دور مراكز الابحاث الامريكية في رسم وتوجيه السياسات الشرق اوسطية

“حين أتيت إلى مكتبي في العراق، وجدت مذكرة تنتظرني على سطح مكتبي الجديد بمدينة السلام، كانت المذكرة المُعَدَّة من مؤسسة “راند” البحثية صريحة ومهنية، وتشرح مشاكل العراق وما ينبغي فعله تجاهها”، ذكر ذلك مندوب المحتل الأمريكي في العراق بول بريمر في مذكراته “عام قضيته في العراق”.

تلك قصة موحية تبرز دور المستشرقين الجدد، باحثي مراكز الدراسات، وهو دور يُضاف إلى أدوراها في صناعة القرار وتحليل السياسات واقتراح حلول للمشكلات، حتى باتت الحاجة ماسة لمراكز متخصصة، لكنها أضحت “هزيلة” في عالم تكثر فيه الصراعات والنزاعات، مقابل أخرى غربية أصبح معظمها “مطية” تستخدمها الحكومات الغربية لتمرير سياستها الاستعمارية البغيضة في المنطقة العربية.

المزرعة الأولى لتزويد رجال الحكم بأعوانهم

 أصبحت هذه المراكز منذ أربعة عقود عنصرًا ثابتًا في مشهد صنع القرار السياسي، عبر توفيرها للغذاء اليومي اللازم لجلسات الاستماع ومواضيع الصحافة وخطابات الصراع السياسي القاسية، فقد صنعت رموزًا وسياسيين، وبررت الغزو الأمريكي والبريطاني للعراق.

من هذا المنطلق كانت مراكز الأبحاث ولا تزال تحظى باهتمام كبير ما أدى إلى ازياد في أعدادها وتنوع في تخصصاتها، فبحسب برنامج البحث الدولي بجامعة بنسلفانيا، بلغ عدد مراكز الأبحاث في العالم 7815 مركزًا بحثيًا، حلقت الولايات المتحدة بعيدًا بامتلاكها مراكز أبحاث يبلغ عددها 1872، تلتها الصين ثم بريطانيا والهند، وامتلك كل منها بضع مئات من المراكز، ويتوزع الباقي على باقي بلدان العالم.

وبحسب الترتيب الذي جاء في التقرير السنوي الأخير لجامعة بنسلفانيا، فإن معهد بروكنغز، أقدم المراكز البحثية، يأتي في صدارة أبرز هذه المراكز على مستوى العالم، يليه المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية، وهو واحد من أهم مراكز الفكر في فرنسا، ثم مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، إضافة إلى مركز بروكل ببلجيكا.

أما في العالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط يقل وجود هذه المؤسسات، لا سيما في الدول التي تعيش اضطرابات سياسية وحروبًا، حتى إن مدينة واشنطن وحدها تضم نحو 400 مركز بحثي، أي ما يقارب عدد المراكز القائمة في الدول العربية مجتمعةً التي بلغ عددها حتى العام الماضي نحو 497 مركزًا، وتتصدر “إسرائيل” المنطقة بـ67 مركزًا، تليها تركيا بـ46 مركزًا، وفي إيران بلغ عدد مراكز الأبحاث أكثر من عددها في دول الخليج مجتمعةً بـ61 مركزًا، والباقي موزع على البلدان الأخرى في شمال إفريقيا، ورغم زيادتها فإن دورها ما زال يثير الكثير من التساؤلات.

ويرجع ذلك إلى أن الدول العربية لا تخصص أكثر من 0.8% من دخلها القومي للبحث العلمي سنويًا كحد أقصى، في حين تنفق “إسرائيل” 3.93% من إجمالي ناتجها المحلي لتمويل الأبحاث العلمية، ورغم أن الدول العربية تملك الكثير لكنها لا تنفق منه في البحث العلمي إلا القليل، أما في الصين واليابان والولايات المتحدة فالأمر تحول إلى إحدى ركائز قوة هذه البلدان عالميًا، الأمر الذي يحول دفة الدول العربية إلى مراكز البحث الأجنبية.

وعن مهام بعض مراكز الأبحاث والدراسات وأنشطتها في مجال الدراسات التي تقع ضمن اختصاصاتها، فإنها تشترك في اضطلاعها بأدوار مؤثرة في بلورة توجهات الدول والمجتمعات والمنظمات العالمية، لكنها تختلف من حيث الاختصاص ومناطق الاهتمام، فمؤسسة كارنيغي للسلام الدولي مثلاً تختص بصياغة مقاربات جديدة عن السياسات ودعم قضايا السلام في العالم، وهي تهتم أيضًا بالقوى السياسية والاقتصادية صانعة التحولات العالمية.

بينما يشتهر معهد بروكينغز بإجراء البحوث في مجالات الحكم والسياسة الخارجية والاجتماع والتنمية والاقتصاد، أما مجموعة الأزمات الدولية فتهتم بمنع اندلاع النزاعات المحتملة وإدارتها وحلها إذا ما اندلعت، وتصدر مجموعة الدراسات الاستباقية وتقدم التوصيات إلى الحكومات والجهات الدولية كالأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والبنك الدولي وغيرها.

ولا يغيب الشرق الأوسط عن دائرة اهتمام مراكز الأبحاث الأجنبية، فمعهد “تشاثام هاوس” يهتم برصد الأحداث الدولية وتحليلها من خلال تقارير تغطي معظم مناطق العالم، ومن أهم البرامج التابعة للمعهد، برنامج دراسات الشرق الأوسط الخاص بمراقبة الأوضاع المتأزمة في المنطقة وطرح توصيات بشأنها.

القرار السياسي العربي أسير مراكز الأبحاث

بدا الجدل يحتدم بشأن مراكز الأبحاث حين نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية، في سبتمبر/أيلول 2014، وثائق جاء فيها أن 64 حكومة أجنبية منها 9 حكومات عربية، مع استثناء متعمد لـ”إسرائيل”، أنفقت ما يناهز 8 ملايين دولار، تلقاها 28 مركز أبحاث أمريكي في السنوات الأربعة الأخيرة فقط.

مراكز الأبحاث التي تزداد يمينيتها بمرور الزمن – مثل سياسي الولايات المتحدة – زاد تحكم التمويل إعوجاجها، فعلى سبيل المثال، أُبعدت مديرة مركز أبحاث شؤون الشرق الأوسط التابع للمجلس الأطلسي ميشيل دنّ من منصبها إثر توجيهها انتقادات لاذعة للسلطات الحاكمة في مصر بعد الانقلاب العسكري.

وفي العام 2013 تجاوز 21 مركزًا أمريكيًا لأول مرة حاجز المليار دولار في عام واحد، ويوضح هذا طبيعة النمو المتسارع لهذه الصناعة اليوم؛ لذلك لا غرابة أن رئيس استخبارات سابق أو سياسيًا متقاعدًا أو متطرفًا عتيدًا يسارعون لامتلاك مركز من مراكز التفكير أو إدارتها.

مراكز جديدة لم تنشأ من عدم بل من باب تمويل داخل ثري وخارج يبحث عن سهمه في دوائر الحكم، وقد كشفت مؤسسة “صن لاين” المعنية بمراقبة الشفافية أن 3 دول عربية احتلت مراكز متقدمة بين دول العالم في الإنفاق على التأثير في السياسة الأمريكية.

لم تعد هذه المراكز إذًا كما وصفها روبرت بروكينغز – مؤسس أشهر هذه المراكز – بأنها مؤسسات تنتج الأبحاث دون تأثير أو مصالح بل أصبحت تؤسس للتأثير والمصالح، ففي عصر الهيمنة هذا قد يطول التساؤل: ألم يكن حديث الاستقلال مجرد خرافة؟!

صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية تحاول الإجابة عن هذا السؤال، ففي تقرير موسع لها على موقعها الإلكتروني، كشفت الصحيفة عن فضيحة جديدة لمراكز الأبحاث في واشنطن تثبت توجيهها بالمال من أجل تحقيق مصالح جماعات معينة سواء كانت اقتصادية أو سياسية، فعلى الرغم من أنه ينظر إلى مراكز الأبحاث على أنها مستقلة، فإن الباحثين فيها غالبًا ما يسعون لدفع أجندات ممولي هذه المراكز، ليؤكدوا بذلك ثقافة نفوذ المال في واشنطن.

وذهبت الصحيفة إلى القول بأن مراكز الأبحاث التي تصور نفسها على أنها جامعات بلا طلاب، لديها سلطة في المناقشات بشأن سياسة الحكومة لأنه ينظر لباحثيها على أنهم مستقلين عن مصالح المال، لكن في سعي هذه المراكز للحصول على التمويل، أصبح ما يعرف باسم “Think Tanks” تدفع بأجندات مهمة للمتبرعين من الشركات في الوقت الذي تراجع فيه الخط الفاصل بين الباحثين وأنصار تلك الشركات، وهم يفعلون ذلك مع الانتفاع بمزايا الإعفاءات الضريبية، وفي بعض الأحيان دون أن يكشفوا صلتهم بالشركات أصحاب المصلحة.

 قليل من النفوذ.. السعودية نموذجًا

أدركت الدول الغربية مبكرًا أهمية التخطيط لرسم السياسات الآنية والمستقبلية، فكانت مراكز الأبحاث والدراسات الرافعة التي تساعد صناع القرار على بلورة رؤاهم ورسم سياساتهم، وبينما تؤثر مراكز الدراسات والبحوث بشكل مباشر في صناعة القرار السياسي في الدول الغربية، تعيق الضغوط السياسية عمل هذه المركز في الدول العربية.

واللافت أن دول الخليج التي تمتلك إمكانات مالية هائلة واقتصادات قوية، لا تملك الكثير من مراكز التفكير والبحث، حتى إن عدد مراكز الدراسات المصنفة دوليًا في الصومال يفوق عددها ما يوجد في السعودية.

لذلك حين تعجز المراكز المحلية عن التأثير، فإنها تلجأ إلى توظيف شركات العلاقات العامة أو ما يُعرف بمؤسسات الضغط “”Lobbying، وهو ما قامت به السعودية للتأثير على صانعي القرار الأمريكي، لإسقاط قانون “العدالة ضد رعاة الإرهاب – جاستا”، فقد وظّفت الرياض “مجموعة بوديستا” التي تتلقى نحو 200 ألف دولار شهريًا من “مركز دراسات الشؤون الإعلامية” المرتبط بالبلاط الملكي مباشرة، بموجب عقد مقابل خدمات “علاقات عامة” في هذا الشأن.

وعن حجم الإنفاقات السعودية، أصدر معهد الدراسات السياسية وهو أحد مراكز الأبحاث الأمريكية دراسة قدّر فيها تلك الإنفاقات بنحو نصف مليون دولار شهريًا على شؤون العلاقات العامة استنادًا إلى البيانات المتوفرة لدى وزارة الخارجية الأمريكية، ما يعني أن الرهان على هذه الأموال في تحقيق اختراقات على مستوى دوائر القرار الأمريكي هو رهان منطقي بنظر الكثير من المراقبين.

وتترافق المساعي السعودية على الأراضي الأمريكية مع حملات تعاقد مع مراكز أخرى تتلقى أموالاً سعودية مباشرة بينها معهد الشرق الأوسط Middle East Institute، مجلس سياسة الشرق الأوسط Middle East Policy Council، مؤسسة بيل وهيلاري وتشيلسي كلينتون.

وفي هذا الخصوص أوضحت أسبوعية “ذي نيشن” المقربة من صناع القرار السياسي الأمريكي في تقرير لها أن الأموال السعودية لا تزال قادرة على شراء النفوذ في واشنطن على الرغم من تراجع اعتماد الاقتصاد الأمريكي على واردات النفط الخام السعودي.

أما المؤسسات غير الربحية فهي أيضًا تنال بعضًا من أموال النفط، وعلى رأسها مراكز الفكر والأبحاث المتعدّدة، ففي إحدى جلسات الاستماع في لجان الكونغرس لوزير الدفاع السابق، تشاك هيغل، تمّ الكشف عن تلقّي “مجلس الأطلسي” أموال سعودية، حتى أضحى هيغل بعد استقالته من منصبه الرسمي أحد أعضاء المجلس البارزين.

التمويلات العربية لمراكز الأبحاث الغربية

ثمة أسئلة تطرح نفسها مع هذه التسريبات والتقارير التي لم تنفها وزارة الخارجية السعودية على خطورتها ودلالاتها: هل هذه الأموال والملايين الطائلة التي تنفق هي أحد أدوات المملكة الناعمة لضمان استقرار المملكة في المنطقة والحصول على مزيد من الدعم الصهيو أمريكي في المنطقة؟ وما المكاسب المتوقعة من دعم السعودية لمراكز الأبحاث؟ وهل هناك دول عربية أخرى تدعم مراكز الأبحاث الانتخابية خارج حدودها؟

المملكة السعودية ليست الوحيدة التي تسخّر ثروتها المالية في مراكز الأبحاث الأمريكية، بل تتسابق دول مجلس التعاون الخليجي فيما بينها لترويج سياساتها منذ بداية عقد السبعينيات وطفرة النفط، وذكر تقرير “نيويورك تايمز” أعلاه دولاً أخرى من بينها النرويج وقطر والإمارات واليابان فضلاً عن المغرب ومصر والسودان.

وفي منتصف عام 2014 نشرت يومية “نيويورك تايمز” تحقيقًا عن تنامي نفوذ الأموال الخارجية في واشنطن وتسخيرها مراكز أبحاث مرموقة خدمة لسياساتها الآنية، وقالت: “الترتيبات تشمل معظم مراكز الأبحاث الكبرى والنافذة في واشنطن، منها معهد بروكينغز مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية والمجلس الأطلسي، مضيفة أن كلّ واحد منها يتلقى أموالاً من مصادر أجنبية، لقاء تقديم دراسات سياسية، وترتيب منتديات نقاشية وعقد لقاءات خاصة مع مسؤولين رسميين رفيعي المستوى التي عادة تتعلق بأجندات الحكومات الأجنبية”.

وأوضح تقرير لصحيفة “واشنطن بوست” أنّ معهد بروكينغز الذي يعدّ من أقدم المراكز الأمريكية المرموقة، تلقى نحو 22 من مجمل ميزانيته لعام 2013 من مصادر أجنبية، عقب تسلّم ستروب تالبوت رئاسته، وهو الدبلوماسي السابق في إدارة الرئيس كلينتون، وأضافت أنه بعد انقضاء عقد من رئاسة تالبوت على المعهد، ارتفعت ميزانيته السنوية ثلاثة أضعاف.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى