الحرب وما بعدها.. لبنان ومصيره

بقلم: عبد الله السناوي/ القاهرة

إنها نفس اللعبة تتكرر مرة بعد أخرى دون أن تصل إلى أى وقف لإطلاق النار على جبهتى الحرب المشتعلة فى غزة ولبنان. لعبة التفاوض تحت الضغط العسكرى ورفع الأسقف السياسية بغير سند فى الميدان لإجهاض أى اتفاق ممكن.

تتبدى الآن تحركات سياسية لإنهاء الحرب على لبنان دون أن يكون مرجحا وصولها إلى مرفأ أخير قبل صعود «دونالد ترامب» إلى البيت الأبيض (20) يناير (2025).

«لن يحدث وقف إطلاق نار حتى تتحقق أهداف الحرب كلها.. تجريد حزب الله من سلاحه وعودة مقاتليه إلى خلف نهر الليطانى وعودة المستوطنين إلى بيوتهم فى الشمالى. كان ذلك تصريحا ملفتا وكاشفا لوزير الدفاع الإسرائيلى الجديد «يسرائيل كاتس». لا تعود أهميته إلى موقعه الوزارى، الذى صعد إليه دون أية مؤهلات وخبرات عسكرية سابقة، بقدر تعبيره الحرفى عما يطلبه رئيس الوزراء «بنيامين نتنياهو».

لا وقف إطلاق نار مرجحا خلال الشهرين المقبلين، لكن الحركة الدبلوماسية لن تتوقف حتى تستبين الحقائق فى الميدان. تضمنت مسودة اتفاق مسربة الأهداف الإسرائيلية من الحرب على لبنان، جرى التفاهم عليها بمباحثات مطولة مع الرئيسين الحالى «جو بايدن» والمنتخب «ترامب» دون أن يكون اللبنانيون طرفا مباشرا فى صياغتها، كأنها أمر واقع يراد فرضه على لبنان ومصيره.

نقلت المسودة عبر السفيرة الأمريكية فى بيروت إلى «نبيه برى» رئيس مجلس النواب ممثلا للمقاومة المسلحة قبل «نجيب ميقاتى» رئيس حكومة تصريف الأعمال، كأنه مقصود إثارة حساسيات طائفية فى بلد ملغم بها ويحاول الحافظ على وحدته فى لحظة تقرير مصير.

المسودة المسربة أقرب إلى «وثيقة استسلام»، فوقف إطلاق النار لمدة ستين يوما، يجرى خلالها تنفيذ بقية بنودها. المعنى أنه ليس نهائيا ولا مستداما. خلال تلك الفترة يتسلم الجيش اللبنانى المناطق الحدودية تحت إشراف أمريكى بريطاني. فى حقيقة الأمر إسرائيلى، إذا أردنا أن ندقق فيما وراء الألفاظ من معان. لا يعارض اللبنانيون أن يكون هناك إشراف دولى على التنفيذ شرط اتساعه ليضم دولا صديقة كروسيا.

«منع إعادة تسليح حزب الله، أو تهريب السلاح إليه من سوريا». كان ذلك نصا ملغما يستحيل تنفيذه دون أن تكون روسيا طرفا مباشرا فيه، وهو ما تعترض عليه ولا ترى فيه مصلحة لها فى ظل تحالفها الوثيق مع إيران.

الأخطر، حسب ما هو مسرب، السماح للقوات الجوية الإسرائيلية بحرية الحركة فى الأجواء اللبنانية. إنه اعتداء مباشر على لبنان كله، يضرب سيادته فى مقتل ويضعه رسميا تحت الوصاية العسكرية الإسرائيلية تفعل ما تشاء وقتما تشاء.

فيما يشبه الإجماع اعترض اللبنانيون على ذلك النص، كأنه خط أحمر تمترسوا خلفه. هناك فارق بين الاختراقات الإسرائيلية للأجواء اللبنانية من وقت لآخر وبين إقرارها فى اتفاق مكتوب، أو وثيقة منفردة تضمنها الولايات المتحدة. الكلام كله سائل ينقص أو يزيد حسب حسابات السلاح وموازين القوة على الأرض.

المقترحات المسربة تصطدم بموقف لبنانى صلب لا يتزحزح، وهو ألا يحدث أى تجاوز، أو تعديل على القرار الأممى (1701)، الذى أوقف بمقتضاه إطلاق النار بعد حرب تموز (2006)، لكنه لا يمانع فى توسيع آلية المراقبة وفق قواعد وتفاهمات.

بحقائق الميدان فإن الجيش الإسرائيلى ليس فى وضع عسكرى يؤهله لفرض شروطه، فهو منهك وغير قادر على تحقيق أى إنجاز برى. فى نهاية المطاف ليس أمامه غير القرار الأممى دون زيادة أو نقصان حسب «نبيه برى». من المرجح على نطاق واسع ألا تنجح المرحلة الثانى من عمليته البرية فيما فشلت فيه الأولى.

يصعب على إسرائيل احتمال حرب استنزاف طويلة تنال من مدنها الكبرى وتجمعاتها العسكرية بالمسيرات الانقضاضية والصواريخ البالستية.

الكلام الإسرائيلى عن تقويض مخزون المقاومة اللبنانية فى الجنوب ثبت أنه لم يكن صحيحا حيث تتصاعد بصورة مضطردة حدة ومستويات عملياتها، حتى وصلت إلى مبنى وزارة الدفاع وهيئة الأركان ونافذة حجرة نوم «نتنياهو» فى بيته بـ«قيساريا».

معضلة «نتنياهو» أنه إذا أوقف القتال على جبهتى غزة ولبنان دون أن يحقق أهدافه المعلنة فسوف ينظر إليه فى إسرائيل على أنه فشل فشلا ذريعا. فى نفس الوقت يدرك أنه لم يعد أمامه وقت طويل.

بتعبيره: «إن وقف إطلاق النار فى لبنان سوف يكون هدية مبكرة لترامب». فى مشهد واحد تتداخل إدارتان أمريكيتان، كل منهما تريد أن تحسب الفضل فى وقف إطلاق النار بلبنان إليها وحدها. يحاول الرئيس «بايدن”، وهو يلملم ملفاته مطرودا من البيت الأبيض والتاريخ معا، أن يخفف من وطأة هزيمته السياسية والأخلاقية بوقف إطلاق نار على الجبهة اللبنانية.

فيما يحاول الرئيس «ترامب»، الذى يوشك أن يدخل البيت الأبيض مجددا، أن يثبت صدقيته فيما بذله من وعود بوقف الحرب فى لبنان وغزة.

أولويته لبنان، وقد تعهد بذلك فى اجتماع انتخابى ضمه إلى رجال أعمال لبنانيين بولاية متشيجان نظمه مستشاره وصهره «مسعد بولس» اللبنانى الأصل. ترتيب الأولويات على هذا النحو يعود إلى أن الحرب اللبنانية أقل تعقيدا من الحرب على غزة. فك الارتباط بينهما هدف مباشر حتى يمكن الدخول إلى أخطر تحول فى تاريخ الصراع بفرض السيادة الإسرائيلية الكاملة على الضفة الغربية، التى تعنى إنهاء السلطة الفلسطينية والتقويض النهائى لـ«حل الدولتين».

الفكرة طرحها وزير المالية الإسرائيلى اليمينى المتطرف «بتسلئيل سموتريتش»، ودعمها «نتنياهو»، لكنه أجل وضعها على جدول الأعمال إلى أن يصعد «ترامب» إلى البيت الأبيض.

يلفت النظر هنا أن الرئيس المنتخب دعا لأول مرة فى تاريخ الرئاسات الأمريكية اثنين من كبار المستوطنين إلى حفل تنصيبه. قد يوقف إطلاق النار فى لبنان أولا، لكن حرب المصير تبدأ بعدها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى