحو سياسة متشددة انعزالية بالاستناد إلى تشجيع الغرب الاستعماري .
وغني عن التوضيح، بأن نظرة الغرب إلى الحضارة العربية – الإسلامية، ونظرة العرب إلى ذاتهم، عرفت تنويعات مقاربة لما عرفته الهند، لكن الهند استطاعت النهوض، فيما تعثرت مشاريع النهضة العربية، حيث أجهض مشروع محمد علي باشا المنطلق من مصر والمتجه نحو بلاد الشام لترسيخ قواعد صموده، وأجهض مشروع عبد الناصر القومي التحرري، المنطلق من مصر أيضاً والمتجه نحو سورية وبلاد الشام عامة لتعزيز قدرته على الانتصار، فيما يواجه مشروع المقاومة الذي تمثل سورية حاضنته العربية، حرباً كونية حشدت لها الإمبريالية الأمريكية كل أعوانها وأدواتها .
وننتقل فيما يلي إلى إجابة مكثَفة على السؤال الذي طرحه عنوان المادة ( لماذا نهضت الهند وتأخرنا ) وذلك عبر القراءة التالية :
أولاً : لقد خضعت الهند للاستعمار الكولونيالي الغربي كما العالم العربي، وخاض شعبها بقيادة حزب المؤتمر بزعامة غاندي نضاله التحرري، ومع انهيار قدرات المراكز الاستعمارية الكولونيالية عقب الحرب العالمية الثانية، أمكن لشعب الهند أن يحرز استقلاله وأن يشرع في بناء مشروعه النهضوي العصري دون أن يصطدم بما اصطدم به مشروع عبد الناصر من هجمة إمبريالية ضارية، ارتبط عنفها واتساعها بأهمية المنطقة العربية في نظر زعيمة الإمبريالية ممثلة في الولايات المتحدة الأمريكية وريثة الاستعمار الكولونيالي.
ثانياَ : لقد قسَم المستعمر البريطاني قبل رحيله القارة الهندية على أساس ديني إلى قسمين، لكن الهند استطاعت برغم نزاعاتها مع الباكستان، أن تنهض على أساس هوية جامعة تحترم التعددية، ولم يكن أمام قيادة وشعب الهند حل مشكلة التجزئة التي خلَفها المستعمر في العالم العربي، والتي خلقت تعارضاً بين الهويتين القطرية والقومية، بما فرخَ هويات أقلوية يستند لها المركز الإمبريالي الآن في خطته لتجزئة المجزَأ في المنطقة . ثم أن المستعمر الكولونيالي لم يترك للهند، قاعدة استعمارية استيطانية صهيونية، يعتبرها المركز الإمبريالي بالنسبة لمنطقتنا العربية والإسلامية، الذخر الإستراتيجي الذي بدونه لا يسهل إخضاع هذه المنطقة .
ثالثاً : وقد رعى المستعمر الكولونيالي والبريطاني تحديداً بالنسبة لمنطقتنا، حركة إسلامية متشددة أصولية أقامت دولة في قلب الجزيرة العربية، وكما أسهمت هذه الحركة في استنزاف طاقات مشروع محمد علي باستنزاف جيشه العصري، فقد كان لدولتها التي أقامتها برعاية كولونيالية ومن ثم امبريالية، دور فاعل في التخريب على مشروع عبد الناصر، وفي استنزاف قد رأته من خلال حرب اليمن، بما سهل هزيمته في حرب حزيران عام 1967 أمام العدوان الأمريكي – الصهيوني، ومن ثم في جر السادات إلى موقع التبعية،منقلباً على المشروع التحرري والنهضوي الناصري، وتتصدر هذه الدولة الآن وحركتها الوهابية التكفيرية، الهجمة الهمجية التي يقودها المركز الإمبريالي ضد محور المقاومة في المنطقة، مستهدفاً إزاحة العائق بوجه فرض مشروعه الإجرامي الذي أطلق عليه مسمى الشرق الأوسط الجديد، الذي تشكل القاعدة الصهيونية مركزه الحاكم .
رابعاً : لقد رأى البعض بأن تغييب الحياة الديمقراطية في مشروع عبد الناصر مقارنة بمشروع غاندي- نهرو في الهند، هو ما جعل هذا المشروع هشاً أمام المشروع الإمبريالي النقيض . ونعتقد أن هذه المسألة تظل في حاجة إلى دراسة علمية موضوعية بعيداً عن الأحكام الجاهزة . فمما لا شك فيه، هو أن الحياة الديمقراطية، هي البيئة التي تخلق الإبداع وتطلق روح التضحية في مواجهة المشاريع المعادية، لكننا رأينا كيف يطلق الغرب في المنطقة، وحوشاً بشرية بذريعة الانتصار للديمقراطية، مستعيناً بكل أعوانه وأدواته في هذه المنطقة
خامساً : لقد أكتشف المثقفون منذ انطلاق فكر النهضة العربية أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين . بأنه على نتيجة الصراع بين المشروع الصهيوني بوصفه العنوان للمشروع الاستعماري الغربي في المنطقة، وبين المشروع القومي النهضوي العربي، سوف يتقرر مستقبل العالم، وما بدا واضحا، هو أنه مع كل مرحلة من مراحل احتدام الصراع بين المشروعين النقيضين، يبرز البعد العالمي لهذا الصراع، ويبرز وقوف العالم والنظام الدولي، على أبواب مفترق تاريخي .
وهكذا نقول في الختام، بأنه من سورية الآن، يعاد رسم خريطة المنطقة والعالم، ومن سورية يعاد طرح السؤال إزاء مصير مشروع نهوض الأمة لأجيال قادمة . وفيما يدافع شعب سورية بلحمه الحي عن حلم ومشروع الأمة في النهوض مدعوماً من حلفائه، فإن قائدها لا يغفل وهو في غمرة صراع البقاء الذي يخوضه شعبه، أن يرى في بلورة صيغة عصرية للهوية الجامعة للأمة، عاملاً أساسياً لإحراز النصر في هذا الصراع.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى