وعد بلفور… ووعد ترامب… وصخرة السنوار
بقلم: عبد الناصر سلامة*
على الرغم من وضوح موقف الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، المنحاز بشدة لنظام الاحتلال الإسرائيلي، إلا أن ما ذكره قبل عدة أيام، خلال أحد مؤتمراته الانتخابية، بشأن تفكيره في توسيع دولة إسرائيل، كان مفاجئاً، معللاً ذلك بأنه يرى أن المساحة الحالية للكيان صغيرة. وهنا تذكرتُ على الفور الوعد البريطاني المشؤوم، المعروف بوعد بلفور، الذي تعهد لليهود بإنشاء دولة في فلسطين، وكان ما كان مما نحن فيه اليوم، من إبادة وظلم وقهر وحروب وتخلف ورجعية وعنصرية، إلى غير ذلك من نتائج التدخل الأجنبي الاستعماري في تغيير جغرافية وديموغرافية وطبوغرافية الآخرين، دون اكتراث بالتاريخ والتراث والدين والنشأة والوطنية والكرامة البشرية.
وعد بلفور الذي صدر في عام 1917، لم يتحقق بين عشية وضحاها، ذلك أن إعلان إنشاء الدولة صدر عام 1948، أي بعد 31 عاماً، تفاعلت خلالها الأحداث الدرامية، من قتل وتهجير، وتواطؤ دولي، وهزيمة عربية، شابها الكثير من ممارسات الخيانة، التي مازالت تراوح مكانها حتى الآن، وهو ما كان يوجب التعامل مع وعد ترامب، باعتباره أمرا جديا، يرقي لدرجة الاهتمام، سياسياً وإعلامياً وشعبياً، إلا أن أي شيء من ذلك لم يحدث، وكأن التاريخ يعيد نفسه، من آرثر جيمس بلفور، وزير خارجية بريطانيا، حتى دونالد جون ترامب، مرشح الرئاسة الأمريكية، رغم فارق الـ107 سنوات.
عندما نبحث في التصورات التي يمكن أن يلجأ إليها عقل ترامب، أو عقيدة الصهيونية العالمية ككل، في كيفية توسيع رقعة الكيان، سوف نجد أنها لا يمكن أن تخرج عن ثلاثة سيناريوهات: ضم غزة وتهجير أهلها إلى مصر، ضم الضفة الغربية وتهجير أهلها إلى الأردن، ضم أراض أخرى من مصر أو الأردن، أو كل ذلك معاً، وهو ما يعني أن مصر والأردن في كل الأحوال أمام خطر واضح المعالم، تؤدي إليه كل المخططات الصهيونية، التي بات واضحاً، بدء تنفيذها على أرض الواقع، ومن خلال مجموعة من الشواهد، يمكن إيجازها في التالي:
أولاً: الإصرار على جعل قطاع غزة بيئة غير قابلة للحياة، بأي شكلٍ من الأشكال، وذلك بتدميرها كلياً، من بنية تحتية وسكنية وخدمية وبيئية، تحت وابل من القصف والإبادة على مدار الساعة، بما يجعل الفرار منها، أمراً حتمياً، حال فتح معبر رفح مع مصر عنوة، أو من خلال اتفاقيات يثق ترامب في قدرته على تحقيقها، حسب ما يلوح بذلك طوال الوقت.
ثانياً: إطلاق قطعان المستعمرين المسلحين على مواطني الضفة الغربية، تحت حماية قوات الاحتلال، وهدم منازلهم، وحرق مزارعهم، وتدمير ممتلكاتهم وسياراتهم، وقتل وجرح من تصدى منهم، بالتزامن مع مصادرة أراضيهم شيئاً فشيئاً، لإقامة مزيد من المستعمرات، هو مخطط واضح للقضاء على الوجود الفلسطيني، وإنهاء أي أمل في كيان مستقل مستقبلاً، في ما يعرف بالدولة الفلسطينية، وبالتالي لا مفر من تهجير المواطنين هناك إلى المملكة الأردنية.
ثالثاً: الضغط على مصر اقتصادياً، من خلال صندوق النقد الدولي، والعواصم الأوروبية والبنوك الدولية، إضافة إلى الضغط الحدودي، من خلال المشاكل مع كل من ليبيا والسودان، والضغط الأكبر من خلال إثيوبيا وقضية سد النهضة والأهمية الوجودية لمياه النيل، كل ذلك يعتبره المراقبون بمثابة أرضية تمهد الطريق لأي مساومات في المستقبل، ناهيك عن القضية الأزلية، المتعلقة بالحريات وحقوق الإنسان في مصر، وهي الفزاعة التي تلوح بها الولايات المتحدة والغرب، كلما استدعت الحاجة.
رابعاً: كل الشواهد تؤكد أن الأردن لن يكون عصياً على تنفيذ المخططات المشار إليها، في ضوء وجود القواعد العسكرية الأمريكية هناك، وفي ضوء الأوضاع الاقتصادية المتردية، واعتماده على المساعدات الأمريكية والغربية بالدرجة الأولي، وأيضاً في ضوء الحاجة إلى المياه من إسرائيل، من خلال اتفاقيات سنوية، وقبل كل ذلك الحماية الخارجية للأوضاع الداخلية المتوترة، والعائلية الهشة، والحدودية الشائكة، مع كل من سوريا والعراق.
على الرغم من ذلك، وفي ظل هذه الأخطار واضحة المعالم، لم تنتفض مصر رسمياً، ولا الأردن إعلامياً، ولا أي من الدولتين شعبياً، رداً على تصريحات ترامب، أو في مواجهة تنفيذ المخطط الإسرائيلي على أرض الواقع، وهو ما يشير إلى حالة استسلام مقيتة ومخجلة في الوقت نفسه، تشير إلى أن الحفاظ على الحكم أو كرسي السلطة، أهم بكثير من الحفاظ على الأوطان، دون إدراك حتمية خسارة هذه وتلك في نهاية المطاف، وإلا فإننا لا نقرأ تاريخاً، ولا نعير اهتماماً للجغرافيا، التي تمهد بعض بلدان المنطقة بالفعل لاستبعادهما من المناهج الدراسية!!
قد يكون يحيى السنوار، القائد السياسي والعسكري لحركة حماس، متصدرة المقاومة الفلسطينية، استهدف من طوفان الأقصى بالدرجة الأولى والأخيرة، تحرير فلسطين التاريخية من نير أحقر احتلال عرفه التاريخ، وبدا واضحاً للعالم أجمع، أن الطوفان قد حقق الكثير من المستهدف، إلا إنه قد عرج – عن قصد أو عن غير قصد- إلى غير المستهدف، الذي يمكن الإشارة إلى بعض منه في الآتي:
أولاً: درأ الطوفان عن الأمة العربية، وعن كل من مصر والأردن خصوصاً، أخطاراً لا حصر لها، بعد أن أوقف مخطط توسيع الكيان -على حد تعبير ترامب- وهو الأمر الذي بدا واضحاً أنه كان في طريقه للتنفيذ، من خلال ما أعلن عنه ترامب شخصياً من قبل، وهو في سدة الرئاسة، تحت عنوان (صفقة القرن) وهو الإعلان الذي لاقى ترحيباً عربيا واسعاً، من العواصم المعنية بشكل خاص.
ثانياً: أوقف الطوفان مخطط تهويد الأقصى، الذي مازال يجاهر به بعض وزراء حكومة الاحتلال، الذين يقومون بين الحين والآخر، بتزعم مجموعات من المتطرفين، لدخول المسجد والعبث به، تحت سمع وبصر الإدارة السياسية، وحماية الأجهزة الأمنية، في ما يشير إلى حالة التطرف والإرهاب التي تسيطر على الكيان ككل، في السنوات الأخيرة، حكومة وشعباً.
ثالثاً: وضع الطوفان كيان الاحتلال في حجمه الطبيعي، بعد أن كان يمثل من خلال الجيش، شرطي المنطقة، وقوة الردع المتحكمة في مصائرها، باعتباره وكيلا عن القوى الغربية بشكل عام، وهو ما أجبر بعض الأنظمة العربية على الهرولة إليه، إن بالانبطاح أو التطبيع أو هما معاً، وهو تطور في حد ذاته شديد الأهمية، من المنتظر أن يتسبب في إعادة ترتيب أوراق المنطقة ككل بعد انتهاء الحرب، التي مازال أمامها الكثير.
من هنا يجب أن نعي أن السنوار، هو الصخرة التي تحطمت عليها وعود بلفور وترامب والصهيونية في آن واحد.
وعلى الرغم من عقيدتنا الراسخة هذه، إلا أن ذلك التخاذل العربي تجاه تصريحات ترامب، وذلك الصمت المريب من الدولتين المعنيتين مباشرة بالتصريحات، يطرح العديد من الأسئلة والشكوك، بشأن ما إذا كانت المقدمات التي ساقها ترامب خلال سنوات رئاسته، في ما أطلق عليه (صفقة القرن) ما زالت تتفاعل داخل الأروقة السياسية السرية من عدمه، لأن هذا الإعلان الجديد يكشف عدم وجود أي نية للانسحاب من الأراضي المحتلة طواعية، أو إقامة أي كيان فلسطيني عن طريق التفاوض، ما دام الطرح يتجه علناً إلى المزيد من التوسع، وليس العكس، إلا أنه يجب الوضع في الاعتبار، أن المقاومة الفلسطينية أثبتت أنها كفيلة بالوقوف في وجه كل هذه الترهات، التي تذكرنا بالمقولة التاريخية، تعقيباً على وعد بلفور، أنه (وعد من لا يملك لمن لا يستحق).
وإذا كانت هذه المقولة، هي في الأصل إصدار عربي، في مواجهة ممارسات غربية دخيلة على المنطقة، فإنها الآن إصدار فلسطيني إلى العرب والغرب في آن واحد، ذلك أن فلسطين بحكم التاريخ والجغرافيا معاً، ملكية فلسطينية خالصة منذ الأزل، وبالتالي ما قبل الأنظمة والكيانات المتآمرة، وهو الأمر الذي يوجب على كل عواصم الصمت العربية إعادة النظر في ذلك الموقف المخزي، الذي لن تجني من ورائه سوى الذل والخذلان، وقد ذهب صاحب الوعد الأول إلى الجحيم، الذي ينتظر صاحب الوعد الثاني، وتبقى فلسطين حاضرة، على الدوام بنضال أبنائها، وإيمان كل الشرفاء في العالم.
*كاتب مصري