عن “المجد” في الثانية والعشرين

لجريدة المجد في النفس حكايات صاغتها التجربة قبل ان يصقلها الإيمان بالفكرة وبالمشروع، وبنبل المقاصد التي كرستها عبر 22 سنة من عمرها الدؤوب.

وللمجد في نفسي حكاية عمر فثماني سنوات صحفيا فيها لم تكفني للغرق الناعم في مدرسة صحفية قلت عنها ذات يوم أمام لجنة من ستة صحفيين إنها تمثل مدرسة صحفية في الأردن ولذلك قاموا فورا برفض توظيفي باعتباري صحفيا مؤدلجا..

عندما غادرت قاعة الاجتماع كنت اشعر بالزهو فثمة عقيدة نثرتها امام 12 عينا كانت تحدق فيَّ وكأنني خارج للتو من مقبرة تفيض بالملائكة في حضرة قديسين يدركون تماما الفرق بين الزاوية القائمة التي استند اليها وزاويتهم المنفرجة التي ينبطحون على خفة منعرجها..

وفي المجد الجريدة ثمة قضايا لم تكن مؤهلة ابدا للنسيان، الدرج الطويل الذي يفضي بعد طابقين لمكتب صغير متواضع على ناصية هادئة في شارع مكة، المسافة التي كنت اقطعها مشيا على قدمي في الغدو والرواح من شارع مكة الى دوار الداخلية، ومن مجلس النواب اليها، ووجه فهد الريماوي، استاذي وشيخي وحبيب الطريقة ووصفة النجاح واحتمال خفق الرياح في تقلبات الطقس السياسي وتهور المناخ..

لم تكن خطواتي لجريدة المجد ذات يوم في شهر كانون الاول ديسمبر سنة 1995 برفقة صديقي حامد الحاج حسن تستهدف غير السلام على “الأستاذ” ، ففهد الريماوي كان ولم يزل استاذي وشيخي منذ اكثر من 33 سنة مضت، ولم اكن في حضرته دائما غير تلميذ يعرف قيمة السنديانة التي يرمقها بعينيه حتى وهو في أشد حالات غضبه وهيجانه عندما يكتشف ان ثمة فاصلة في الجملة وقعت سهوا او ان حرفا اخذ مكانه الخطأ في كلمة قد لا يلتفت اليها أحد، لكنها بالنسبة لفهد الريماوي كانت تمثل كارثة لا تليق بجريدة مثل” المجد “.

هذه الصرامة في الدقة والتدقيق والإختيار كانت ولم تزل هوية جريدة” المجد ” التي تحتفل هذا الأوان بمرور 22 سنة على صدورها وكأنها صدرت بالأمس، فقد توالدت هذه الجريدة من رحم الأزمات التي عصفت بها عصفا لتذويبها، وتدجينها أو قتلها لكنها كانت في كل مرة تنهض كطائر الفينيق الكنعاني من تحت الرماد وتهب لنفسها ولرجالها مساحة عمر أخرى، وتفتح أمامها أيضا مساحة لمجالدات تالية نعرف نتائجها سلفا فقد ولدت المجد لتنتصر وتدوم، قال لي ذلك فهد الريماوي ذات مرة عندما تعرضت الصحافة الأسبوعية لمجزرة تاريخية سنة 1997 ـ إن لم تخني الذاكرة ــ.

هذا الأوان و”المجد” تطفيء شمعتها الثانية والعشرين استذكر المئات من الرجال الذين كانوا يحطون رحالهم على مقاعدها، رجال دولة، ورجال سياسة، ورجال حكم وسلطة، ومناضلين متقاعدين، ومناضلين ناشطين، واعيان ونواب ووزراء ونقابيين وحزبيين، وشعراء وكتاب، وحالمين وفاقدي الأمل ومن يربون الأمل ايضا، واحياء ما زالوا بيننا، وموتى ذهبوا الى رحمة الله..

وفي “المجد” ثمة طغيان لفكرة الأمة الواحدة، كانت في كل تفاصيلها ولم تزل عنوانا يصرخ في البرية، لم تتراجع هذه الفكرة للخلف قيد أنملة، ولم تخضع بالمطلق لمنطوق المصلحة، وانحرافات الغرق السياسي، ولذلك ظلت “المجد” على مدى 22 سنة عنوانا يصرخ في البرية عن امة واحدة لا تؤمن بفرجار السيدين سايكس وبيكو وما تلاهما من تنويعات الطائفية والعرقية وعفونة كل المسميات التي تطفو هذا الأوان على جسد العربي.

استذكر من “المجد” ان احدا لم يسألني يوما عن انتمائي السياسي او العقائدي، ولم يقل لي احد إن كنت قوميا مولودا بالفطرة ام كنت اقليميا بالفطرة ايضا، كان الهدف فقط ان تلتزم بعقيدة”المجد” ولك بعد ذلك حرية الإختيار أين تكون، وفي أي معبد سياسي او حزبي تؤدي صلواتك، ولذلك عندما تم اعتقالي في نهاية سنة 1998 استغرب فهد الريماوي أني كنت عضوا في حزب البعث وقال لي  لك معنا ثلاث سنوات ولا نعرف، فقلت له.. لم تكن امامنا فرصة لعرض انحيازاتنا السياسية، وبعد ذلك استقلت من عضوية الحزب وطلقت الحزبية الى الأبد..

جريدة “المجد” هي آخر الصحف من زمن الصحافة الجميل الباقية والتي تجالد نفسها وظروفها للإستمرار بالحياة، ولا أظن أن ثمة من لا يرغب ببقائها لكنها تحتاج لتامين وسائل بقائها، ونحن كصحفيين نحتاجها لتظل جريدة بطعم مختلف ونكهة مختلفة..

جريدة الانباط

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى