من ناصر السعيد الى خاشقجي.. للاغتيالات السياسية تاريخ طويل في مملكة آل سعود
جمال خاشقجي قتيلًا، لم يعد الأمر مجرد تكهنات أو تحليلات، فالإعلامي السعودي الذي دخل قنصلية بلاده ظهر الثلاثاء الماضي تمت تصفيته هناك وبدم بارد، قبل أن يخرج منها جثة هامدة، هكذا تقول مصادر أمنية تركية يبدو أنها – أمام الحقائق التي وصلت إليها – باتت على قناعة تامة أن أمرًا دُبَّر بليل، وأن السلطات السعودية مسؤولة عن اختطاف الرجل وقتله على الأرض التركية.
بل إن مصادر في الشرطة التركية أكدت أن قتل خاشقجي تم بيد فريق وصل إسطنبول لهذه الغاية في ذات اليوم الذي طلب فيه مسؤولون بالقنصلية من جمال مراجعتهم لاستلام أوراق رسمية كان قد طلبها منهم قبل أسبوع من ذلك التاريخ، وسبق لمصادر أمنية تركية أن كشفت وصول 15 سعوديًا إلى إسطنبول عبر طائرتين خاصتين، وكانوا في القنصلية بالتزامن مع وصول خاشقجي داخلها قبل أن يغادورا إسطنبول بعد وقت قصير إلى البلدان التي جاءوا منها.
السيناريو الذي وُضع لعملية الاغتيال يبدو غامضًا حتى الآن، وأيًا كانت الروايات فالنتيجة واحدة وهي الاغتيال، وذاك يعيدنا إلى عقود قليلة مضت، حيث خلافات قوية تعصف بأفراد العائلة المالكة نفسها فيقتل بعضهم بعضًا، بينما تشتد المعارضة السياسية والشعبية في الداخل على استحياء، وفي الخارج تعلو الأصوات فتمتد إليها يد الدولة لتخرسها، فتنجح أحيانًا وتفشل أخرى.
حرب الاغتيالات تطال الملوك أولًا
في النصف الأول من القرن الماضي، أسس عبد العزيز بن سعود مملكة مترامية الأطراف، وأرسى أسسًا لضمان استمرار سلالته في حكم تلك المنطقة، كان منها آخر وصاياه لأبنائه الكثُر بأن يحكم كل منهم تلو الآخر بترتيب السن، لكن تلك الوصية أخذت منحى آخر مع تزايد أعداد آل سعود والشعور بثروة النفط وبسط كل فصيل منهم يده على أحد مصادر القوة في البلاد.
مع نقص تلك الثروة النفطية يومًا بعد يوم، رأى قائد كل فصيل من هذه القوى المتناحرة أنه الأجدر بما تبقى من تلك الثروة، فبدأ الصراع بين أفراد الأسرة الحاكمة بحادثة اغتيال لم تكن استثنائية في تاريخ السعودية فحسب، بل ومأساة غامضة طالت شخصية كبرى، وهو الملك فيصل بن عبد العزيز على يد أحد أفراد العائلة الحاكمة، وهو الأمير فيصل بن مساعد.
رحل الملك فيصل عن الدنيا بطريقة مأساوية، ودارت أحداث الاغتيال صبيحة 25 من مارس/آذار 1975 خلال مراسم استقبال الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود، وزير النفط الكويتي عبد المطلب الكاظمي في الديوان الملكي بالرياض، دخل عليه ابن أخيه الأمير فيصل بن مساعد بن عبد العزيز وأرداه قتيلًا برصاصات من مسدسه.
تعددت الروايات عن دوافع اغتيال الملك فيصل من ابن أخيه، وكان أبرزها الثأر لشقيقه الأكبر خالد بن مساعد الذي قتل على يد رجال الأمن بعد أن قاد مظاهرات وحاول اقتحام مبنى التليفزيون في الرياض عام 1965، حسب الرواية الرسمية، وقد قتل خالد وهو في الـ23.
وذهبت رواية أخرى إلى أن الأمير الموتور أقدم على اغتيال الملك فيصل في محاولة لقلب نظام الحكم، وذلك بسبب علاقة القرابة التي تربطه بآل رشيد الذين كانوا يحكمون نجد قبل أن تزيحهم الدولة السعودية الثالثة، ولم تتوقف التكهنات والشكوك عند هذا الحد، حيث تشير إحدى الروايات إلى أن الأمير فيصل بن مساعد بن عبد العزيز آل سعود كان يحمل أفكارًا ثورية متطرفة تشربها في أثناء دراسته في جامعة بيركلي بكاليفورنيا، وقد يكون سعى وراء جريمته من وحيها.
لكنّ بُعدًا آخر كان غائبًا عن أسباب هذا الاغتيال، وهو أنَّ النظام السعودي كان قد منع في وقت سابق الأمير مساعد بن عبد العزيز ـ أبو فيصل وخالد ـ من الممارسة السياسية ومن تقليده أي مناصب سياسية، بدعوى اضطراب عقله وجنونه، وقد كان الأمير مساعد ضد انتقال الحكم إلى الملك فيصل بعد الانقلاب الأبيض الذي قاده على أخيه الأكبر والملك حينها سعود بن عبد العزيز عام 1962.
نجحت محاولة اغتيال الملك فيصل، لكن محاولة أخرى وقعت عام 2003 وفشلت، استهدفت ولي العهد – آنذاك – عبد الله بن عبد العزيز، وكان العسكري الليبي عبد الله السنوسي مدبر هذه المحاولة الفاشلة، بأمر من الرئيس الليبي معمر القذافي، بسبب المشادة العلنية بينه وبين الملك عبد الله – ولي العهد حينها – ومول القذافي العملية بملايين الدولارات.
للأمراء نصيب أيضًا
سبق هذه الحادثة واحدة أخرى أكثر دلالة للصراع على العرش داخل المملكة، فقد كان الأمير منصور بن عبد العزيز رغم صغره – مقارنة بأخويه سعود وفيصل وحتى خالد وفهد – موضع اعتماد أبيه عبد العزيز عليه، حيث كان وزيرًا للدفاع والطيران معًا، وشارك مع والده في بعض المعارك، بينما وضع الخطط الأولى لتكوين وتطوير الجيش السعودي.
حدا ذلك ببعض المحللين للقول إنه كان أحد أقوى المرشحين لخلافة والده عبد العزيز رغم ترتيبه المتأخر عمريًّا عن إخوته، بسبب موقعه كوزير دفاع قوي، وصلاته القوية جدًا بالبريطانيين، كونه وزيرًا للدفاع والطيران وهو لم يتجاوز الـ30 بعد.
لكن الروايات تضاربت بشأن موت الأمير منصور الغامض عام 1951، كما تضاربت في واقعة اغتيال الملك فيصل من بعده، فبعد حفلة استضافها حاكم الرياض الأمير ناصر ـ أحد أكبر إخوته ـ مات الأمير منصور بسبب التسمم بالكحول؛ مما جعل والده عبد العزيز يقبض على ناصر ويودعه السجن.
بينما تقول رواية أخرى إنه في رحلته إلى باريس مع أخويه الكبيرين ـ فيصل وخالد ـ بعد وصول طائرتهم إلى باريس وقع مغشيًا عليه وتوفي وفاة مفاجئة، لكن العديد من المحللين لا يقبلون مثل هذه الروايات التي تجعل وفاته مفاجئة، بل يعتقدون أن إخوته الأكبر اغتالوه بسبب نفوذه وصغر سنه وترشيحه بقوة كولي عهد بدلًا عنهم.
وبعد عقود من الهدوء الذي سبق العاصفة، ألقت الاغتيالات بظلالها مرة أخرى بعد تغييرات جذرية في سلسيل الأسرة الحاكمة جاءت بالأمير محمد بن سلمان إلى الواجهة، وبالتزامن مع حملة الاعتقالات التي يشنها ابن سلمان على الأمراء ورجال المال والأعمال، أُعلن مقتل نائب أمير منطقة عسير منصور بن مقرن ومسؤولين آخرين، إثر تحطم مروحية كانت تقلهم في محافظة عسير.
لكن معلومات أشارت إلى أن حادثة تحطم الطائرة مفبركة من محمد بن سلمان الذي ينقض على أفراد العائلة السعودية من أجل الاستيلاء على كل أجزاء الحكم والتخلص من أي تهديد، وتؤكد مصادر لموقع “مرآة الجزيرة” أن ابن سلمان سعى لتوجيه رسالة إلى ولي العهد السابق مقرن بن عبد العزيز عبر التخلص من ابنه منصور الذي كان مقربًا من ابن عمه محمد بن نايف الذي تم عزله واحتجازه على يد ابن سلمان، وبالتالي تم التخلص من أذرع ابن نايف في السلطة.
ووصفت صحيفة يديعوت أحرونوت العبرية ما جرى بأنه “اغتيال في الهواء”، مشيرة إلى أن الأمير منصور بن مقرن وبعد انطلاق حملة مكافحة الفساد التي طالت أمراء ووزراء حاليّين وسابقين، أعلن أنه يريد إجراء جولة تفقدية في منطقة عسير جنوب المملكة.
لكن صحيفة “ميدل إيست آي” البريطانية أشارت إلى احتمال أن الأمير منصور بن مقرن كان يحاول الهرب من السعودية، وربطت وفاة ابن مقرن بحملة الاعتقالات المفاجئة التي طالت أمراء بارزين من العائلة الحاكمة، على رأسهم متعب بن عبد الله والوليد بن طلال.
نجحت محاولات الاغتيال الـ3 السابقة، لكن هناك محاولات أخرى طالت ولي العهد السابق نائب الأمير محمد بن نايف بن عبد العزيز، منها محاولة فاشلة لاغتياله في 27 من أغسطس/آب 2009، حينما كان مساعدًا لوزير الداخلية، من مطلوب زعم أنه يرغب بتسليم نفسه، كانت هذه المحاولة الرابعة لاغتيال محمد بن نايف لكنها كلها باءت بالفشل، وهي المحاولة التي استثمرها ابن سلمان للإطاحة به، بحسب صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية.
اغتيال أول معارض سعودي
إذا ذُكرت المعارضة في السعودية ذُكر ناصر السعيد في المرتبة الأولى، فهو أبرز وأول معارض للنظام السعودي، بدأ رحلته لمعارضة حكم آل سعود من شركة “أرامكو”، وخاض سلسلة من الإضرابات العمالية ضد ظروف العمل الشاقة آنذاك، وناضل طويلًا من أجل حقوق العمال والفلاحين والمهمشين، وكانت مطالباته تتلخص في إعلان دستور للبلاد وحماية حرية التعبير للمواطنين وإلغاء العبودية.
واصل السعيد مشوار كفاحه بقيادة الانتفاضة العمالية للمطالبة بدعم فلسطين عام 1953، وتعرض على إثرها للاعتقال وزج به في سجن العبيد، أحد أسوأ أماكن اعتقال المعارضين حينها، قبل أن ينتقل إلى مصر عام 1956، ويبث عبر إذاعة صوت العرب قصائد وخطابات مناهضة لنظام الحكم في بلاده.
كان الرئيس جمال عبد الناصر في صراع نفوذ مع الملك فيصل حينها، وقامت بينهما حرب اليمن، استقبل عبد الناصر السعيد وبدأ في إذاعة برامج معارضة لآل سعود في الراديو، ثم انتقل لليمن في أثناء حرب اليمن وأنشأ مكتبًا للمعارضة في اليمن، وبعد وفاة الرئيس عبد الناصر سافر ناصر السعيد إلى دمشق ثم إلى بيروت التي كانت فيها نهايته.
كانت تلك النهاية قريبة إلى حد ما بما حدث منذ أيام قليلة مع المعارض السعودي جمال خاشقجي، حيث اختطف السعيد في بيروت في ديسمبر/كانون الأول عام 1979 عبر عملاء استأجرهم السفير السعودي في بيروت علي الشاعر، أحدهم صحفي فرنسي ألح على مقابلة ناصر في مقر جريدة السفير دون أن يأتي، والآخر عضو منظمة التحرير الفلسطينية عطا الله عطا الله أبو الزعيم، وتؤكد التحليلات والتقارير اغتيال آل سعود لناصر السعيد بأمر مباشر من الملك فهد.
وبعد أكثر من 30 عامًا على مرور الحادثة، كشف الحارس البريطاني لأمراء آل سعود مارك يونق – الذي أكد أن مصدر معلوماته هو من الملك فهد شخصيًا – أن ناصر السعيد لم يتم التخلص منه في السعودية عام 1979 كما قيل سابقًا، بل تم التخلص منه في لبنان بعد اختطافه بأمر من الأمير فهد ورُمي جثمانه من طائرة على السواحل اللبنانية.
وتستمر الملاحقة في “العهد السلماني”
لم يغير النظام السعودي كثيرًا من نهجه تجاه المعارضين له في الداخل والخارج في السنوات الأخيرة، فكما دفعت الاستخبارات السعودية أموالًا طائلة لاختطاف المعارض القومي ناصر السعيد ومن ثم تصفيته، قامت كذلك بمحاولات حثيثة لاسترداد معارضَين يملكان تأثيرًا واسعًا على الشباب في السعودية، على رأسهم سعد الفقيه الذي يترأس حركة الإصلاح الإسلامي التي تهدف الحركة في بعض مراحلها لإسقاط نظام الحكم السعودي وإنشاء نظام حكم إسلامي يعتمد على الشورى وتداول السلطة.
وحسب رواية الفقيه فقد دبر النظام السعودي محاولة لاغتياله في بريطانيا عام 2003، وعمدت مجموعات تابعة للاستخبارات السعودية إلى الاعتداء عليه بالضرب، كما خاض زميله محمد المسعري الذي يترأس حزب التجديد الإسلامي، حربًا قانونية لتجنب تسليمه للسعودية أو ترحيله من الأراضي البريطانية؛ لأن ذلك يعني أن السعودية ستختطفه فور ذهابه إلى دولة أخرى يمكن لها أن تمارس النفوذ السياسي عليها.
واعتُقل ماجد المسعري ابن محمد المسعري في الولايات المتحدة عام 2004 بتهمة حيازة مخدرات، قال والده حينها إن السلطات السعودية لفّقتها له، كون ابنه كان متديّنًا ومحافظًا، وبعد قضاء ماجد مدة محكوميته، رُحّل عام 2007 إلى السعودية بعد رفض الولايات المتحدة طلب حصوله على اللجوء، ليختفي من الوجود منذ ساعة ترحيله، وتضغط السلطات على المسعري الأب لتسليم نفسه مقابل وعود بمعرفة مصير ابنه.
وتبقى حادثة الاعتداء على الناشط السعودي المعارض غانم الدوسري – المعروف بانتقاداته الساخرة اللاذعة لحكام السعودية – هي الأحدث، فقد تعرض في الأول من سبتمبر/أيلول 2018 لاعتداء بأحد شوارع لندن ممن قال إنهما شابان تابعان للسلطات السعودية.
لم تقتصر ملاحقات السعودية على المعارضين العاديين، بل امتدت إلى الأمراء المعارضين واللاجئين من الأسرة الحاكمة في أوروبا وسط صمت الأجهزة الأمنية هناك، وبحسب وثائقي سابق أعدته هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” بعنوان “أمراء آل سعود المخطوفون”، فإن السلطات السعودية اختطفت بين عامي 2015 و2017، 3 أمراء من أراضي دول الاتحاد الأوروبي، بسبب معارضتهم للأسرة الحاكمة، في إطار برنامج تديره الرياض لاختطاف المعارضين لسياساتها، بينهم الأمير سلطان بن تركي والأمير تركي بن بندر آل سعود والأمير سعود بن سيف النصر.