فيروس كورونا يهدم نظرية فوكوياما حول العولمة والديمقراطية ونهاية التاريخ
القاهرة – أثار تفشي فايروس كورونا المستجد في أنحاء العالم موجات من التشكيك في مُسلمات فكرية ظلت نموذجية لكثير من حركات الإصلاح السياسي، وتعامل الناس معها لعقود على أنها ثابتة ولن تنالها تحولات حاسمة.
وأسقط انتشار الفايروس فرضيات عديدة تصور أصحابها أنها مقدسات تحمل صفة اليقين، بينها نظرية المفكر الأميركي فرانسيس فوكوياما الرائجة، والتي أطلقها في كتابه “نهاية التاريخ” منذ حوالي ثلاثة عقود، والمتمثلة في كون الديمقراطية بمفهومها الغربي وقيمها المتعلقة بالحرية الفردية، أفضل ما وصل إليه تطور العلم السياسي، وسلطة الدولة تتراجع مع التطور الرأسمالي ويبقى حد ضئيل من التنظيم والتحكم.
وتسببت الجائحة الجديدة في توجيه الكثير من الانتقادات التي تثبت ضعف نظرية فوكوياما، على اعتبار أن الليبرالية بمفهومها الغربي تُقلل من قدرة الدول على مقاومة الأوبئة، وبدت الدول الأكثر شمولية والأشد تسلطا والأوسع تحكما أقدر على توفير الحد من انتشار الأوبئة وأصلح لشعوبها في الحفاظ على أرواحهم.
ويرى بعض الخبراء أنه من المبكر التوصل إلى أحكام قاطعة بشأن ما خلفه الفايروس من آثار على أنماط تفكير وهدم نظريات، لأن تداعيات الأزمة لا تزال في إطار عدم اليقين، بمعنى أنه ليس قطعيا إن كان التعامل في الدول الشمولية مثل الصين مع الأزمة سوف يواصل صعوده أم لا.
يبدو الخروج بحكم بات، ورؤية قاطعة، بشأن أي النظم السياسية أصلح للتعامل مع الأزمة مسألة صعبة بسبب غموض الفايروس واختلاف درجة شراسته من مكان لآخر، فضلا عن سرعة تحوره وانتشاره وتنوع تأثيراته.
وإذا كان من الصحيح القول إن النظم المعبرة عن الليبرالية الجديدة فشلت تماما في مواجهة الوباء، فإن هناك نظما شمولية عاتية فشلت أيضا في المواجهة، مثل النظام الإيراني الذي لم ينجح رغم السلطات الواسعة الممنوحة له في وقف تفشي المرض.
ويؤكد هذا الاستنتاج أن كورونا لا يُعيد التبشير بالنظم الشمولية على نطاق واسع بحكم أنها قادرة على اتخاذ إجراءات صارمة لحماية الشعوب، لكنه يكشف مكونات الترهل الذي ظهرت معالمه على القيم الليبرالية، بما يفرض إعادة النظر في بعض قواعدها.
كورونا يسقط فرضيات عديدة تصور أصحابها أنها مقدسات بينها نظرية فرانسيس فوكوياما في كتابه “نهاية التاريخ”
كورونا يسقط فرضيات عديدة تصور أصحابها أنها مقدسات بينها نظرية فرانسيس فوكوياما في كتابه “نهاية التاريخ”
ونجحت الصين وبعض دول آسيا في فرض إجراءات مشددة للحد من اتساع العدوى مبكرا، في الوقت الذي عجزت فيه كثير من الدول الليبرالية عن كبح انتشار المرض منذ البداية، الأمر الذي اضطرها إلى اتخاذ جملة من الإجراءات الاستثنائية التي تتناقض مع القيم والمفاهيم النظرية التي اعتمد عليها فوكوياما.
وأكد أشرف منصور، أستاذ الفلسفة بجامعة الإسكندرية، لـ”العرب”، أن الصين استطاعت عزل إقليم كامل يضم عشرات الملايين من البشر، هو إقليم ووهان، عزلا كاملا والانتصار على الوباء، ولو مرحليا، بفضل سلطة الحكومة وقدرتها على إلزام المواطنين بسياساتها الاحترازية.
وتوقع أن تنهار الكثير من سياسات الدول الغربية التي سعت على مدى عقود طويلة إلى تكريس فكرة تغييب الدولة، فنظام الرعاية الصحية الذي كان أحد خصائصه غياب دور الدولة أثبت فشله تماما في مواجهة مارد مجهول السمات.
وأوضح أن دولا رأسمالية كبرى مثل الولايات المتحدة اضطرت إلى التدخل في الاقتصاد، وبدا الرئيس الأميركي دونالد ترامب يقوم بتكليف شركات كبرى خاصة بالعمل على إنتاج أجهزة تنفس صناعي، ما يعني أن الدولة لو كانت لديها شركاتها الحكومية الكبرى لاتخذت مثل هذه القرارات دون تردد.
وأصبحت مسألة إنتاج لقاح مضاد للفايروس تخص الحكومات أكثر من الشركات الخاصة نظرا لما يحتاج إليه ذلك المصل من تكاليف باهظة قد تتردد الشركات في تحمل تكاليفه طبقا لدراسات الجدوى وحسابات الربح والخسارة.
وفي حال تصنيع المصل، فإن أمر التطعيم به سيتم بشكل إجباري وليس اختياريا، لأن الأثر يتجاوز حدود الفرد نفسه، وهنا فإن إحدى السمات الأساسية لفكرة نهاية التاريخ وهي الحرية الفردية ستنهار تماما.
وقال جمال أبو الحسن، المحلل السياسي، إن الليبرالية الغربية معاكسة للثقافة الجماعية، لأن إيمان الناس بحرياتهم يجعل من الصعوبة تغيير أنماط معيشتهم بشكل حاسم، لكن الثقافة الجماعية الموجهة من الدولة تتفاعل بشكل أسرع مع مثل هذه الظروف.
وأضاف أن كورونا المستجد يعضد من سلطوية الدولة، وتطبيق الصين لنظام رقابة رقمي صارم وملزم لكافة المواطنين يسجل درجة حرارة كل فرد يوميا ويتنبأ بالحالة الصحية لكل مواطن ساهم في الحد من انتشار الفايروس.
ولم تستطع المنطلقات التي تأسست عليها نظرية فوكوياما الثبات، ولم تنجح قواعدها في التصدي للانتقادات التي تعرض لها الرجل وأفكاره، وهو ما اضطره قبل نحو عام إلى مراجعة أجزاء فيها، حيث وضع أفكارا جديدة في كتاب أصدره حمل اسم “الهوية” رصد فيه وجود جنوح نحو القبلية والقومية، وهو ما لا يتأتى دون دور أكبر للدولة يتجاوز ما سبق وأسماه بالحد الأدنى من السلطات.
وأصبح فوكوياما مطالبا مرة أخرى بإعادة النظر في مسلمات تضمنها كتابه الأول، بعد أن عصف كورونا بأجزاء مهمة فيها، فالعالم على وشك الدخول في منظومات متباينة يمكن أن تهدم بعض الأركان التي اعتمد عليها، وتجبره على التخفيف من الاندفاع وراء ليبرالية الفرد والمجتمع بلا ضوابط صارمة.
وأشار محمود أباظة، رئيس حزب الوفد الليبرالي الأسبق، إلى أن الدول الغربية شهدت صراعا ساخنا حول أولويات مواطنيها في مفاضلة بين الأمن والحرية، وخلصت إلى أن حاجة الناس للأمن قد تكون أكبر وأهم من حاجتها إلى الحرية.
ولفت إلى أن حرية التنقل والتجارة في تلك النظم ليست مطلقة كما يتم الادعاء، ففي أميركا مثلا شركات السلاح خاصة، لكن لا تملك الحرية في بيع منتجاتها إلا بموافقة وزارة الدفاع الأميركية.
ومن المرجح أن تعيد الجائحة تشكيل جملة من المحددات المتعلقة بالأنماط الحاكمة للسياسة في العالم، والنظم التشريعية كما أنه من المتوقع أن تؤدي القيود التي نالت من أشد خصوصيات الأفراد إلى تغيير كبير في منهج فوكوياما ونهاية التاريخ، وأنصار المدرسة التي اتبعته، من هنا يتعزز القول إن كورونا كسر الكثير من النظريات التي ظلت راسخة في أذهان قطاعات كثيرة.