تأسيس البدايات أوالروح التأسيسية لدى مؤسس البعث الاستاذ ميشيل عفلق

1-   ماذا نعني بتأسيس البدايات ( أو استئناف البدء ) لدى المفكر القومي ميشيل عفلق ؟

اننا نعني المنهج الابداعي والخلاق في التحليل والقراءة النقدية ، والحدس الاستشرافي ، والرؤية الاستكشافية ، ونعني القراءة الخصبة  للواقع العربي التي احدثت قطيعة مع فكر الرجعية والتجزئة والتخلف والظلامية ، والقدرة الفكرية على تعبئة الوعي بالاسئلة الصحيحة في عالم متغير أو في طور التكوين ، وانشاء واقع فكري جديد ، ووضع نقاط البداية الصحيحة للعمل القومي ، والمثابرة النضالية على مداومة التعرض والابداع واشتقاق الحلول ، والعودة الى المباديء التكوينية ، وصياغة المرجعيات والثوابت والمنطلقات ، وانشاء مساحات فكرية جديدة للانطلاق ، وصناعة البدائل ، وعدم الاستسلام للوقائع النكوصية والانحطاطية ، وتوليد المشاريع السياسية الجديدة ، والاحياء والاستنهاض ، والتمسك بقراءة تاريخية حضارية مكوّنه وحافزة ، ومنظور حضاري شامل ، يراجع ويحاور الذات وتراثات العالم ، ورؤية عصرية غير ماضوية ومتوجهة الى المستقبل .

2-   انطوت اللحظة التكوينية الفكرية الاولى لدى مؤسس البعث على تأسيس نقطة بداية معرفية للانبعاث والاحياء ، وتيار سياسي يوجهه الفكر ، ومرجعية استقلالية للنظر، ومنهجية علمّية للتفكير ، تقوم على المبادرة والتخليق والابداع ورفض الاتباع ، والدعوة الى تيار فكري احيائي رسالي عريض موحد غير نخبوي  للأمة ، لاتنتهي مهماته عند مرحلة معينة ، ولاينطوي على عصبية سياسية أو عقائدية ، وانما ينفتح  على الامة بمجموعها ليستنبت فيها الارادة ، ويحاور فيها الوعي والقدرة على الانتهاض  ، لكي يبعدها عن الخمود والاستكانة والاستسلام للواقع ، ولكي يضع مسائل الواقع العربي امام عقلها بطريقة قريبة الى سياقات عقائدها وتراثها وتقاليد نضالها ، وفي صميم تاريخها . وهو لم يسع فيما سعى الى عملية “احياء امة وهي رميم” بالصيغ الانشائية الشاعرية المجردة ، وانما ايقظ الحسّ التاريخي والحضاري في الأمة لكي تبقى متمسكة بثوابتها الاستراتيجية ، وأفكارها الكبرى ، واجترح قراءة واعية للتراث والتاريخ تنقله من حالة التراث والتاريخ الساكن الماضوي العبء ، الى حالة التراث والتاريخ الايجابي الحافز ، عندما قرأ فيها عبقرية الامة وجوهرها وممكناتها ، بعيدا عن المركزية الاستعلائية ، والنرجسية القومية والعصبوية ، ونزوعها الرسالي الحضاري وخصوصيتها القومية الانسانية المقترنة بدين عالمي والنزّاعة الى الحرية .

3-   وفي لحظة تالية أسّس لبدايات فكرية مرجعية حول فهم الظاهرة الاستعمارية وأشكال التحدي الخارجي وارتباطه بالتحدي الداخلي ، وتحليل واقع التجزئة ، وطرق الرد عليها فكانت اطروحة الوحدة التأسيسية والبؤرية ، التي رأى فيها الرد والجواب التاريخي على التحديات التي تواجهها الامة العربية  . وهي اطروحة اخذت موقعا مميزا في فكره ،  وتميزت بواقعيتها وصوابها الاستراتيجي وانسجامها مع توجهات الفكر العالمي ، وضرورتها لبعث واقع قومي واستنهاض أمة مجزأة . كانت اطروحة الوحدة التي جاء بها مؤسس البعث نافية وطاردة للتوحيد الشكلاني ، والتجمعات المرحلية والاصطفافات السياسية ، ومؤسسة لحالة نهضة وانبعاث تاريخي واندماج قومي موضوعي ، وطريقا رئيسا لاكتمال تكون الأمة واستمرارها في التاريخ .

فالوحدة طبقا لهذا الفكر : ثورة لتغيير الواقع العربي ، وهي تتحقق عن طريق النضال والثورة الجماهيرية ولا تتحقق بالامنيات ، وهي الطريق الى فلسطين كما أن الطريق الى فلسطين هي طريق الوحدة ، ولايمكن الوصول للوحدة وتحقيقها بدون الديموقراطية وحركة الجماهير الواعية .

4-   في كل لحظات الانسداد التاريخي التي مرّت بها الامة ، كان الاستاذ يطل بقراءاته ، ومبادراته ، ومداخلاته ، لكي ينير الطريق ويكشف ماانحجب في الواقع العربي أو ماتشوّه وتزيّف ،  ليس من خلال تقديم حلول سحرية ونظرية مجردة ومفارقة للواقع ، وانما من خلال تقديم رؤية وقراءة استنهاضية ، وبرنامج ونموذج ارشادي ، ودليل عمل والتوجه الى الجماهير لكي تضع الاجابات الواضحة ،  فهي المبتدأ وهي التي تصنع التاريخ ، ولكي تتقدم بالحلول وتغيير المسارات . كان خطابه يتوجه دائما وأبدا الى هذه الجماهير العربية التي يعرف هو مقدار وعيها وقدرتها على التغيير والفعل ، وكان يعرف دائما خط هذه الجماهير وبوصلتها القومية .

وكانت مهمته تتلخص بتعميق الوعي القومي ، وتأطيره لكي يتحول الى قوة مادية تدخلية ، تفرض قرارها ووعيها على المعطيات الضاغطة والتحولات الاستثنائية ، والانعطافية ، وفكر الهزيمة . وتجسد ذلك في رؤيته للحزب ودوره التاريخي في بعث الامة العربية ،  في طريقة التحاور مع الايديولوجيات السائدة ونقد فراغاتها ، في الموقف من الدين وتصحيح الوعي به ( فلا دين مع الفساد والظلم  ، والاسلام رسالة وانقلاب وثورة ، ولايمكن تصور العروبة بدون الاسلام ) ، في نصرة ثورة  العراق ضد الاستعمار ، في الموقف من القضية الفلسطينية ( فلسطين لاتحررها الحكومات ) وثورة الجزائر ( مفاجأة الامة لذاتها ) ، في الموقف من الاقليات في الوطن العربي واندماجها في الامة العربية ، وبعد هزيمة الخامس من حزيران أنهض وعي الجماهير العربية بمعادلة فكرية تطالب بالعودة الى المباديء والرد على الهزيمة بالفعل الثوري وتحمل المسؤولية التاريخية ، ونقد الذات والتأسيس لمرحلة جديدة . وبعد تعرض المقاومة الفلسطينية للمؤامرة كان نداء المسؤولية التاريخية . وبعد معاهدات الاستسلام والتراجع امام المشروع الاستعماري – الصهيوني ، كان مشروع العمل المستقبلي الذي طالب فيه التيارات السياسية والفكرية في الوطن العربي الى التوحد في “كتلة تاريخية” لمواجهة التحديات الكبيرة التي تواجه الأمة .

وكان في كل لحظة تاريخية وسياسية حرجة تمر بها الامة ، يقدم أسسا لبدايات صحيحة وواقعية ولا يجنح الى مقولات وأطروحات مجردة  ومثاليات سياسية وفكرية ، وشعارات ارتجالية سرعان ماتتبدد ويزول تأثيرها وصداها . وانما كان يغرس نويات ويخلق ويفتح آفاقا للحركة وتغيير الوقائع ، وتلك كانت قدرته الهائلة  على توليد الأفكار والبدايات في حركة لاتكلّ ولا تملّ من التصدي والتحدي والانبعاث والاستنهاض .

5-   واذا كان هذا هو طريق عفلق ودأبه ومنهجه وتراثه في تأسيس البدايات  ، واذا كنا نقرأ عفلق ونحلل نصوصه ونعيد بنائها في لحظتنا الراهنة ، فالى أي مدى نستطيع أن نسير على دربة ونتمثل منهجه في قراءة الحال العربي والواقع العربي الراهن ؟ وهل نجد في أنفسنا القدرة على التواصل مع فكره واستئنافه واستكماله باضافات جديدة وتعقيبات تجديدية واجتهادات قومية عقلانية ، وتمثله وتجسيده في خلق وتوليد بدايات جديدة يمكن أن تعيد للبعث حضوره في الواقع العربي ، وأن تشد الناس الى مشروعه واطروحاته المتجددة ، وأن تلفت الأنظار الى قدراته الفكرية والسياسية المتجددة ؟

اننا نقول دائما بأننا لايمكن أن ندّعي القدرة على فهم أطروحات ميشيل عفلق وفكره الخلاق والاحيائي الرسالي ، والانتماء اليه والى مشروعه وتياره القومي ، الا بتمثل نهجه وأطروحاته ، وتجسيدها في الواقع العربي تجسيدا فعليا وحقيقيا من خلال أفكار وبرامج وممارسات نضالية وطنية وقومية تواصلية وتكاملية ، وأن نملك القدرة على أن نكون مثله في استئناف البدء في كل لحظة انحسار وتراجع ، وابتداع بدايات لعمل قومي جديد تتجمع فيه أصالة الفكر وراهنيته ومعاصرته ، وحرارة الايمان بقدرة الامة العربية واقبالها الدائم على مواجهة التحديات ، واستلهام القدامة التراثية المعقلنة الحافزة ، والحداثة المتساوقة مع متطلبات التقدم ، وتلك عملية نضالية ثورية انبعاثية لم ولن تكون من نمط المعجزات ، وانما هي مما يجب أن يكون في صميم تفكيرنا الراهن واندفاعنا نحو التغيير .

اننا امام واقع جديد وتحولات مختلفة واستثنائية تدعونا وتجبرنا على استحضار الروح التأسيسية ” التراكمية” الخلاقة لدى عفلق ، وتدفعنا الى التقدم بمشاريع جديدة لتحريك الواقع العربي باتجاهات ايجابية واختراق واقع الاحباط والانكسار .

ولذا نقول بأنه لابد من قراءة سياسية نقدية جديدة للواقع العربي تأخذ في الاعتبار التغيرات التي حصلت في العقود الأخيرة ، وقراءة لواقع الجماهير العربية وممكناتها ، وحراكاتها ، والخلوص الى مشروع سياسي يكون بمثابة الارضية التي يمكن التوافق عليها للنهوض بالواقع العربي الراهن واختراق انسداداته .

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى