قصة قصيرة .. عام جديد سعيد

 

في آخر أمسية من العام الماضي تلبّدت السماء بغيوم داكنة، وانخفضت درجات الحرارة وبدأ الثلج الخفيف يتساقط ببطء. في هذا الطقس الشديد البرودة كان هناك شابا في مقتبل العمر اسمه صابر، حافي القدمين، مكشوف الرأس، بالي اللباس يسير في أحد شوارع العاصمة الرئيسيّة، ويحمل بيديه مجموعة من الورود الحمراء الجميلة ملفوفة بقطعة من القماش يحاول بيعها للمارّة وفي المقاهي والمطاعم، ولسائقي السيارات الذين يتوقّفون على إشارات المرور وهم في طريقهم إلى بيوتهم وإلى المطاعم وأماكن الترفيه ليأكلوا ويشربوا مما لذ ّوطاب، ويلهون احتفالا بالعام الجديد.

كان صابر في الثامنة عشرة من العمر، يعيش مع والديه وأشقّائه وشقيقاته. كانت الأسرة تعاني من فقر مدقع، وتسكن في بيت متهالك يفتقر لجميع وسائل الراحة والحياة الصحيّة؛ كان والده يعمل في ورش البناء، وشقيقه الأكبر يعمل براتب زهيد في محل بقالة في حي العشوائيّات الفقير الذي كانت تقطنه الأسرة، وصابر يبيع أي شيء حسب المناسبات وتقلّبات الطقس.

عندما غادر صابر البيت بعد عصر ليلة رأس السنة، كان يرتدي حذاء اشتراه له والده من ” البالة”، لكنّه كان كبيرا إلى درجة أنه انزلق من قدميه بينما كان يعبر الشارع مسرعا إلى الجهة الأخرى، ولحسن حظّه تمكّن من التقاطه بعد أن عرّض حياته للخطر وعبر الشارع حافي القدمين، ثم توقف قليلا وارتداه بعد أن وصل إلى الجهة الأخرى.

غطّت حبيبات الثلج الخفيف البيضاء المتساقطة بخفّة وتكاسل شعره المجعّد وأكتافه، وكان صورة حقيقيّة لأسف وضياع لا يمكن إخفاءه أو تجاهله؛ كان يسير بألمه وتعاسته ويراقب المارّة والمتواجدين في المطاعم والمحلات التجاريّة الأنيقة التي تعرض منتجات مستوردة مرتفعة الثمن، ويردّد بصوت عال ” ورد للحبايب في راس السنة”، ويشتمّ رائحة الّلحوم المشوية الشهيّة المنبعثة من المطاعم المجاورة.

أدرك صابر أنّه في عالم آخر لا علاقة له بعالمه البائس؛ إنّه في ضاحية العاصمة الغنيّة المميّزة بشوارعها النظيفة الخالية من الحفر والمطبات والزبالة ومظاهر البؤس والمعاناة، وبيوتها وقصورها الفارهة، ومتاجرها وفنادقها ومطاعمها ومقاهيها وباراتها ونواديها الليلية، والتي يقطنها كبار رجال الدولة وضبّاط الجيش والأثرياء الذين لا يجرؤ أحد أن يسألهم ” من أين لك هذا “، ولم يعرفوا الجوع حتّى في أشهر الصيام، ولم يجرّبوا آلام الفقر والحرمان الذي تعاني منه أسرته والشريحة الأكبر من الناس في ضواحي العاصمة الأخرى، وفي كل مدينة وقرية في ذلك الوطن التعيس الذي يعيش على الأكاذيب، والعنتريات، وقصص السحر، والخرافات والأوهام التاريخيّة القديمة والحديثة.

توقف تساقط رذاذ الثلج قبل غروب الشمس بقليل، ووقف صابر في زاوية مغطّاة تقع على شارع مزدحم فيه العديد من المطاعم والمقاهي والنوادي الليلية ليعرض وروده، وكان محظوظا في ذلك المساء فباعها بأسعار مرتفعة في أقل من ساعة وحصل على مبلغ جيد.

كانت الساعة ما تزال حوالي السابعة مساء واحتفالات رأس السنة الميلادية الجديدة في بدايتها. كان جائعا ويرتعش من شدة البرد؛ لكنه شعر بالسعادة لآنه باع وروده سريعا وكسب أكثر ممّا كان يتوقّع بكثير وقرّر ان يتناول وجبة شهيّة احتفالا برأس السنة؛ وفجأة سمع صوتا يناديه! التفت حوله ورأى صديقه ثائر الذي كان زميله في البيع في الشوارع، لكنه توقّف عن ذلك فجأة ولم يلتقي به منذ بضعة أشهر. وبعد أن تبادلا التحية بادره ثائر بالقول ” يا لها من صدفة جميلة. أنا سعيد برؤيتك.”

” وأنا كذلك. لم أراك منذ شهور؛ أين اختفيت؟”

” لقد وجدت عملا بدوام رسمي ”

“اين؟ ”

” في فندق ” هلتون” العاصمة.”

” ما شاء الله؛ وماذا تعمل هناك؟”

” في التنظيف؛ نحن مجموعة ننطف الغرف والممرات ونغيّر أغطية الأسرّة ونعيد ترتيبها.”

” في التنظيف! أنت حاصل على بكالوريوس في علم الاجتماع والفلسفة من جامعة جيدة؛ لقد ظننت أنّك وجدت عملا في إحدى وزارات الدولة، أو في التدريس.”

” انت تحلم؛ الوظائف الجيدة في الوزارات يحصل عليها أبناء الذوات والعشائر ومن لهم واسطة؛ أما أنا والفقراء من أمثالي لا تساعدنا شهاداتنا الجامعية في الحصول على عمل كريم يتناسب مع مؤهلاتنا العلمية. لقد قدّمت طلبات عمل في كل مكان ولم أوفق في الحصول على شيء”

” كم ساعة تعمل في اليوم؟”

” تسع ساعات؛ ويوم الجمعة عطلة.”

” هل يدفعون لك راتبا جيدا؟

” المطعم تديره شركة أجنبيّة ويدفعون لي راتبا جيدا أساعد به أسرتي والحمد لله ” مستوره .. والي برضا بعيش” كما يقولون؛ وأنا راضي غصب عني!

” يا زلمه صرت من الأكابر.” قال له صابر مازحا.

” بلا أكابر بلا بلوط، شغلة كناسه وتنظيف ولكنها أفضل من البيع في الشوارع.”

” وانت إ كيف أحوالك؟ وماذا تعمل؟”

” ما زلت كما كنت؛ لم يتغير شيء؛ أبيع أشياء متفرقة في الشوارع. أقضي يومي وأنا ألف من شارع إلى آخر صباحا ومساء ولا أكسب إلا القليل. كما تعلم اسرتي كبيرة والدخل منخفض جدا، وزي ما بقولوا إحنا بنركض ورغيف الخبز بركض قدّامنا. إحنا لا ساكنين في بيت زي الناس، ولا بنوكل وبنشرب وبنلبس زي الناس؛ حياة كلها مقت وذل ومره مثل العلقم.” قال صابر

” وما الذي أحضرك إلى هذه الضاحية؟ ”

” الصدفة! أو لنقل الحظ السعيد! لقد اشتريت مجموعة من الورود وجئت لأبيعها هنا، ونفقت بسرعة وكسبت فيها جيدا. الظاهر أن المثل الذي يقول، حط ميّت على ميّت بتشوف العجب صحيح! في الأحياء الفقيرة الناس مش قادرين يوكلوا خبز مش يشتروا ورد.”

” هذا صحيح؛ الناس في هذا الحي أغنياء ويصرفون الكثير من النقود ولا تهمهم الأسعار.”

” لهذا السبب قررت أن استمر في بيع الورود في هذه المنطقة.”

بينما كانا واقفان قال ثائر” إن الفندق الذي أعمل فيه قريب من هنا؛ هل ترغب في الذهاب معي لنأكل شيئا هناك ونتفرج على المحتفلين برأس السنة؟

وافق صابر وتوجها إلى مطعم الفندق وطلبا وجبتين وزجاجتين من الكوكا كولا.

” سبحان الله صرت تقعد وتوكل في مطعم فندق هيلتون يا ثائر!”

 

” أنت تعلم أننا أولاد عائلات فقيره وينطبق علينا قول الشاعر: يخال الرغيف في البعد بدرا …. ويظن اللحوم أكلا حراما؛ يعني أنا مثلك عايف حالي من الطفر، ولا بوكل في مطاعم غاليه ولا بسكر، لكن الليلة هي ليلة راس السنة وقررت أن أحتفل بهذه المناسبة وأتفرج على الأغنياء كيف يعيشون ويحتفلون بالمناسبات المهمّة. بعدين يا زلمه حرام الواحد ينبسط في حياته مرّة في السنة، يعني هي الحياة لازم تكون كلها تعاسه في تعاسه.”

كان المطعم جميلا فاخرا مضاء بأضواء خافتة، ومكتظا بالزبائن الذين يرتدون ملابس ثمينة على آخر طراز، ويتناولون طعامهم هم وأسرهم وأصدقائهم بهدوء وتمتّع، ويستمعون إلى الموسيقى، ويستمتعون بوقتهم.

” انظر إلى هؤلاء الرجال والنساء لقد نسوا أصلهم. أليس عيبا عليهم أن يظهروا بهذه المظاهر الفاضحة ويذهبون إلى الملهى الليلي الملاصق للمطعم والنوادي الأخرى، ويقيمون الحفلات في بيوتهم، ويرقصون ويغنّون احتفالا بالسنة الجديدة؟” قال صابر.

” أنا لا أتفق معك؛ هذه ليست مظاهر فاضحة؛ الناس يلبسون أجمل ما عندهم في المناسبات السعيدة، ويحتفلون ويرقصون ويغنّون في جميع مجتمعات وثقافات العالم”

” الظاهر ان عملك في فندق هيلتون أثر عليك كثيرا؛ يا زلمه مبيّن خربت، لقد كنت متديّنا وتصلّى الخمس صلوات؛ فما الذي حدث لك؟ ومن الذي غيّرك بهذا الشكل؟”

” أنا ما زلت متديّنا وأصلي معظم الصلوات في المسجد، وأخاف الله كما كنت أخافه سابقا، لم يغيّرني أحد؛ الذي غيّر وتغيّر هو أنا؛ أنا الذي تمردت على الجهل، وتخلصت من حواجز الخوف والإرهاب الفكري، ونجحت في تغيير نفسي وبعض قناعاتي ونمط تفكيري”

” انت فعلا اسمك على رسمك يا ثائر؛ الظاهر أنك متمرد ومتطرف في تفكيرك.”

” انت لا تفهمني! أنا لست متمردا؛ إنني أحاول أن أرى الأشياء كما هي، وأفهمها كما هي، ولا أعطيها أكثر أو أقلّ ممّا تستحق، وأحاول أن أقول الحقيقة مهما كانت مؤلمة.”

كانت الساعة تقترب من العاشرة، وارتفعت أصوات الموسيقى الصاخبة القادمة من الملهى التي كان يرقص على أنغامها المحتفلون؛ وفجأة سأل صابر ثائر ” هل يمكنك مساعدتي في الحصول على عمل في هذا الفندق؟ ”

” سأسألهم إذا كانوا بحاجة إلى عمّال واخبرك بالنتيجة.”

” الآن اسمح لي أن أغادر المكان. والدي بالانتظار، وسيسرّ بالمبلغ الذي حصلت عليه الليلة.”

” وأنا سأقضي ما تبقى من السهرة في الفندق واستمتع بإطلالة العالم الجديد.” قال ثائر

كل عام وانت بخير يا صابر؛ وانت بخير يا صديقي، وذهب كل منهما إلى عالمه، وعندما اقترب الوقت من منتصف الليل، عزفت الموسيقى بجنون، واشتدّت حدّة الرقص، ووصلت الاحتفالات إلى أوجها، وانتهى عاما وبدأ آخر، واشرقت الشمس من جديد كما أشرقت أوّل مرّة؛ وستظلّ تشرق، وتظل الكرة الأرضية مدينة لجهود صابر وثائر وعشرات البلايين من الرجال والنساء الذين مروا بها، وساهموا في إعمار وازدهار كل زاوية من زواياها، وأبدعوا في تشكيل تناقضات الوجود فيها.

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى