المجموعة السائلة..

نصحني أحد الأصدقاء بقراءة ما يسمى بالمجموعة السائلة، لعالم اجتماع كبير يسمى ” ZYGMUNT BAUMAN “، ولثقتي في حكم صديقي على الأشياء، وجاذبية الاسم “المجموعة السائلة”، قرأت عددا من عناصرها.
وبالفعل، أدهشني عمق وعبقرية التشخيص والتوصيف الذي طرحه “زيجمونت باومان”، وللعلم “باومان” هو عالم اجتماع يهودي بولندي توفى عام 2017، وقد تم نفيه من بولندا إلى بريطانيا في سبعينات القرن الماضي بسبب اتهامه بمعاداة السامية، وذلك على خلفية آرائه حول الهولوكوست، حيث قام بتحليله موضوعيا، معربا عن وجهة نظره بأن الهولوكوست جاء تطورا طبيعيا للفكر الغربي، وله كتاب هام في ذلك الصدد.
نعود مرة أخرى للمجموعة السائلة؛ هي عبارة عن عدة مؤلفات تحت عناوين (الحداثة السائلة، الحياة السائلة، الأزمنة السائلة، الثقافة السائلة، المراقبة السائلة، الحب السائل، الخوف السائل)، يرصد من خلالها “باومان” المتغيرات التي أصابت البشرية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى الآن، وكما يتضح من اسم عناصر المجموعة فالمشترك بينها هو مصطلح السيولة.
ذلك المصطلح الذي أراد به “باومان” أن يحلل من خلاله الحالة التي تمر بها البشرية الآن.
وباختصار شديد، استطاع “باومان” أن يضعنا بعبقرية أمام تشخيص واقعي لما نعايشه جميعا اليوم؛ من ضياع للقيم والمقدسات والأخلاق والتراث والثوابت والمبادئ ….إلخ وطغيان المادة والحياة الاستهلاكية.
يقول “باومان” أن البشرية اليوم، تشهد حالة من عدم اليقين، فوتيرة التغيير على خلفية ثورة الاتصالات والمعرفة، والتكنولوجيا الرقمية، صارت كبيرة بما لا يسمح بالاحتفاظ بالثوابت والمبادئ والقيم، مما يجعلنا نعيش في حالة من السيولة .. سيولة في كل شيء، في الحياة، في الشعور بالزمن، في الخوف، في الحب، في الثقافة، لا ثابت .. لا يقيني، كل شيء قابل للتغيير، قابل للاستهلاك.
يرى “باومان” أن قيمة الاستهلاك صارت هي الطاغية، كل شيء أصبح قابلا للاستهلاك، للنسبية للتفاوض للأخذ والعطاء، حتى المشاعر الإنسانية، حيث يهيمن وحش المادية، وسيطرة آلة الرأسمالية.
وفي كتابه البديع والهام عن “الحياة السائلة” الفصل الأول يتحدث عن الانسان، الذي صار يُدفع دفعا لأن يصبح كائنا استهلاكيا بحتا؛ وأن يثبت وجوده وقيمته من خلال الاستهلاك؛ فكلما أنفقت أكثر كلما أثبت وجودك، وكانت لك قيمة أكبر في مجتمعك ومحيطك.
ينطلق “باومان” من فكرة أن قيمة الاستهلاك في حد ذاتها هي ضد الثوابت، ضد الصلب، فهي قيمة قائمة على أن كل شيء وأي شي لابد أن يكون له فترة صلاحية وينتهي ليستبدل بغيره، فلكي تشتري مرة تلو المرة بلا نهاية لابد أن يكون لكل شيء نهاية، حتى الحب والزواج والمشاعر الإنسانية.
ويضرب لنا مثالا على ذلك ” فرب الأسرة الذي يعمل عددا من الساعات يوميا للحصول على راتبه أخر الشهر، تحت طغيان الحياة المادية، يضطر لقضاء وقت أطول، للحصول على راتب أكبر، هذه الساعات التي يستقطعها من وقته الذي كان يجب أن يقضيه مع زوجته وأبنائه، يحاول أن يعوضهم عنه من خلال شراء لعب أو وجبه في مطعم فاخر …إلخ من السلع الاستهلاكية، ليعبر من خلال ذلك عن مشاعره لهم” هنا – كما يقول باومان- لم يعد الحب مقدسا صلبا راسخا، بل صار سائلا قابل للتفاوض؛ فحبي لك يزيد ويقاس بقدر ما أقدمه لك من أشياء مادية استهلاكية، وليس بقدر المشاعر .. قس على ذلك الأخلاق والثقافة.
مثال آخر، مؤسسة الزواج التي كانت تقوم على البقاء والاستمرار، والتضحية وتحمل الحياة في السراء والضراء، باتت في مهب الريح، وما ظاهرة الطلاق المبكر، أو انتشار العلاقات الجنسية خارجها إلا دليل على ذلك.
لقد صارت الروابط والعلاقات بين الرجل والمرأة أشياء نستهلكها، وتخضع لمعايير الاستهلاك الأخرى، صارت مسألة تتعلق بإشباع الرغبة بمنتج جاهز للاستهلاك، وإذا كانت اللذة الناتجة عنه دون المستوى المتوقع أو تراجعت أو انتهت يتم التخلي عنها والبحث عن منتج جديد أو بديل.
وهكذا، كل شيء في مجتمع الاستهلاك اختياري باستثناء فكرة الاستهلاك ذاتها فهي اجبارية؛ حتي يستحيل نموذج الحياة الذي نعيشه بحث لا نهائي عن الأشياء التي نستهلكها.
وفي هذا الاطار، ينفق أصحاب رؤوس الأموال والمنتجين المليارات على الإعلانات لخلق رغبة لا متناهية في الاستهلاك لدى الفرد.
ويضرب لنا “باومان” مثالا على ذلك بالفرق بين الصحة واللياقة؛ فالصحة هي الحالة السليمة للجسد الذي تقوم أجهزته بوظائفها الحيوية بكفاءة، تلك الكفاء التي يمكم قياسها مثل مستوى السكر أو ضغط الدم، بما يجعل هناك نموذجا للجسم الصحيح، يمكن الاكتفاء به.
أما اللياقة؛ فهي مفهوم سائل لا يمكن ضبطه، ولا يتخذ شكلا محددا، فهناك لياقة أقل ولياقة أعلى، وفي كل مرحلة من مراحل اللياقة هناك مرحلة أعلى تطوق للوصول إليها، وهذا بالضبط ما تفعله السيولة التي يعيشها الانسان الآن.
هذا النموذج الحياتي يحمل في مضمونه فكرة القلق والخوق المستمر، فالإنسان يركض في مضمار لا نهاية له، بلا هدف، لا يستطيع التوقف أو النظر ورائه، فقط الركض، وإلا سقط وتسحقه أقدام الآخرين، وهذا هو الجحيم بعينه.
وبلا شك، هذا الوضع تعززه بكل قوة الرأسمالية العالمية، وهو ما دفع البعض بأن يطلق على المرحلة التي نعيشها الرأسمالية المتأخرة.
الحقيقة، إن من يقرأ المجموعة السائلة يستطيع أن يصل إلى تصور وتشخيص دقيق للحالة التي تعيشها البشرية حالياً، وسوف يجد تفسيرات لكثير من الأسئلة التي تدور بخلده، ولكنه سيصاب ربما بأسئلة أكثر لم تكن تساوره من قبل.

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى