لإرغام دمشق على المصالحة بشروطها.. تركيا تُفلت وكلاءها من الإرهابيين لمهاجمة المراكز الحكومية في شمال سوريا
بيروت – الأخبار
كان مفاجئاً إلى حدّ كبير تجدُّد المعارك على جبهة ريف حلب الغربي، خصوصاً أن البادئ بالهجوم ليس إلا التنظيمات المتطرّفة في منطقة إدلب. وسبب المفاجأة، هو أن هذه التنظيمات لم تخرج يوماً من عباءة أوامر تركيا مهما تعدّدت الروايات حول مصادر تمويلها وتسليحها، فكيف باتّخاذ قرار «مستقلّ» عن الدولة الراعية لوجودها، أي تركيا؟ ويأتي ذلك بعدما كادت المعارك «الكبيرة» بين المسلحين والجيش السوري تصبح من الماضي؛ إذ مرّت على الأقلّ أربع سنوات من الهدوء النسبي الذي كان يُخترق أحياناً، ولكن بحدود لا تتعدّى المناوشات. وفي إطار تعليقها على تطورات الميدان السوري، اعتبرت وزارة الخارجية التركية، أمس، أن «هجمات النظام السوري الأخيرة على إدلب، وصلت إلى مستوى يضرّ بتنفيذ ما تمّ الاتفاق عليه في أستانا»، مشيرة إلى أن «الاشتباكات الأخيرة في شمال سوريا، أدّت إلى تصعيد غير مرغوب فيه للتوتّر في المنطقة».
لكنّ الأهم أن المعارك انفجرت بعد ستة أشهر تقريباً من بداية مسار جديد، انطلق مطلع حزيران الماضي، بعد شائعات عن لقاء أمني جمع الأتراك إلى السوريين، لتليه، في أواخر حزيران، حملة تصريحات تولّاها الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، الذي أبدى اهتماماً شديداً بلقاء نظيره السوري بشار الأسد. وتوالت تلك التصريحات على امتداد الأشهر الستة الأخيرة، وكان آخرها لدى عودة إردوغان من قمّتَي الرياض العربية – الإسلامية، وباكو حول المناخ، حتى كادت تصل إلى حدّ «التوسّل»، وهو ما انتقدته وسائل إعلام تركية موالية. ولكن جلّ المساعي لم تصل إلى خواتيمها لسبب رئيسي، هو امتناع إردوغان عن تلبية المطلب السوري الأساسي: التعهّد بالانسحاب من الأراضي السورية. وفيما أدّى ذلك إلى تعثّر التواصل بين الجانبين، فإن السؤال عن سبب الرفض التركي لطلب دمشق، يفتح على ما يجري الآن من تطورات سواء في سوريا، أو المنطقة بوجه أعمّ. وعن ما تقدّم، يمكن إيراد الآتي:
أولاً: إن الدعوة التركية إلى لقاء (قمّة)، والمصحوبة برفض التعهد بالانسحاب، فُسّرت على أنها محاولة من جانب إردوغان لتحقيق إنجاز بالمجان، وهو ما لم يكن ليقبل به الأسد، خصوصاً أن تصريحات الرئيس التركي كانت تواكَب – في توزيع للأدوار – بتصريحات متشدّدة من جانب وزيرَي الدفاع ياشار غولر، والخارجية حاقان فيدان، ركّزت خصوصاً على تحقيق المصالحة بين دمشق والفصائل المعارضة، بما في ذلك الذهاب إلى انتخابات تشريعية، وتشكيل حكومة جديدة، وإجراء استفتاء على دستور جديد، قبل أن «تفكّر» تركيا في الانسحاب من سوريا.
ثانياً: يبدو أن تركيا لا تفكّر أساساً في الانسحاب، بل في تعميق احتلالها وفقاً لِما كانت تخطّط له خلال الحرب، وهو البقاء في سوريا طويلاً، مع تغيير الوضع الديموغرافي والعسكري والاقتصادي والثقافي. أمّا في المناطق التي لا توجد فيها مباشرة، فهي كانت تعدّ للمعارك في أوانها، معتمدةً في ذلك على وكلائها المسلحين في إدلب، والذين يجتمعون تحت أسماء مختلفة.
ولم تكن تركيا، على أيّ حال، تعتبر نفسها مضطرة إلى التعهد بالانسحاب، في ظلّ انتفاء العوامل الضاغطة عليها، ولا سيما مع انشغال إيران بفلسطين بعد عملية «طوفان الأقصى»، وروسيا بأوكرانيا. وربّما كانت الحرب على غزة، ومن ثم الحرب على لبنان، وانشغال محور المقاومة بهما، من أسباب مساكنة تركيا لسوريا وإيران وروسيا. أما الآن، وبعد انتهاء الحرب في لبنان وتراجع وتيرتها في غزة، فلم يَعُد أمام إردوغان حاجز «أخلاقي» يحول دون استئناف معارك المسلحين ضد الجيش السوري، وذلك لأكثر من سبب، يمكن إجمالها بالآتي:
1- إرغام الأسد على القبول بشروط إردوغان للمصالحة بين البلدين، وفي مقدّمها المصالحة مع المعارضة والقبول بها كجزء من «نظام جديد» في سوريا داخلياً وعلى الحدود.
2- ربّما كان تحذير رئيس حكومة إسرائيل، بنيامين نتنياهو، الأسد من «اللعب بالنار» بمثابة شرارة إطلاق موجة جديدة من الضغط الإسرائيلي على سوريا، لاستهداف الوجود الإيراني في هذا البلد، ولقطع خطوط إمداد «حزب الله» بالسلاح عبر سوريا. والواقع أن العداء لإيران في سوريا يشكّل قاسماً مشتركاً بين أنقرة وتل أبيب، علماً أن إردوغان الذي قدّم التعازي بالقائدين إسماعيل هنية ويحيى السنوار بالاسم، لم يقم بالشيء نفسه تجاه السيد حسن نصرالله لدى استشهاده، حتى إن بعض حاشيته وأقلامه لم يخفوا شماتتهم باستشهاد السيد، وبالتالي فإن الظرف على ما يبدو مؤاتٍ لإسرائيل كما لتركيا. ويضع ذلك أنقرة في خانة الشريك لتل أبيب في استهداف سوريا وإيران ومحور المقاومة في المنطقة، بل ولربما – إذا استطاعت – تغيير النظام في دمشق. وممّا يشجّع تركيا وإسرائيل على تعزيز الضغوط العسكرية على سوريا، دعم الغرب الكامل لحربَي غزة ولبنان، فيما الوقت أكثر من مناسب لـ«دق الحديد وهو حام»، وهو وقت ضائع إلى حين تسلّم دونالد ترامب السلطة.
3- يبرز في هذا السياق، الدور الروسي في ما يجري في غرب حلب، حيث تتباين المعلومات بين مَن يرى أن موسكو لم تتدخّل بشكل كاف أو أنها تدخلت من دون أن تحقّق نتيجة مهمّة، نظراً إلى تفاجئها هي الأخرى بهجوم المسلحين، أو لأسباب أخرى قد يكون من بينها «قبة باط» أيضاً للضغط على الأسد لتحقيق المصالحة مع تركيا وتقليص الوجود الإيراني في سوريا، أو عدم إغضاب إسرائيل في هذه المرحلة التي تتعرّض فيها روسيا لضغوط غربية.
4- يتوافق هجوم المسلحين أيضاً مع ما ظهر قبل مدة من محاولات إضعاف الدولة السورية، وإقامة منطقة عازلة تحت سيطرة إسرائيل في جنوب سوريا من درعا والسويداء إلى الحدود العراقية، واحتمال قيام إسرائيل بهجوم على الجنوب السوري لتحقيق ذلك.