إفلاس الديموقراطية.. أمريكا إلى أين؟

 بقلم: سليمان مراد*

أما الآن.. وقد أُسدل الستار عن مؤتمري الحزبين الجمهوري والديموقراطي المهيمنين على الحياة السياسيّة في أمريكا، دخلت هذه البلاد فعليّاً في الشوط الأخير من السباق الرئاسي، إلّا أن ما شاهدناه وما سمعناه في خضم هذين المؤتمرين يشي بأنّ الديموقراطية التي يتغنّى بها الغرب على الورق.. باتت تحتضر فعلياً.

الديموقراطية، كما يُفسّرها القاموس (وفقاً لمعجم “وليام-وبستر” Merriam-Webster)، هي: “نظامُ حكمٍ تكون فيه السلطة العليا للشعب؛ يُمارسها بشكل مباشر أو غير مباشر من خلال نظام تمثيل يتضمن عادة انتخابات حرة تجري بشكل دوري”.

إنّه تفسيرٌ ورديٌ ومثاليٌ ونظريٌ، يختلف عن التجربة نفسها، إذ أنّ التعريف الفعلي لمفهوم الديموقراطية والذي يؤمن به المُسيطرون فعلياً على الحياة السياسيّة في أمريكا ليس مّا نجده في القاموس أعلاه. يفهم الحزبان الأمريكيان (الجمهوري والديموقراطي) الديموقراطية كـالآتي: “نظامُ حكمٍ تكون فيه السلطة العليا لأقليّة فاسدة؛ تُمارس التدجيل والتضليل والتخويف بشكل مباشر أو غير مباشر لإجبار الشعب على التصويت لمن تفرضه عليهم هذه النخب في انتخابات لا يستطيع خوض غمارها والنجاح فيها إلاّ من لديه المال”!.

نجد ذلك أيضاً في ممارسات أمريكا حول العالم، وكيف تتدخّل لفرض أزلامها الفاسدين كزعماء وتُسمّي ذلك بالديموقراطية، بينما عندما ينتخب شعبٌ ما حكّامه الذين لا ترضى عنهم أمريكا، في مناخ من الحرية، تصفهم بالديكتاتوريّين وتُسلّط عليهم العقوبات.. والحروب.

***

يُمكن أن نقول إنّ الديموقراطية، كأي نظام حكم آخر، يرتكز نجاحُها أو فشلها على وعي الشعب والتزامه بحمايتها. لكن كما في موضوع الدجاجة والبيضة (أيٌ منهما كان قبل الآخر)، فوعي الشعب يرتبط بوجود نظام سياسي يصون حريّته وحقوقه من دون ترهيب أو ترغيب أو أكاذيب.. أما زوال الأسس التي بُنيت عليها الديموقراطية (نظريّاً) في أمريكا (والغرب عامّة) فيعني أنّها انتهت كديموقراطية، ويجب أنّ نُسمّيها “ديكتاتوريّة صناديق الإقتراع”!

حتّى الإعلام، أصبح، في هذه الأيّام، أداةً بيد نخب فاسدة. كل شركات الصحف الكبرى، المكتوبة وغير المكتوبة، التقليديّة منها أو الحديثة (شبكات التواصل)، يملكها أصحاب المليارات الذين لهم أجندتهم السياسيّة وجُلّ همّهم “تسطيح” وعي الناس وسلبهم حريّتهم والقضاء على المفهوم النظري للديموقراطية. فبدل أن تكون الصحافة همّها إيصال صوت الناس ومساءلة المسيطرين على أعناق البشر، أصبح معظمها صوت أقليّة من المتموّلين والمسيطرين تنشد الربح، وكلّ مجموعة تُدير جمهورها كما تشاء.

من هنا، يصبح أيُّ رهان على “الناخب” الأمريكي هو مجرد سراب. لم يعد هناك من ناخب أمريكي فعلي. أكثريّة من يُمارسون واجب الانتخاب يُمكن مجازاً تشبيه ذهابهم إلى صناديق الإقتراع للتصويت بالماشية التي تهرول على حوافرها إلى حتفها. الشيء الوحيد الذي يفعله أفراد القطيع هو إخافتهم لكي يسيروا في الاتّجاه الوحيد الذي يُحدّده لهم الراعي ويضمن لهم المصير المحتوم.

وسرابٌ أيضاً أنّ نُراهن عمّا إذا كان دونالد ترامب أفضل من كامالا هاريس، أم هي أفضل منه. السؤال يتطلّب إضافة إجباريّة: أفضل لمن؟ أيمكن أن نقول أنّ أحدهما أفضل لأطفال فلسطين الذين تنهشم آلة الحقد الصهيوني بسلاح أمريكا وأموالها؟

ويمكن أن نُعمّم ذلك على الكثير من الدول والقارّات والشعوب التي تعاني من هيمنة وتسلّط أمريكا.

نعم، لمن الأفضليّة في ما إذا انْتُخب ترامب أم هاريس؟

وحتّى إذا سألنا من منهما أفضل لأمريكا داخليّاً؟ لا يمكن لجوابنا إلاّ أن يكون متحزّباً، وغير عقلانيّ، لأنّ سلوك هاريس في ما يخصّ سياسة أمريكا الداخليّة لا يقلّ بشاعةً عن سلوك ترامب عندما كان رئيساً.

ويمكن أن نذهب أبعد من ذلك، ونسأل من منهما أخطر على الديموقراطية في أمريكا؟ الجواب في الشكليّات وليس في المضمون. من جهة، هذا الشوك على مجرمي أمريكا أن يقتلعوه بأيديهم، خصوصاً أن معظم أبناء المعمورة “آكلينها” وسيأكلونها إن أتى ترامب رئيساً أم كانت الغلبة لهاريس. من جهة أخرى، يمكن أن نُشبّههما بالفرق بين الدواء الذي لا يُشفي لكنّه يزيل الأعراض الخارجيّة فنقتنع ضلالاً بأنّ الداء تمّت معالجته، بينما ينتشر المرض والمريض يحتضر، وبين الدواء الذي يقتل المريض “فيرتاح ويُريح”!

رُبّما من الأفضل أن نسأل من منهما أسوأ لأمريكا؟ نعم، في هكذا سؤال تهكّم شديد، لكنّه أنجع للعالم أن يأتي من هو أسوأ لأمريكا لأنّ ذلك يزيل عن وجه أمريكا ذلك القناع الذي تتخفّى وراءه، وربّما يُسرّع في تلاشي هيمنتها وغطرستها.

***

يُروى عن زعيم “ديكتاتوري” عربي أنّه اجتمع في ثمانينيات القرن المنصرم بسفير أمريكا في دولته وأثناء النقاش أصرّ الأخير على ضرورة وأهميّة الديموقراطية وأنّ على الزعيم أن يتبنّاها كنموذج للحكم في بلاده. فسأله الزعيم أن يعطيه مثلاً عن الديموقراطية. فقال له السفير: “مثلاً، عندما يقوم شخص أمريكي بانتقاد رئيس الولايات المتّحدة لا يحصل له شيء”، فأجابه الزعيم: “وهنا أيضاً، إذا قام شخص بانتقاد رئيس الولايات المتّحدة، لا يحصل له شيء”.

في الخلاصة، كانت أمريكا وما زالت بلاد تتخبّط بين التنظير الجميل والواقع المرير. شبعنا منها تنظيرها، وقرفنا من ظلمها. وليس بشماتة أن نرى إفلاس ديموقراطيتها الورقيّة.

*كاتب وأستاذ جامعي مقيم بالولايات المتحدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى