الترامبية المستأنفة.. ما الذى تغير؟
بقلم: عبد الله السناوي/ القاهرة
بصورة قياسية ارتفعت أسهم «دونالد ترامب» فى العودة إلى البيت الأبيض.
لم يبد استعدادا لمراجعة سياساته ومواقفه، التى أفضت إلى خسارته الانتخابات السابقة، لكنه يقترب من حصد الرئاسة مجددا.
وقبل ان يعلن تنحيه امس الاحد عن الترشح، كانت قد تقوضت فرص الرئيس الحالى «جو بايدن» فى تمديد رئاسته لدورة جديدة بثلاث ضربات متتالية.
كان أداؤه الباهت فى المناظرة الرئاسية ضربة أولى أثارت مخاوف واسعة داخل حزبه الديمقراطى فى مدى أهليته الإدراكية والجسدية لقيادة الولايات المتحدة.
وجاءت الضربة الثانية من المحكمة العليا الأمريكية، وأغلب قضاتها جمهوريون، حيث حصنت أفعال «ترامب» من الملاحقة القضائية «طالما جرت فى نطاق صلاحياته الرئاسية».
ثم جاءت عملية اغتياله الفاشلة لتحسم مستقبل «بايدن» وتجعل من انسحابه لصالح نائبته كمالا هاريس قرارا شبه محتم وإلا فإن الحزب سوف يلقى هزيمة مزدوجة فى الانتخابات الرئاسية والتشريعية معا.
صورة «ترامب»، وهو يلوح بقبضة يده اليمنى، إثر محاولة اغتياله أضفت عليه صفة الشجاعة فى مواجهة الخطر والتصميم على المضى فى التحدى أيا كانت الأخطار فيما بدا «بايدن» متعثرا فى صعود سلم طائرة.
تبدت مفارقتان فى مشهد محاولة الاغتيال، الأولى، أنه كاد أن يدفع حياته ثمنا لتحالفه مع «لوبى السلاح»، الذى يرفض وضع أى قيود صارمة على إتاحته فى الأسواق كأى بضاعة أخرى.. والثانية، أن المشتبه به «توماس ماثيو كروكس» شاب عشرينى جمهورى ويهودى يفترض أن يكون مؤيدا لـ«ترامب» دون أن تستبين أسبابه ودوافعه، فقد قتل فى المكان وأسدلت على الحقيقة ستائر الصمت المطبق.
بدت إصابته طفيفة، لكنها كانت كافية لتحدث تغييرا جوهريا على المسرح السياسى الأمريكى ويصبح شبه مؤكد أنه فى سبيله للعودة إلى البيت الأبيض إذا لم تحدث مفاجأة كبيرة فى الشهور المتبقية على الانتخابات الرئاسية.
لم يتغير «ترامب» ولا تعدل خطابه تجاه المهاجرين والأقليات، وفى الذاكرة التظاهرات والاحتجاجات، التى عمت الولايات المتحدة إثر مقتل الأمريكى الأسود «جورج فلويد» على يد شرطى أبيض أمريكى ونشوء حركة «حياة السود مهمة».
ولا تغيرت نظرته إلى الحريات الصحفية الإعلامية، وفى الذاكرة صداماته المتكررة مع شبكة الـ«سى. إن. إن» وصحيفتى الـ«واشنطن بوست» والـ«نيويورك تايمز».
كان مشهد اقتحام مبنى الكونجرس لمنع اعتماد نتيجة الانتخابات الرئاسية (2020) تهديدا للديمقراطية الأمريكية.
لا أعترف بخطيئة التحريض ولا أعتذر عنها ولا تعهد بقبول نتائج الانتخابات الرئاسية المقبلة إذا لم تأت لصالحه.
دواعى القلق ما زالت ماثلة فى التفاعلات الأمريكية، رغم اللهجات التصالحية التى أعقبت محاولة اغتياله الفاشلة.
لم يتغير «ترامب»، لكن العالم تغير.
الأزمات والتحديات اختلفت، طرأت حروب دامية فى أوكرانيا وغزة.
النظام الدولى الذى تركه مترنحا بأثر جائحة «كورونا» وسياساته الانعزالية يكاد أن يكون الآن أقرب إلى ركام يقطع طريق المستقبل.
أدت إدارته الكارثية للجائحة إلى تراجع فادح فى هيبة بلاده وقدرتها على قيادة العالم.
تبدت فجوات وفوارق داخل التحالف الغربى
لم تمد إدارة «ترامب» يد المساندة لدول أوروبية حليفة كإسبانيا وإيطاليا تضررتا بقسوة بالغة من ضربات الجائحة.
كان مستلفتا أن الصين وروسيا وكوبا ودول أخرى من العالم الثالث كمصر بادرت بإرسال طائرات محملة بالأدوية والمستلزمات الطبية فيما تقاعست الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبى الأخرى.
فى أجواء الجائحة طرحت الأسئلة الكبرى: ما معنى التحالف الغربى.. أو أن تكون الولايات المتحدة قائدته إذا ما أدارت ظهرها لمعاناة الشعوب الأوروبية؟
بقدر مماثل طرح سؤال مستقبل الاتحاد الأوروبى على السجال العام.
كان صعود «ترامب» بنزعته الشعبوية المعادية للمهاجرين والأجانب عام (2016) داعيا لتمدد الظاهرة نفسها فى أنحاء مختلفة من القارة الأوروبية.
«الترامبية المستأنفة» هذه المرة تلاحق موجة شعبوية اكتسحت انتخابات البرلمان الأوروبى، وكادت تهيمن على الجمعية الوطنية الفرنسية فى أكبر انقلاب على قيم الجمهورية.
فى سنوات حكمة لم يخف مناهضته للاتحاد الأوروبى وتشجيعه لخروج بريطانيا منه.
على رأس تحدياته الآن أسئلة مستقبل الاتحاد الأوروبى وحلف «الناتو».
حسب تعهداته الانتخابية فإنه مستعد لوضع حد للحرب الأوكرانية بأقرب وقت.
السؤال الجوهرى: ما الترتيبات اللاحقة؟
الأسئلة تقلق الأوروبيين دون إجابة، أو شبه إجابة.
لعل ذلك التوجه هو النقطة الإيجابية الواضحة فى خطط «ترامب» للمستقبل، لكنها تتوقف عند الشعارات العامة دون استيعاب حقيقى لحجم المتغيرات الأوروبية التى أعقبت خروجه من البيت الأبيض.
بريطانيا تبدو نادمة على خروجها من الاتحاد الأوروبى، لكنها غير متعجلة فى اتخاذ أية إجراءات، إنها مسألة وقت.
الاتحاد الأوروبى مصطف حاليا وراء خطة «بايدن» فى حرب أوكرانيا.
حلف «الناتو» يبدو متماسكا لكنه غير متيقن من مستقبله مع «الترامبية المستأنفة» التى ترفع شعار: «الدفع مقابل الأمن» وتريد أن تعممه فى الشرق الأوسط وتايوان.
رغم أن الحلفاء الغربيين يسددون حاليا نسبا عالية من تكاليف الحرب فى أوكرانيا، إلا أن ذلك الشعار ما يزال مقلقا.
ماذا بعد الحرب على أوكرانيا؟
ما مستقبل حلف «الناتو»؟ وهل الأجدى المضى قدما فى بناء منظومة دفاعية أوروبية بعيدا عن الولايات المتحدة؟
التساؤلات تدخل فى صميم بنية النظام الدولى والإجابات كلها معلقة.
رغم انحيازاته لإسرائيل فإنه لا يمكن تجاهل التغيرات الجوهرية على مسارح الصراع فى الشرق الأوسط إثر السابع من أكتوبر (2023).
لا يمكن القفز فوق حرب الإبادة وملاحقة جرائم الحرب أمام محكمتى «العدل الدولية» و«الجنائية الدولية».
كما لا يمكن القفز فوق تصويت الكنيست بأغلبية كبيرة على رفض قيام دولة فلسطينية بأحاديث تستعيد صفقة القرن، أو إعادة تلخيص القضية الفلسطينية فى مساعدات وإغاثات، بعدما أكدت نفسها بالدماء الغزيرة والبطون الخاوية.. أنها قضية تحرر وطنى أولا وأخيرا.
هذه معضلة يصعب على «الترامبية المستأنفة» تجاوزها.