[ الأخلاق … و السّياسة ] ما لم تَتَدارَكْهُ ” الدّولة “.. و ما لم تفهمه ” المعارضات “

■ نستطيع المناداة بدولة الأخلاق و ليس بأخلاق الدّولة ، فالدولة ليس لها أخلاق ..
كذلك ليس للسّياسة أخلاق .. و إنّما هنالك ، دوماً ، دولة للأخلاق ، و هنالك ، أيضاً ، أخلاق في معرض ممارسة الدّولة لواجباتها ” الكلّيّة ” ، في السّياسة . ■
■ و إذا كنا نقول ، بأنّه ليس للسّياسة أخلاقٌ ( ليس هنالك أخلاقٌ سياسيّة ) تحكمها وفق التّصوّر الإنسانيّ الذي يهدف إلى اختزال المعرفة بالأخلاق .. ، فإنّ الأمر لا ينطبق على “سياسة الأخلاق” أو ما نسمّيه بِ”السّياسة الأخلاقيّة” . و بقليل من الأناة ، سيكتشف القارئ ما هو الذي فرّقنا به ، و كيف ، بين “أخلاق السّياسة” و “سياسة الأخلاق” .■

1▪︎ من خلال ما تنشط به أقلام الأصدقاء على هذا المنبر ، وجدتُ أنّ الكثيرين المحترمين منهم منشغلون بقضيّة مبدئيّة في الفكر السّياسيّ التّاريخيّ ، و هي علاقة الأخلاق بالسّياسة أو علاقة السّياسة بالأخلاق ..
و لقد شعرتُ بأنّ الاهتمام المعاصر بالسّياسة و الأخلاق هو أمرٌ يعود إلى انتباه الشّعور السّوريّ “العامّ” إلى أهمّيّة المسألتين الأخلاقيّة و السّياسيّة ، نتيجة لما شكّلته الحرب السّوريّة من مناسبة تاريخيّة تتعلّق بضرورة فحص تعاطي رجال السيايدسة لواجباتهم و التزامهم بأصول تنفيذها ، بخاصّة ، في منظومتي القيم و الوجدان الاجتماعيّتين في معرض متطلّبات السّياسة العامّة ..
هذا التّعاطي الذي يُفصح في مناسبات كثيرة عن أصالة أو عن عدم أصالة نخبويّة سياسيّة ، أو عن ارتباك “صادق” في ممارسة شؤون “المصلحة العموميّة” ، أو عن اهتبالٍ احتياليّ مأساويّ أخلاقيّاً و متهتّك سياسيّاً ، و صريعٍ ، للفرصة التي تحيط بالظّروف المستجدّة التي خلّفتها الحرب ، أو عن قلقٍ اجتماعيّ و أخلاقيّ واضح و حقيقيّ ، عامّ و شامل و عميق ، و صريح ، لأوّل مرّة في ( سورية ) الحديثة و المعاصرة ، إن لم يكن يبتعد إلى ما هو أقدم من هذا إلى عصور ماضية قريبة و بعيدة ، أيضاً .
2▪︎ إنّ عودة هذه الإشكاليّة الدّائبة للعمل السّياسيّ في “الشّأن العامّ” ، اليومَ ، بهذه الحِدّة و المسؤوليّة الاجتماعيّة و “النّخبويّة” ، إلى مسرح الحدث و دائرة السّطوع ، و التي تذكّر بأصولها البعيدة ، يحتّم الوقوف على سرديّتها التّقليديّة . .
غير أنّ عودتها ، اليومَ ، و تأجّجها في هذه “الجينالوجيّة” المستمرّة ، هو أمرٌ يشير إلى مسألتين بالغتيّ الأهمّيّة الاجتماعيّة و السّياسيّة :
○ الأولى ، هي هذه الأهمّيّة المركزيّة التي تحتلّها العلاقة ما بين السّياسة و الأخلاق ، على مرّ العصور التّاريخيّة وصولاً إلى زمننا الحاضر ؛
○ و الثّانية ، هي أنّ الحرب الكونية على سّوريّة وامتداداتها الداخلية ، قد عرّت جملة من الأخلاقيّات العمليّة التي حكمت مبدأ هذه الجائحة السّياسيّة التي ألمّت بسورية ، سواءٌ كان ما نتحدّث عليه هو سلوك قطعان المعارضات السّوريّة المزعومة التي أبدت سلوكات أخلاقيّة سياسيّة شائنة ، أم بعض الأشكال الدّنيئة المختلفة التي اتّخذتها تصرّفات و أعمال أفرادٍ و جماعاتٍ من المؤسّسات “الوطنيّة” المحيطة بظروف الحرب و بما يتّصل بتاريخيّة هذه الأنماط السّلوكيّة التي تعود إلى ما قبل الحرب بقليل أو بكثير .
3▪︎ و كنّا قد تناولنا مسألة علاقة السّياسة بالأخلاق في غير مناسبة ، و لكنْ في سياق بحثنا في عناوين أخرى ، على هذا المنبر ، و لم نكن قد خصّصنا ، بالفعل ، عنواناً مستقلّاً للانفراد بهذه المسألة الهامّة و المعقّدة كما ينبغي أن يكون الاهتمام ..
و إذا كان ما تقدّمنا به ، أعلاه ، يحتّم علينا ، من باب المسؤوليّة الأخلاقيّة الاجتماعيّة و السّياسيّة المعطوفة على مصيرنا ، مصير شعبنا العربيّ السّوريّ ، أن نقوم ، من جديد ، بالإضاءة المباشرة على هذه المسألة التّاريخيّة التي كثر فيها الحديث في جميع الأزمنة ..
فإنّ ما يدفعنا ، بالأحرى ، إلى هذا ، هو أنّنا نَعْبُرُ ، اليومَ ، جسراً انتقاليّاً و تأسيسيّاً ، سياسيّاً و أخلاقيّاً ، نحو مستقبل مختلف و مفتوح ، ربّما كان من الحكمة أن نولِيه اهتماماً بمسؤوليّات عالية لا تقلّ ، بطبيعتها ، عن كونها واجبات تأسيسيّة في الاجتماع و السّياسة و العدالة الاجتماعيّة و الأخلاق ، في وقت واحد ..
و هذا أمرٌ سياسيّ بالدّرجة الأولى و لكنّه يمرّ عبر موقف عقلانيّ يجعل في مركز عنايته الفلسفيّة السّياسيّة ، البُعْدَ المعقوليّ للسّياسة في الأخلاق ، و البعد المعقوليّ للأخلاق في السّياسة ، من دون الإغراق في تطرّف السّلوك الأخلاقويّ في الإفراط و التّفريط .
4▪︎ ليس من باب المبالغة أن نقول إنّ مجتمعنا العربيّ السّوريّ يسشهد وسوف يشهد ، اعتباراً من الآن ، تغيّرات أنثروبولوجيّة تاريخيّة حقيقيّة ، سوف تشمل كلّ عناصر الأنثروبولوجيا التّكوينيّة من ثقافة و قواعد سلوك و أشكال اعتقاد و طقوس تديّن و انقطاعات سرديّة جماليّة ، في إيقاع التّوليفة الفرديّة و الجماعيّة و الاجتماعيّة ، بل و حتّى في أشكال الظواهر البشريّة ، نتيجة التّغيّرات المورفولوجيّة ، التي ستقتضيها طبيعة علاقات الاندماج و التّزاوج و الاتّصال و الانفصال و الاختلاط المعاصرة و المستقبليّة ..
لقد آن لنا أن نفهم و نعتقد بأنّ الحرب شكّلت قطعاً تاريخيّاً عميقاً و مديداً غير قابل للانعكاس ..
و لأنّ الأنثروبولوجيا السّياسيّة التّاريخيّة ليست سوى هذه الظّرفيّة المتوالية لقواعد السّلوك و الثّقافة و الأداء الظّرفيّ و كيفيّاته الشّكليّة ، في مناسبات الشّأن الخاصّ و العموميّ ..
و جاز لنا ، إذاً ، الاهتمام حتّى أقصاه بجميع العناصر السّياسيّة المكوّنة للمسؤوليّة الأخلاقيّة التي تميّز الأهمّيّة المنفردة لسلوك رجال السياسة عامة و “رجل الدّولة” خاصة ، بوصف هذا السلوك ظاهرة تاريخيّة ، من جهة ..
و ذلك بالإضافة إلى أهميّة الطّابع الأخلاقيّ العامّ لواجبات الفئة السّياسيّة الحاكمة ، من جهة أخرى ، لكونها المعبّر العمليّ المباشر عن فلسفة الدّولة و الحكم الذي يحكم عليه الأداء قبل المغامرة المقلقة بانتظار النّتائج .
5▪︎ في الواقع ، يكاد لا يقف التّاريخ بوضوح على بداية محدّدة لانشغال البشريّة بأخلاقيّات الحكم و أخلاق السّياسة في إطار الواجبات العامّة ، التي يُحتّمها العرف و القانون على قواعد العمل و السّلوك ، بما في ذلك صفات أولئك القائمين على مقدّرات الشّعب في إطار التّربية السّياسيّة و الاجتماع و الاقتصاد و الحاكميّة و القيادة و السّلطة و السّياسة كعلم و فنّ في أصول ممارسة هذه السّلطة و تلك السّلطات .
سأجازف ، هنا ، بالقول مع ( هـ . ج . كريل) إنّه ربّما يدفع العالَم ، كلّه ، اليوم ، ثمناً باهظاً ، و سوف يدفع ثمناً أكبر ، في المستقبل ، نتيجة إهماله دراسة المكوّنات التّاريخيّة للأصول الفلسفيّة السّياسيّة و الأخلاقيّة ، تلك التي نعرف عنها القدر الكافي ، الذي يجعل منها ثوابت اعتباريّة في تاريخ الدّولة القديمة التي كانت مبكّرة في الثّقافات السّياسيّة القديمة جدّاً ، كما هو الأمر ، مثلاً ، في الثّقافة السّياسيّة الصّينيّة .
[ انظر : الفكر الصّينيّ من كونفوشيوس إلى ماوتسي تونغ . هـ . ج . كريل . ترجمة : عبد الحليم سليم . مراجعة : على أدهم . الهيئة المصريّة العامّة للتّأليف و النّشر . الطّبعة الأولى- 1971م] .
و نحن نرى أنّ هذا النّموذج ( الصّينيّ ) يستمرّ ، اليومَ ، بأعجوبة فريدة ، في نموذج تاريخيّ يبدو أن احتذاءه صعبٌ على الفكر الانعزاليّ العالميّ ، و الغربيّ ، بخاصّة ، و الذي يخنقه تقليد ثقافة “الحداثة” و “ما بعد الحداثة” التي تتعبّد لدين التّكنولوجيا ، تقليداً أعمى و قاصراً في محاكاة الظّواهر السّياسيّة في نتائجها ، من دون اعتبار ظروف الحدث أو الأحداث المشخّصة في حقول الممارسات .
إنّه من الملهم بما لا يمكن تحديده ببساطة هذا النّموذج الصّينيّ الثّقافيّ و السّياسيّ و الأخلاقيّ و الاقتصاديّ المعاصر ، و الذي يختزل أرقى فكر و علوم “ما بعد الحداثة” العالميّة من معطيات العلم المعاصر و أفكار الشّيوعيّة الماركسيّة المضافة إلى أقصى شكّ بالمعطيات الأخلاقيّة و السّياسيّة لِ”النّهضة” و “التّنوير” الأوربيين ، ليختزنه في مُفاعل الرّوح الصّينيّة بتقاليدها السّياسيّة و الأخلاقيّة التي تعود إلى ما يقارب الألفيّ عام قبل الميلاد وفق ما هو ثابت و مكتوب .
ليس من باب المصادفة أن تتفوّق ، اليومَ ، شعوبٌ في العالم كالشّعب الصّينيّ ( و غيره كالشّعب الإيرانيّ ، مثلاً لا على الحصر ) في أتون تسارع و احتراق زمن العالم المعاصر .
( قبل فجر العهد المسيحيّ ، كان بعض أبناء الفلّاحين في الصّين يدرسون الفلسفة ، و قد مضى أكثر من ألفي سنة منذ أن عُيّن رئيس وزراء لإمبراطوريّة الصّين كان في سابق عهده راعياً للخنازير ، و كان قد رُئِيَ تعيينه في هذا المنصب لتمكّنه في فرع من فروع الدّراسات القديمة . و كنت أعرف أيضاً أنّه في معظم الأوقات ، خلال الألفيّ سنة الماضيين ، كان الكثير من الوظائف العليا في البلاد يُملأ على أساس عقد اختبارات بمسابقات يكون دخولها مباحاً لكلّ الذّكور تقريباً (…) و كان يأمل كلّ صينيّ ، حتّى أقلّهم شأناً ، أن يجد إسم قريب له ، أو أحد أفراد مدينته أو على الأقلّ أحد أفراد مديريّته من بين المنتخبين ) .
[ المصدر السابق ص ( 11 ) ] .
و نحن نستطيع تتبّع إشعاع تلك الحضارة السّياسيّة الأخلاقيّة بالتّوثيق بالكتابة حتّى إلى حوالي عام ( 1400 ق. م ) من خلال كتابات صينيّة وردت من مدينة كانت عاصمة لملوك ( شانج Shang ) و كانت مركزاً لحضارة (ثقافة) متقدّمة .
[ المصدر . ص(23) ] .
لم تكن تعاليم ( كونفوشيوس ) الأخلاقيّة السّياسيّة مفاجئة في تاريخ الصّين ، حيث ينتمي ( كونفوشيوس ) إلى أفراد قبائل حُفاة غزت سنة ( 1122 ق. م ) ثقافة ال”شانج” المتقدّمة ، ليؤسّسوا ، نتيجة هذا التّفاعل العميق بين “الفروسيّة” و “الثّقافة” أسرة ( تشو Chou ) التي منها تحدّر ( كونفوشيوس ) في القرن السّادس قبل الميلاد .
– عاش ( كنفوشيوس ) في ظروف كان للانتهازيين ( بلغة عصرنا ،اليوم ) امتيازات و حصانات جائرة في ظلّ إمبراطوريّة ( تشو ) ، و كان هو سليل عائلة أرستقراطيّة ، ولكنه سيء الظّنّ بالأرستقراطيين أنفسهم ، قد انتصر لمعاناة “الشّعب” في عالم كان يراه مفكّكاً تفكيكاً يبعث على الحزن .
كانت أوّل دعوات ( كونفوشيوس ) في الأخلاق السّياسيّة متوجّهة نحو “العدالة الاجتماعيّة” ، و قد انطلق ، أوّلاً ، من مستوى الفرد الأخلاقيّ ، فقال :
( إذا ما أحسستُ بقلبي أنّني مخطئ ، وجب عليّ أن أقف خائفاً حتّى لو كان خصمي أقلّ النّاس قوّة ، و لكنّني لو أحسستُ بقلبي أنّني على صواب ، فسأسير قدماً حتّى و لو كنت سأواجه آلافاً أو عشرات الآلاف ) .
[ المصدر . ص(45) ]
لم يكن ( كونفوشيوس ) مسالماً ، و كان يزدري الفصاحة و الّلغة المنمّقة ، ( فليست هناك أيّة وثيقة تثبت أنّه ألقى أيّة محاضرة عامّة ) ،
[ المصدر . ص(46) ]
ما يُذكّرنا بِ ( سقراط ) و هجومه على منطقيّة و تمنطق “السّوفسطائيين” .
و كان ( كونفوشيوس ) يردّد دائماً :
( من الصّعب أن نتوقّع أيّ شيءٍ من أناس يمتلئون من الطّعام طوال اليوم ، في حين أنّهم لا يستعملون عقولهم في أيّ سبيل على الإطلاق ) .
كان ( كونفوشيوس ) يرفض جميع أشكال التّمايز الطّبقيّ ، و بخاصّة في مجال “التّربية و التّعليم” الذي يجب أن لا يكون فيه “تفرقة طبقيّة” .
ترك لنا ( كونفوشيوس ) إرثاً عظيماً في علم و فن الإدارة و السّياسة ، ما يجعلنا ننظر إليه بوصفه أباً للأخلاقيّة السّياسيّة أو للسّياسة الأخلاقيّة ( الّلتين سنعمل عل التّفريق بينهما في نهاية حديثنا ) ، إذ كان في مستوى عميق الواقعيّة من الجدّيّة الأخلاقيّة التي على “رجال الدّولة” أن يتمتّعوا بها ، حيث كان يتساءل حول أنّه إذا كان “الحكّام” قادرين و جادّين تماماً في التّضحية من أجل أنفسهم و من أجل آبائهم و أجدادهم ، فلماذا لا يكونون بالمثل جادّين كذلك في الاهتمام بحكمهم للأقاليم .. ؟!
كان ( كونفوشيوس ) فيلسوفاً في ما يتعلّق بأخلاق السّياسة ، فلم يكن لتغي عنه تلك الفوارق الظّرفيّة الخطيرة في علاقة الفرد بالمجتمع . لقد آمن بأنّ ضمير الفرد يجب أن يمنعه بالمثل سواء من الانسحاب من المجتمع أو من أن يُخضع له حكمه الأخلاقيّ . و هو ما يقوله بأنّه من الخطأ أن تصبح “انعزاليّاً” أو أن تتبع “الجماعة” .
من أهمّ ترجمته لأخلاقه السّياسيّة ، كان ( كونفوشيوس ) يرى أن المصلحة العامّة ، للجميع ، لا تتحقّق إلّا إذا تولّى شؤون الحكم (؛أعظم الرّجال كفايةً في البلاد ) . و أما هذه الكفاية فلا تتعلّق لا بالمولد و لا بالمكانة الاجتماعيّة و لا بالثّروة ، و إنّما هي خاصّة بالخُلُق و المعرفة .
[ المصدر . ص(64) ]
يستمدّ نظام الطّاعة السّياسيّ جوهره عند ( كونفوشيوس ) من النّظام الطّبيعيّ الكونيّ و التّراتبيّ الاجتماعيّ للطّاعة ؛ (؛فالحكومة التي لا تُطيع و لا تُطاع ليست حكومة ) .
[ فلسفة الأخلاق و السّياسة- المدينة الفاضلة عند كونفوشيوس . دكتورة هالة أبو الفتوح أحمد . دار قباء للطّباعة و النّشر و التّوزيع . القاهرة . الطّبعة الأولى- 2000م . ص( 135- 136 ) ] .
و عند ( كونفوشيوس ) فإنّ المجتمع بلا حكومة و بسلطة عليا ، هو “مجتمع فوضويّ و غابيّ” .
و “يؤكّد كونفوشيوس على أنّ الحكومة يجب عليها ألّا تضحّي بشعبها ، حتّى تحافظ على نفسها”[!] .
[ المصدر . ص(139)]
نسبَ ( كونفوشيوس ) إلى “الحاكم” ( أو رجل الدّولة كما نسمّيه ، اليوم ) أعلى درجات المسؤوليّة الأخلاقيّة داخل الدّولة . بمعنى أنّه إذا تمكّن من تحقيق أعلى مستويات السّموّ الأخلاقيّ في حياته ، فإنّه لن يضمن استمراريّته في السّلطة و قيادته للشّعب فحسب ، بل ستنتشر فضيلته في كلّ الإمبراطوريّة أو الدّولة . يقول : “عندما يملك الحاكم الفضيلة فإنّه سوف يستحوذ على الشّعب ثمّ يملك الدّولة” .
[ المصدر . ص(140- 141)]
7▪︎ في جهة أخرى من العالم ، كان ( سقراط ) يُقيم فلسفته الشّهيرة في الأخلاق السّياسيّة على أنقاض تلك التي بشّر بها “السّوفسطائيّون” و التي أقاموها على “فن الخطابة” و “البلاغة” و “البيان السّياسيّ” و “مهارات الإقناع” و “الفصاحة” الشّكليّة الفارغة للقول ، و باختصار على جميع ما ندعوه ، اليومَ ، بِ”الأيديولوجيا” و المنفعة السّياسيّة المؤقّتة .
و عند ( سقراط ) فإنّ مسؤوليّة سعادة الآخرين تقع على عاتق “أصحاب المعرفة” .
تكاد تعاليم الفلسفة السّياسيّة الأخلاقيّة أن تستحوز على الكثير ممّا لا حصر له من محاورات ( سقراط ) و ( أفلاطون ) .
فإذا أخذنا مثالاُ على ذلك “الكتاب الأوّل” من “الجمهوريّة” لِ( أفلاطون ) ، نجده يبحث بحثاً مباشراً في “العدالة” السّياسيّة التي عليها تقوم فلسفته في السّياسة و الأخلاق .
فبعد أن أصدر ( ثراسيماخوس ) حكمه على “العدالة” بأنّها “فائدة الأقوى” ، يستهجن ( سقراط ) بشدّة و سخريّة مريرة هذا الحكم , فيورد من أجل ذلك حججاً بليغة ، في أنّ “الحاكمين” كثيراً ما يُشرّعون و يعملون ما هو ضارّ بهم هم أنفسهم و بالآخرين ، إلى أن ينتهي ( سقراط ) بإثبات العكس ، و هو أنّ كلّ علم و فنّ إنّما يهدفان ، على العكس ، إلى فائدة ( منفعة ) “الأضعف” و ليس إلى “فائدة الأقوى” ..
ذلك لأنّ ( الرّبّان أو الحاكم لا يطلب فائدته الشّخصيّة و لا يوجبها ، بل يطلب فائدة البحّارة و المحكومين ) :
( و هكذا يا ثراسيماخوس كلّ أرباب الأحكام في مناصبهم لا يكترثون لمصالحهم الشّخصيّة و لا يوجبونها ، بل يكترثون لمصالح الرّعيّة التي لأجلها يمارسون مهنتهم ؛ و إنّما في كلّ ما يقولون و يفعلون يصرفون النّظر عن أنفسهم و عمّا هو مفيد و ملائم لهم ) .
[ راجع : جمهوريّة أفلاطون – الكتاب الأوّل ]
( فلذلك يا ثراسيماخوس لا يسعى الأفاضل إلى تبوّء المناصب رغبة منهم في حشد المال ، و لا طمعاً في إحراز الشّرف ؛ و أمّا الأوّل ، فلأنّهم لا يريدون أن يُدعَوا مأجورين بقبضهم المال علناً ، أو لصوصاً بقبضه سرّاً ؛ و أمّا الثّاني ، أي أنّهم لا يرغبون في المنصب لأجل الشّرف ؛ فلأنّهم ليسوا من ذوي الأطماع” .
هكذا يصيغ ( أفلاطون ) أخلاق السّياسة التي عليها ينبغي أن تكون أخلاق الحاكمين .
8▪︎ و أمّا ( أرسطو ) فيرى أنّه من غير الّلائق أن تتركَ السّياسة للهواة و قليلي الخبرة ، بسبب أنّ ” الخير يتبع العلم الأعلى بل العلم الأساسيّ أكثر من جميع العلوم ؛ و هذا العلم على التّحقيق هو علم السّياسة” .
[ راجع : أرسطو . علم الأخلاق إلى نيقوماخوس ]
لا يذهب ( ارسطو ) بالعلم إلى أنه يعني به تعلّم “الاختصاص” ، و إنّما إلى “علم السّياسة” بوصفه خبرة و تجربة محدّدتين بمعرفة الخير العام ، أو الخير العموميّ ؛ بل و يذهب ( أرسطو ) إلى ما هو أبعد من هذا و أبلغ ، فيقول على “علم السّياسة” :
( إنّه ، في الواقع ، هو الذي يُعيّن ما هي العلوم الضّروريّة لحياة الممالك ، و ما هي التي يجب على أهل الوطن أن يتعلّموها ، و إلى أيّ حدّ ينبغي أن يعلموها ) .
[ المصدر . ص(171) ]
و من الواضح كيف أنّ ( أرسطو ) يربط بين “السّياسة” و “المعرفة” ، على أنّ السّياسة و المعرفة تهدفان معاً إلى “الخير” و “العدالة” عبر الفضيلة “الأخلاقيّة” ، التي تشترك في غايتها مع سابقاتها في ابتغاء خير الجميع .
9▪︎ من بين مثقّفي عصر النّهضة ( بالإيطاليّة : Rinascimento ) الأوربيّ ، و بخاصّة في ( إيطاليا ) ، لمع ( نيقولا مكيافيلّي ) كأحد أعلام الفكر التّاريخيّ السّياسيّ الذي أَوْلى ، على طريقته ، اهتماماً خاصّاً بالأخلاق السّياسيّة .
تناول ( مكيافيلّي ) السّياسة بما هي وسيلة واقعيّة ، للحدّ من مزاعم السّلطات التي تدّعي اتّصالها بالغيب .
صحيح أنّ الأفكار الأخلاقيّة السّياسيّة ، كما تبدو في كتابه ( الأمير ) و في كتابه ( المطارحات ) ، هي أخلاقٌ نفعيّة و مباشرة في البراغماتيّة السّياسيّة التي تفسّر أشكال نجاح الدّولة و استمرارها ، بغضّ النّظر عن طبيعة الوسائل التي يتّبعها “الأمير” من أجل ذلك ، و هذا ما أخذه عليه فكر النّقد السّياسيّ المعاصر ، كما يمكن أن نقرأه في مشكلته “الأخلاقيّة” قراءة نقديّة عقلانيّة نموذجيّة في بحث ( آرنست كاسيرر ) في كتابه “الدّولة و الأسطورة” تحت عنوان “المشكلة الأخلاقيّة عند ماكيافيلي” ؛
[ انظر : الدّولة و الأسطورة . تأليف : آرنست كاسيرر . ترجمة : د. أحمد حمدي محمود . مراجعة : أحمد خاكي . الهيئة المصريّة العامة للكتاب . القاهرة- 1975م . ص(191- 206) ]
إلّا أنّه ” إذا كان كتاب الأمير لم يتضمّن أيّ شيء يجعله من الأبحاث التّربويّة الأخلاقيّة ، فإنّ هذا لا يعني أنّه من الكتب الّلاأخلاقيّة ، كما أشيع .
فالحكمان خاطئان على السّواء : ليس كتاب الأمير كتاباً أخلاقيّاً ، كما أنّه ليس من الكتب الّلاأخلاقيّة . إنّه كتاب تقنيّ فحسب” .
[ المصدر . ص(207) ]
10▪︎ يُجيب ( كارل بوبر ) على “القاعدة الأفلاطونيّة” القائلة : ( على الحكيم أن يقود و يحكم ، أمّا الجاهل فعليه أن يُقدّم له فروض الطّاعة ) .. ، بأنّ هذه “القاعدة الأفلاطونيّة” إنّما تطرح ، إذاً ، السّؤال : ( من الذي سيحكم الدّولة ؟ ) .
و بعد تفحّص هذه “القاعدة”- يقول ( بوبر ) – إنّ ما تؤدّي إليه من سؤالٍ سياسيّ إنّما هو : “من الذي يحقّ له أن يكون صاحب السّيادة ؟ ” ؛ و يسمّي ( بوبر ) هذا “الفرض” باسم “نظريّة السّيادة طليقة اليد” ؛ و “يتضمّن هذا أنّ السّؤال الرّئيسيّ المتبقي هو أن تؤول السّلطة إلى من هو الأفضل” .
[ انظر : كارل بوبر . المجتمع المفتوح و أعداؤه . ترجمة د. السّيّد نفادي . دار التّنوير للطّباعة و النّشر- لبنان . الطّبعة العربيّة الأولى- 1998م . ص(123) و ما بعد .. ] .
و يُسارع ( بوبر ) إلى اعتبار مثل هذه “النّظريّة” عبارة عن “فرض غير واقعيّ على الإطلاق” ؛ و لكنّه يخلص إلى نتيجة تخدم الغرض “الأخلاقيّ – السّياسيّ” المباشر للبحث الذي نحن بصدده ، حيث يستنتج أنّه “لا يمكن أن توجد سلطة سياسيّة مطلقة لا رادع لها” ..
غير أنّ متابعة ما يرمي إليه ( بوبر ) يقودنا إلى مسألة خطيرة ، فعلاً ، في الممارسة السّياسيّة و الممارسة الأخلاقيّة ، على حدّ سواء ، حين يُشير إلى جوهريّة “التّواطؤ” السّياديّ الذي بفضله يتمكّن “الحاكم الّلاأخلاقيّ” من الاستمرار في سلوكه ، إذ إنّ واقعاً كهذا يعني “أنّ ثمّة قوى سياسيّة أخرى ، سلطات أخرى بجانب سلطاته ، و أنّه يستطيع أن يمارس حكمه فقط باستخدامها و مسالمتها” ؛
” فحالات السّيادة القصوى [ التي ننتقدها ] هي ليست حالات سيادة خالصة على الإطلاق” ، و إنّما ثمّة من الظّروف الاجتماعيّة الموصوفة بتواطؤات صادرة عن قوى تاريخيّة و سلطات مقنّعة ، هي ما تجعل “مطلقيّة” السّلوك الّلاأخلاقيّ ممكنة في الواقع الاجتماعيّ .
[ المصدر . ص(125) ]
يقول ( كارل بوبر ) :
” لعلّني أميل إلى الاعتقاد بأنّ الحكّام نادراً ما كانوا فوق المعدّل الأخلاقيّ أو العقليّ ، و إنّما كانوا دائماً تحته . كما أنّني أعتقد بأنّ من المعقول أن نتبنّى ، في السّياسة ، مبدأ التّأهّب ، في أغلب الأحيان ، للأسوأ ، كما يُمكننا بالمثل ، بل و ينبغي ، بالطّبع ، أن نحاول في نفس الوقت أن نحصل على الأفضل .
” و يبدو لي أنّه من الجنون أن نعلّق جهودنا السّياسيّة على أملٍ واهٍ بأنّنا سنوفّق في الحصول على حكّام ممتازين ، أو حتّى ذوي أهليّة” .. !
[ المصدر . ص(126) ]
و في نصّ لافت من جهة واقعيّته يُصرّ ( بوبر ) على أنّه على رغم أن “المسألة الشّخصيّة” لا تحل إشكاليّة “المسألة المؤسّسيّة” ، فإنّ “القضيّة” تدور على مدى تفاعل “المسألتين” معاً ، إذ يقول :
” و مبدأ القيادة عند أفلاطون بعيد كلّ البعد عن تبنّي نزعة شخصيّة خالصة ، لأنّه [ مبدأ القيادة ] يتضمّن أداء المؤسّسات ، و ربّما يُقالُ حقّاً أنّ وجود نزعة شخصيّة خالصة أمر مستحيل . بيد أنّه ينبغي أن يُقالَ إنّ وجود نزعة دستوريّة خالصة أمر مستحيلٌ أيضاً . حيث أنّ تشييد المؤسّسات لا يتضمّن فحسب قرارات شخصيّة هامّة ، بل إنّ توظيف حتّى أفضل المؤسّسات ( مثل ألوان الضّبط و التّوازنات الدّيموقراطيّة ) سيبقى على الدّوام معتمداً ، إلى حدّ كبير ، على الأشخاص الذين يتولّون أمرها .
” فالمؤسّسات شبيهة بالقلاع ، يجب أن يُراعى حسن تصميمها و تجهيزها بالرّجال” .
[ المصدر . ص(129) ]
▪︎ إنّه على تعدّد الأمثلة التي سقناها أعلاه على مسألة العلاقة ما بين “الأخلاق” و “السّياسة” و الفروض الحاكمة لها ، فإنّنا نلاحظ تشديد الأقدمين و المعاصرين ، في المحصّلة ، على أهمّيّة السّلوك السّياسيّ الأخلاقيّ المرتبط ، مباشرة ، بالمؤسّسة و برجل الدّولة في آن معاً .
و لعلّنا من أجل المزيد من الدّقّة ، هنا ، في معرض هذا البحث الذي يتناول قضيّة تاريخيّة مزمنة ، لا يستطيع أحدٌ الادّعاء باكتشاف حلولها الشّافية ، لعلّنا نتناولها ، نحن ، من جهة التّفريق ، ما بين “السّياسة الأخلاقيّة” و “الأخلاق السّياسية” ، حتّى و لو ظنّ البعض أن الأمر سِيَّان .
و على هذا الخطّ النّقديّ نفسه ، و من جهة أخرى ، و مع تعقّد شكل الاجتماع و مطاليب السّياسة ، و مع تركّب أشكال اختيار عناصر السّلطة و أدوات الحكم و قواه الحيّة ؛ فإنّ من الواجب علينا أن نكون في المبدأ واقعيين ، في ممارستنا للفلسفة الأخلاقيّة السّياسيّة ( بشقّيها الّلذين تحدثنا عنهما للتّوّ ) ، مع أنّنا يجب أن لا نتخلّى عن مبدئيّة المشكلة ، و لو أنّها سوف تبقى قائمة أمام بحثنا و أمام كلّ بحث آخر يطمح إلى أن يكون بحثاُ عقلانيّاً ( أي واقعيّاً ) و معقولاً في الوقت نفسه .
12▪︎ تُطرح هذه القضيّة ، لأوّل وهلة ، طرحاً اجتماعيّاً بسيطاً يتضمّن شوق الأفراد و الجماعات إلى واقع من “العدالة” و “الخير العموميّ” الذي ينعكس في الطمأنينة السيكولوجيّة للمشاركين في أعباء الوطن و الدّولة ، من المواطنين .. ، في إطار المجتمع المعاصر .
و تبدو القضيّة منتهية العرض ، على الأقلّ ، ما إن يقدّم الجميع آراءهم بهذا المطمح “العادل” و “المنطقيّ” : لماذا لا يتقوّم السّلوك الأخلاقيّ في العمليّة السّياسيّة العامّة ، أو لماذا لا يتقوّم “السّياسيّ” بِ”الأخلاقيّ” .. ؟!
من المفترض أنّ “رجل الدّولة” ، “السّياسيّ” ، يقوم بما تُمليه عليه الواجبات المكتوبة منها بالقوانين أو غير المكتوبة و المناطة بالأعراف الاجتماعيّة ، التي تعتمد لها منطق الأشياء البسيط و اليوميّ الذي يتحدّد بالشّعور بالمسؤوليّة ” الأخلاقيّة ” ، التي تفرضها قواعد “العدالة الطّبيعيّة” أو مبادئ التّديّن الاجتماعيّ أو مفاهيم الخدمة العامّة ، التي تحدّدها أطر المشاركة الاجتماعيّة بالحاجة و الرّغبة و الطّموح و الشّرف و الالتزام بالحدود الكونيّة ، التي تترجمها الطّبيعة إلى مبادئ للتّواضع بالسّلوك .
فإذا فحصنا “المبدأ الأخلاقيّ” كمؤسّس للعمل السّياسيّ ، فإنّنا نقول بأخلاق أصليّة للسّياسة ؛ فهل هذا واقعيّ ؟
يبدو أوّل خلاف ” إبستميّ” ( معرفيّ ) يقوم بين هذا الفرض و نتائجه الواقعيّة متجذّراً في الاختلاف على “الأصليّات” : بمعنى أيّهما سابقٌ في التّجذّر “الأخلاق” أم “السّياسة” ؟
13▪︎ سوف تنقسم الأجوبة ، ختما ؛ و لكنْ ما علينا إلّا أن ندقّق ، قليلاً ، لنكتشف أنّ أمر العمل على تفسير هذا الاستغلاق ، يجب أن يدور في مجالٍ فوق واقعيّ أو في مجال “أونتولوجيّ” .
إنّني أعني أنّ في “السّياسة” ، نفسها ، مبداً ميتافيزيقيّاً متعالياً أو مفارقاً ( قبْليّاً ) ، أو أنّها ، هي ، تقوم ، أصلاً ، على هذا “المبدأ” الكلّيّ، إلى درجةِ أنّ علينا أن نفهمَ ( و نسلّم ) أنّ ما ينفذ إلينا من كلّيّة هذا المبدأ ، ليس سوى ما يتمثّل أو ينعكس في مفهومنا نحن عليه ؛
فالسّياسة هي تدبيرٌ كلّيّ أصليّ ، نحن أدوات واعية أو غير واعية ، له ، فيه ؛ و نحن نمارسه في “المفهوم” ( أي في فهمنا له) وفق ما قُيِّضَ لنا منه ، بحيث يستحيل علينا استكناهه استكناهاً مثاليّاً بسبب أنّنا لم نشارك في وضعه ، أصلاً ، و لم نُشاور أو نُستشر في مغزاه ، و لم نكن شهوداً مشاركين في الحكم على تفاصيل الغاية منه .
إنّ مفهومنا على السّياسة يندغم في كوننا أدوات منفّذة لها ، و على طريقتها الغائيّة ، هي ، و ليس على طريقتنا نحن ؛ و الخوض في أمور “الغاية” لا يمكن أن يكون إلّا بالحكم عليها بعد تجاوزها ، جزئيّاً ، في الزّمان ، أو في ما نستلهمه منها فنبتسره أو نستعجله في القيم التي نستدلّ بها عليها و أي في “الأخلاق” .
14▪︎ و إذ أنّ “الأخلاق” هي تلك المعياريّة التي تُنبِئنا بضرورات مصالحنا ، فإنّها ترتقي في “الشّرف” ، أكثر فأكثر ، بقدر ما نكون على علاقة مع “الغاية” ، هذه العلاقة ( مع الغاية ) التي لا يمكن لنا استنفاد مغزاها ، لا في الأخلاق و لا في السّياسة و لا في المعرفة ، و إنّما يمكن لنا أن نعاصرها معاصرة دؤوبة في فحصنا المستمرّ ، لتراكمات المغزى الذي يُفصح عن نفسه في الخير العام الذي نستدل عليه ، استدلالاً عقليّاً ، بالمعرفة التي تقدّم لنا القدرة على الحكم الوجدانيّ ( الوجوديّ ) على أفضل الشّروط للاجتماع و للانفراد سواء بسواء ..
و إنّ ما ينسجم من خير فرديّ مع الخير العامّ ، هو وحده مدار “المعرفة” التي علينا أن نتولّاها في المقاصد و التّطلّع و التّشوّفات السّياسيّة التي نتّصل ، بواسطتها ، بغاية السّياسة الكلّيّة التي بدأت مع أصل الوجود .
ليس لنا ، إذاً ، أن نحكم حكماً مطلقاً على غايات السّياسة ، في غايتها الكلّيّة ، سواءٌ بالمعرفة أو بالممارسة أو بالأخلاق ؛ و هذا يعني أنّنا ليس لنا أن نحكم أحكاماً منتفخة و متورّمة ، و حسب ، على أخلاق “السّياسة” ، باعتبار “السّياسة” هي ممارسة أصليّة للسّلطة الكونيّة الشّاملة ، و التي قلنا عليها ، مراراً ، هنا ، إنّها مبدأ الحاكميّة الكونيّة في الوجود الأونتولوجيّ (“الموجود” بما هو “وجود” ، أو “الوجود” بما هو “موجود”) .
و عندما ركّزنا ، سابقاً ، و نركّز ، الآن ، على أخلاقيّة السّياسة ، فلا يعني هذا ، بالمطلق ، أنّنا نبشّر بنزاهات السّياسة ، الواجبة ، إذ أنّ أمراً كهذا يتجاوز “النّزاهة” ، نفسها ، نحو التّطرّف المعرفيّ و الجحود الوجوديّ ..
و لأنّ “العدالة” لا تقاس بِ”النّزاهات” ، فلنتركْ ، إذاً ، أمر “النّزاهات” للمعرفة في الغاية ، حيث ، هنا ، تقع “الغاية”- كما قلنا – وراءنا : أي خلفنا و أمامنا ، أبداً ، و هو الأمر الذي يكمن في جذر قابليّاتنا على الاستمرار و العمل و استهداف الأهداف بالأغراض المتكوّنة على طريق الغاية التي تحيط بنا من كلّ اتّجاه .
15▪︎ علينا أن نخرج ، إذاً ، من وصفات ” الأخلاقويين ” ( في الاجتماع و السّياسة ) الذين هم ، عندما ينادون بِ” أخلاق السّياسة ” ، فإنّما ينادون بمصالحهم الشّخصيّة و النّفعيّة التي يعتبرون أنّ أمر تحقيقها هو غاية “أخلاق السّياسة” .. !!؟
إنّ تعقّد الأمر على هذا النّحو , راجع إلى أنّنا نبحث في أسبقيّات علينا ، في السّياسة كأصليّة أوّليّة ليس علينا أن ننتظر افتضاضها في المؤسّسات و الدّول .
و الدّولة ، هي نفسها ، بكلّ مشتملاتها ، ليست سوى جزء واحد ، و على أهمّيّته ، من أجزاء الأدوات التي تستعملها “فكرة” السّياسة في العالم ، بواسطتها ( الدّولة ) كما بواسطة الأفراد و المؤسّسات .
واضح تماماً أنّنا نُعلي من شأن السّياسة إعلاءً ميتافيزيقيّاً ، يجعلها مبدأ معرفيّاً لا يُختزل ، و لكنْ يُطمح ، دائماً ، وفق “المعرفة” الإنسانيّة ، إليه .
و عندما نحن نقول بِ”المعرفة الإنسانيّة” ، فإنّه أصبح واضحاً – كما أفترض – لجميع القرّاء أنّني لا أعني بها “الثّقافة” ؛ إذ أنّ الثّقافة أمر محضُ إنسانيّ ، أي “وجوديّ” خالص ( موجوديّ ) ، فيما “المعرفة” تتّسع في أبعادها لتكون شأناً “أونتولوجيّاً” يُساهم فيه المرء ، مساهمة بحدود معيّنة على قدر ما يمكن له النّفاذ في الغاية إلى أصليّتها العبقريّة .
هذا هو الأمر ، إذاً ، مع “أخلاق السّياسة” .
16▪︎ و لكن كيف يكون الحال مع “السّياسة الأخلاقيّة” أو “سياسة الأخلاق”؟
إنّ المشكلة السّياسيّة ( المطلبيّة ) ، بما هي اجتماع إنسانيّ و إدارة و تدبير لهذا الاجتماع ، إنّما تكمن هنا حصراً و في هذا المجال .
و إذا كنا قد قلنا ، إنّه ليس للسّياسة أخلاقٌ ( ليس هنالك أخلاقٌ سياسيّة ) تحكمها وفق التّصوّر الإنسانيّ الذي يهدف إلى اختزال المعرفة بالأخلاق .. ، فإنّ الأمر لا ينطبق على “سياسة الأخلاق” أو ما نسمّيه بِ”السّياسة الأخلاقيّة” . و بقليل من الأناة سيكتشف القارئ ما هو الذي فرّقنا به ، و كيف ، بين “أخلاق السّياسة” و “سياسة الأخلاق” .
يحكم العملَ الإنسانيّ مجموعةٌ من الاعتبارات المفهومة و غير المفهومة في سلوكه إزاء تصوّراته على الوجود . و من بين جميع تلك الاعتبارات ، فإنّه يمكن لنا أن نفرد حيّزاً محض إنسانيّ من الضّروريّ و الواجب أن يكون مداراً للاهتمام الإنسانيّ الثّقافيّ ( بالمعنى الواسع لكلمة الثّقافة ) ، بحيث يدخل في أغراضه و تحصيله و نقده و تقويمه ما نسمّيها قناعات “العدالة” الإنسانيّة التي حكمت عليها تجارب الأفراد و الشّعوب ، بأهمّيّتها و حاجة الإنسان إليها في ظروف المؤسّسة و الدّولة و التّاريخ .
و عندما نكون أمام حيّز التّدخّل الإنسانيّ بصناعة مصائره ، يكون من الأَوْلى الّلجوء ، في هذه الجزئيّة الواسعة ، إلى “المعياريّة” النّفعيّة التي تتّصل بالعدالة ، من باب المشاركة الإنسانيّة في قابليّات تشخّص “الغاية” في المشروع ” ( الوجود ) ( و لكن مع الإيمان بأنّه مشروع لا يكتمل ! ) ، و ذلك بواسطة ما نقول عليه “الأخلاق” .
17▪︎ و عندما يكون من الواجب علينا الّلجوء ، كما قدّمنا ، إلى صناعة القيم ، أي إلى الممارسة الأخلاقيّة في “تصوّراتنا” ، نحن ، على “العدالة” ، فإنّه من “الطبيعيّ” ( بحكم الطّبيعة ، و بحكم طبائع الأشياء ) أن تدخل سائر أوجه النّشاطات الإنسانيّة في معرض “العمل” و السّلوك و الانفراد و الاجتماع ( المصالح الشّخصيّة و الخاصّة و العامّة ) ، أقول أن تدخل تحت سقف هذه “المعياريّة” في أحكام “الوجوب” الأخلاقيّة ، فإذا بنا ، وجهاً لوجهٍ ، أمام الممارسة الأخلاقيّة ( بجميع أوجهها ، الإيجابيّة و السّلبيّة ) التي علينا النّظر بها ، في سياق الممارسة ، إلى “السّياسة” و “الاجتماع” بوصفهما موضوعين جوهريين من مواضيع اشتغال “الدّولة” و “المؤسّسات” .
و نحن في هذه الأثناء ، إنّما نعمل على جعل “الدّولة” وظيفة أو أداة إنسانيّة ، بما هي ، الدّولة ، أداة وجوديّة ، أيضاً ، من أدوات العدالة الأونتولوجيّة وفق ما شرحنا أبعادها ، أعلاه .
و لكنّ الإنسان في التّاريخ هو جزء من الغاية ؛ و من هنا نستطيع أن نقول إنّ الممارسة الإنسانيّة لفروض الغاية الكلّيّة ، تمرّ في التّوسّط “السّياسيّ” المحكوم بمعياريّة الأخلاق ، بحيث يكون ممكناُ ، و واجباً ، البحث في “الفضيلة” الرّاشحة من السّماء إلى الأرض ، بواسطة أحكامنا السيّاسيّة على “الأخلاق” ، بوصف “الأخلاق” جزئيّة سياسيّة تسمح لنا القول بضرورة الرّقابة السّياسيّة على الأخلاق ، و ليس العكس .
بمعنى أنّنا ، هنا ، نحن في قلب الحكم السّياسيّ على الأخلاق ، و لسنا في معرض الحكم الأخلاقيّ على السّياسة ؛ و هذا هو ، بالضّبط ، ما يسمح لنا أن نقول بالسّياسة المعياريّة ( الأخلاقيّة ) من دون أن نسقط في وهم أخلاق السّياسة أو الأخلاق السّياسيّة .
18▪︎ و هكذا ، فالعمل و التّفكير بموجب هذه ” النّظاميّة ” ( السّيستاميّة ) ( أو المنظوميّة ) يسمح لنا بإنقاذ السّياسة من تعسّف الأحكام الأخلاقيّة ، فيما يُبقينا في القدرة على ممارسة “الأخلاق” في “السّياسة” ، بوصف السّياسة كلّيّة معرفيّة ، و بوصف “الأخلاق” جزئيّة معياريّة .
و قد كنّا تطرّقنا إلى هذا التّفصيل ، أعلاه ، و بشكل أوسع . وعلينا جميعاً أن نكون مسؤولين عن ممارساتنا ، و لنا ، أيضا ، أن نقوّم أفعال الآخرين في المجتمع و المؤسّسة و الدّولة و الحكم ، تقويماً معياريّاً ، أخلاقيّاً ، خالصاً ، ليس بوصف السّياسة خاضعة للأخلاق ، و إنّما بوصف الأخلاق ، نفسها ، تفصيلٌ في السّياسة !
و في هذه الجزئيّة الأخلاقيّة التي أكّدناها ، هنا ، نُصبح أمام ما تسمّيه “الثّقافة” بِ”أخلاق السّياسة” ، بينما اتّضح لنا كيف أسميناه ، معرفيّاً ، بِ”سياسة الأخلاق” .
ف ” الأخلاق ” ، أيضاً ، هي بحاجة إلى تدبير و صناعة و صياغة و تأثير .
19▪︎ و على ما تقدّم ، فإنّ النّتيجة الأفضل التي يمكن أن نقرّرها ، الآن ، هي أنّ علينا ، جميعاً ، أن ننطلق ، سياسيّاً في الأخلاق ، من قاعدةٍ تقول إنّ الصّالح العامّ هو شأنٌ معياريّ في نتيجته الأخلاقيّة و توزيع خيراته العموميّة بواسطة السّياسة ، من دون أن نلجأ إلى الوصفات الأخلاقيّة في السّياسة .
بمعنى أنّنا نستطيع الحكم على “السّياسة الأخلاقيّة” بفضل نتائجها ، ليس و حسب ، و لكن ، أيضاً ، بواسطة ما يدخل من “السّياسة” تحت طائلة “الأخلاق” .
فإذا كانت “الأخلاق” ، كلّها ، واقعاً و نظريّة و ممارسةً و فلسفةً ، تدخل في فلسفة السّياسة – و هذا أمرٌ يمكن للجميع التّأكّد منه بقليل من التّريث في الحكم و البرهان – و بالتّالي على السّياسة أن تُدير دفّة الأخلاق ؛ فإنّ العكس ليس صحيحاً ، إذ لا تدخل “جميع” السّياسة في الأخلاق .
غير أنّ جزئيّة الأخلاق مقابل كلّيّة السّياسة ، هو أمر يؤدّي بنا إلى ما لا يتوقّعه المنحرفون ، أخلاقيّاً ، في السّياسة ، من ذوي الشّأن العام و المصلحة العموميّة ، من نتائج “أخلاقيّة” ..
ذلك لأنّ كلّيّة السّياسة تُتنج مسؤوليّة أخلاقيّة تابعة إلى جزئية الأخلاق ؛ ليس من باب تحكّم الأخلاق بالسّياسة ، و إنّما من باب “ضرورات” إخلاص السّياسة لمكوّناتها ، و التي منها تعتبر الأخلاق مكوّناً إنسانيّاً في حالته الفضلى يحتاج إليه الجميع .
20▪︎ فالسّياسة الأخلاقيّة أمر واقعيّ ، على عكس الأخلاق السّياسيّة التي هي شأنٌ مفارق و مبهم ، و إن كان يمكن الاستئناس به ، بقدر ما يمكن لنا أن نكتشفه في المجتمع و السّياسة و الفاعلين و المؤسّسة و الدّولة .
و هنا ، فقط ، نحن نستطيع المناداة بدولة الأخلاق و ليس بأخلاق الدّولة ، فالدولة ليس لها أخلاق .
21▪︎ كذلك ، ليس للسّياسة أخلاق .. و إنّما هنالك ، دوماً ، دولة للأخلاق ، و هنالك ، أيضاً ، أخلاق في معرض ممارسة الدّولة لواجباتها ” الكلّيّة ” ، في السّياسة ، في الشّأن العامّ .
دعونا ، دوماً ، نعود إلى الأصليّات . هناك تكمن المعرفة التي تنقصنا ، جميعاً ، و تنقص العالم كلّه ، أيضاً .
22▪︎ وحينما ننظر إلى واقع هذه الحرب على سورية ، و ما أفرزته ، سواء في ” المعارضة ” أو في دوائر الدولة ، نشعر بأسًى بالغٍ ممّا فاتنا في الثّقافة التقليدية التّاريخيّة المبرمجة على إخصاء ” العقل ” ، و نشعر ، في الوقت نفسه ، كم نحن بعيدين حتّى عن إمكانيّتنا على أحكام ” القيمة ” ، الأخلاقيّة ، و المعياريّة المزعومة بحكم العادات ” السّياسيّة ” ، السّلبية .
فكيف ب من يتشدّقون عن ” السّياسة ” و ” الأخلاق ” و ” الدّولة ” و ” العدالة ” و ” الحريّة ” و ” الدّيموقراطيّة ” و ” النّزاهة ” و ” المساواة ” .. إلخ ؛ إلخ ؛ مع كلّ ما ينقص هذا “العالم” ، و ينقصنا ، من معارف بالمعرفة .. ؟!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى