قبل تدهورها.. الصحافة الورقية العربية تحقق خلال نصف قرن نقلة نوعية هائلة

شهد الإعلام العربي المطبوع، في الخمسين عاماً الأخيرة، تطوراً أكثر مما تطور طوال تاريخه الممتد لأكثر من قرن ونصف القرن. وكانت الصحف العربية المهاجرة الى اوروبا رائدة في هذا التحول الجذري الذي انتقل بالإعلام من عصر الرصاص والحبر إلى عصر التقنيات الرقمية.

من خاض مجال الصحافة المطبوعة في ستينات وسبعينات القرن الماضي، يعرف تماماً أنها كانت صناعة ثقيلة يمتزج فيها الحبر بالرصاص المصهور. وهي مرحلة كان الصحافيون فيها يتعالون على الآلة الكاتبة على اعتبار أنها من تخصص السكرتيرات وعمال الطباعة. كانت المقالات تسلم بخط اليد لتنقل معاناة فك شفرتها إلى من ينقلها إلى كلمات مطبوعة.

لم يكن تعلّم الكتابة على الآلة الكاتبة من ضرورات العمل الصحافي، على عكس من تعلم الصحافة في الجامعات الأجنبية، حيث كان تعلم الكتابة بسرعة الآلة الكاتبة من ضرورات التحضير قبل دخول السنة الأولى لدراسة الإعلام. وكانت المقالات المكتوبة بخط اليد تنتقل إلى عمال الصف الذين يعملون على أجهزة صب أعمدة الرصاص، الذي يعاد صهره واستخدامه مرات ومرات.

ألواح الرصاص كانت تخرج بحروف المقالات والصور بارزة عليها، ولقراءة النصوص وتصحيحها كان يتعين تغطية الحروف الرصاصية بطبقة من الحبر الأسود، ثم تغطية الحروف بأوراق كبيرة بحجم صفحات الجرائد العريضة. ومع الضغط على الورق بعجلة مطاطية تشبه أدوات دهان الحوائط ينطبع الحبر على الورق، ويمكن قراءة النص كما سيظهر على صفحات الجريدة في اليوم التالي.

هذه الصفحات المطبوعة تذهب إلى المصحح للتأكد من عدم وجود أخطاء مطبعية أو إملائية. وفي حالة اصطياد خطأ كان يتعين إعادة صف سطر العمود الذي يتكون في الغالب من خمس كلمات.

الأخطاء الشائعة في ذلك الزمان لم يكن أغلبها من الكاتب وحده، وإنما ترتكب ما بين المصحح ومركب الصفحة أيضاً. ففي مرات كثيرة كان عامل الصف يصحح الكلمة الخطأ ويرتكب خطأ آخر في كلمة أو أكثر من الكلمات الخمس في السطر الجديد الذي يتم تركيبه. وأحياناً يتم تصحيح السطر على ما يرام، لكن الخطأ يأتي من عامل الصف الذي كان يجب عليه أن يلتقط السطر الخطأ بملقط ويسقط مكانه السطر الصحيح، لكنه يخطئ في رفع السطر الأعلى أو الأسفل ويسقط مكانه السطر المصحح لتخرج الصحيفة وفيها سطران متشابهان، أحدهما صحيح والآخر به خطأ.

وقبل أن تفرض بعض الصحف الرقابة الذاتية ضمن إدارة تحريرها، كانت الصحف الحكومية في الماضي يعمل بها موظف حكومي رسمي اسمه «الرقيب». ولا يتم السماح بطباعة أي صفحة من دون توقيع الرقيب.

لم تتغير أحوال أو تقنيات الصحافة العربية كثيراً حتى نهاية سبعينات القرن المنصرم، أو بالأحرى حتى ظهور الصحافة المهاجرة إلى باريس ولندن بفعل الحرب الأهلية اللبنانية من ناحية، وبداية مشروعات الصحافة العربية في لندن.

فمنذ البدايات لصحف ومجلات لندن وباريس، وأهمها “الوطن العربي” و«الشرق الأوسط» و«العرب» و«التضامن» و«الدستور»، اختفى الرصاص والأحبار وحلّ مكانها آلات حديثة، منها ما يحوّل الكلمات إلى شرائط ممغنطة يتم تحميضها لتخرج على شكل أعمدة مطبوعة على ورق مصقول، ومنها ما كان يختزل مرحلة التحميض في غرفة مظلمة لتخرج مباشرة إلى طاولات الصف.

في هذه المرحلة أيضاً لم يتم الاستغناء عن موظفي الصف؛ لأن معظم الصحافيين، وخصوصاً الجيل القديم منهم، لم يكن قد تعلم بعد تسليم المقالات مصفوفة، سواء على آلة كاتبة أو على جهاز كومبيوتر.

ومن ناحية الإخراج، بدأ الأمر بطاولات عريضة عليها أوانٍ تحتوي على شمع مسال لاستخدامه في لصق أعمدة المقالات والصور على الصفحات قبل إرسالها إلى الطباعة. لكن الأمر تطور تدريجياً إلى تصميم الصفحات على الكومبيوتر سواء في الصحف أو المجلات.

شمل التطور أيضاً مجال الطباعة والتوزيع في أكثر من موقع جغرافي. وخلال المرحلة الاوروبية كانت الصحف والمجلات العربية تشحن في الطائرات، بأوزان ثقيلة وتكلفة عالية، لكي تصل إلى أسواق التوزيع في بلدان العالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط.

تطور الأمر بعد ذلك، إلى الطباعة الإلكترونية الرقمية، حيث يتم إخراج الصحيفة في لندن او باريس وإرسال أفلام الصفحات إلكترونياً حول العالم ليتم طباعتها في المواقع التي تريدها الصحيفة من دون أوزان ثقيلة، ولا تكاليف شحن باهظة.

كانت هذه مرحلة التسعينات وبداية الألفية. كما كانت أيضاً مرحلة نشأة جيل جديد من الصحافيين المؤهلين تقنياً، بحيث يتم تسليم المقالات منهم مصفوفة بعد مراجعتها، بحيث تكون جاهزة للتركيب على الصفحات. وبهذا أمكن للصحف الاستغناء عن فرق كاملة من عمال الصف. وهناك من الصحافيين والصحافيات من يستطيع أيضاً استعمال عناصر التصميم لإكمال مهمة تصميم الصفحات. لكن هذا الجانب ما زال يعتمد على خبرة التصميم الغرافيكي المحترف من فنانين لهم خبرة طويلة.

الجيل المتوسط بين القدامى والجدد تحمّل أعباء التحول التقني السريع واضطر إلى التأقلم عليه أكثر من مرة. في البداية، عمّمت الصحف استخدام أجهزة «آبل» لكي يصف المحررون مقالاتهم على برنامج عربي اسمه «الناشر المكتبي». وكان تصميم الصفحات أيضاً يتم على أجهزة وبرامج «آبل».

استمر هذا الحال سنوات عدة في منتصف التسعينات حتى تفوقت أجهزة «بي سي» وبرامجها على «آبل» بفضل شركات مثل «مايكروسوفت» وغيرها. ولم يكن في الإمكان إرسال مقالات «الناشر المكتبي» بالبريد الإلكتروني، وإنما تعين استخدام الفاكس، فكانت مقالات المكاتب يتم صفها مرة أخرى في لندن وباريس. فاتخذت هذه الصحف  قرارها الجريء مرة أخرى بالتحول إلى أجهزة «بي سي» والاستغناء تماماً عن أجهزة «آبل» في الصف وفي الإخراج.

وكان على جيل الوسط من الصحافيين إعادة تعلم الصف على أجهزة «بي سي»، حيث مواقع الحروف العربية مختلف عنها في أجهزة «آبل». ومع مرور الوقت اتضح أن القرار بالتحول إلى أجهزة «بي سي» كان هو القرار الصحيح. واتبعت النموذج نفسه بقية الصحف العربية في بلدانها.

اخيراً فقد دخل الإعلام المطبوع المرحلة الرقمية بإنشاء مواقع إخبارية توفر الجديد على مدار الساعة، وهو ما ادى الى استغناء بعض الصحف العربية والاجنبية عن المطابع والاوراق والاحبار، ولاسيما بعد ارتفاع كلفتها مقارنة بالصحافة الرقمية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى