أسئلة غسان كنفاني
بقلم: أيمن الصياد
في مثل هذه الأيام، يوليو/تموز 1972 وفي ضاحية الحازمية البيروتية الهادئة، استقلّ الأديب الفلسطيني الشاب غسان كنفاني (36 عامًا) سيارته الصغيرة (Austin 1100) مع ابنة شقيقته التي لم تكن قد بلغت السابعة عشرة. ما أن أدار محرّك السيارة حتى انفجرت به وبالفتاة الصغيرة. وكالعادة كان الموساد الإسرائيلي وراء واقعة الاغتيال.
ذهب غسان كنفاني قبل خمسين عامًا كاملة، لم يترك لنا لنقرأ الثمانية عشرة كتابًا ورواية فقط، بل ربما ترك لنا أيضًا في ما كتب، وفي قصة حياته القصيرة، واغتياله الوحشي، إجابات على كل أسئلة اللحظة الفلسطينية الآنية، سواء الحقيقية منها، أو تلك القائمة على مغالطات تتبنى السردية الإسرائيلية، وخطابها الإعلامي المزوِر.
هل بدأ الاستهداف الإسرائيلي للفلسطينيين في السابع من أكتوبر/تشرين الأول؟.. وهل ما قامت به “حماس” من فعل مقاوم هو الذي فتح باب الجحيم على الفلسطينيين؟.
بعض الإجابة التي لا تحتاج إلى تفصيل يكمن في قائمة الاغتيالات “الطويلة” التي اعتمدتها جولدا مائير في بداية سبعينيات القرن الماضي – قبل سنوات طويلة من ظهور “حماس” -، والتي ضمّت الأديب الفلسطيني الشاب.
أرجو أن يتذكّر هذه الحقيقة البسيطة الواضحة أولئك الذين يحاولون الترويج لأكذوبة أنّ الاستهداف الإسرائيلي للفلسطينيين وقضيتهم بدأ في أكتوبر/تشرين الأول، وأنّ ما ارتكبته “حماس” من فعل المقاومة هو السبب.
محاولين بيع الفزاعة الإسلامية للغرب، يحاول الإسرائيليون التسويق لسردية أنّ ما يجري في غزّة هو الحرب الواجبة للمتحضّرين على قوى الظلام الإسلامية “الداعشية”، وأنهم “مشكورون” يقومون بذلك نيابة عن العالم المتحضّر.. فهل الأمر كذلك حقًا؟.
دعك من كل المغالطات التي لا هدف حقيقيًا لها غير صرف الأنظار عن الحقيقة الثابتة: هناك أرض محتلة، وهناك شعب تحت الاحتلال يملك حقه، غير القابل للمساومة في تقرير مصيره ومقاومة المحتل. ففضلًا عن أنّ محاولة وضع تنظيمات المقاومة في مربع “داعش” لا يعدو أن يكون محاولة مفضوحة لوصم المقاومة إعلاميًا بالإرهاب، وفضلًا عن أنّ إسلامية المقاومة، مع افتراض أنها هكذا – حصريًا – لا يحتاج إلى دفاع، فلم يكن غسان كنفاني؛ الأديب والشاعر الذي اغتالته إسرائيل، في قلب العاصمة اللبنانية عضوًا في “حماس”، التي لم تكن قد ظهرت أصلًا، كما لم يكن منضويًا تحت أي جماعة إسلامية بل كان عضوًا في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين “اليسارية”، والتي أسّسها جورج حبش ووديع حداد المسيحيان.
هل القتل “العشوائي” سياسة إسرائيلية معتمدة؟
دعك من التقارير التي تتحدث عن تعليمات لجنود جيش “االدفاع” بقتل كل من يتحرّك أو يشتبه به، ودعك من الاعترافات اليومية على السوشيال ميديا التي يفاخر فيها جنود إسرائيليون بقتل الأطفال، أو بدفن الأحياء تحت أنقاض المنازل والمدارس والمستشفيات، فعقيدة القتل العشوائي المترسخة تلك قديمة ورسمية، وفي قصة اغتيال كنفاني بعض تفاصيلها.
في عام 2005، نشرت صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية تقريرًا يكشف كيف أضافت جولدا مائير “كنفاني” الأديب إلى قائمة الموت الإسرائيلية رغم أنه لم يحمل سلاحًا قط، وإنما لـ”إرهاب” فلسطينيي الشتات بخلق جو من الردع والخوف.
الاغتيال الإرهابي لكنفاني وابنة شقيقته الصغيرة، وكيف أنه؛ مثل كل السياسات الإسرائيلية الوحشية العمياء لن يوقف المقاومة، ولن ينهي القضية كان موضوعًا لكتاب مهم وإنساني نُشر في إسرائيل أيضًا قبل عامين فقط للكاتب Danny Rubinstein يقول فيه باختصار إنّ “سياسة الإلغاء للآخر لن تأتي بالسلام أبدا”.
لماذا استهدف الموساد الإسرائيلي، وبقرار من جولدا مائير، رئيسة وزراء إسرائيل وقتها، مثقفين وكتّابًا مثل غسان كنفاني، ووائل زعيتر – كلاهما اغتيل عام 1972، الأول في بيروت والثاني في روما-؟.
ليس فقط لإرهاب فلسطينيي الشتات، وإنما أيضًا لإسكات كل صوت وكسر كل قلم يفضح الوحشية الإسرائيلية، وهو ما رأيناه في مسلسل قتل صحفيي غزّة – 153 حتى الآن – وكما جرى مع الأكاديمي الرفيع، والشاعر الرقيق رفعت العرعير؛ أستاذ الأدب الإنجليزي والذي تحدث قبل اغتياله عن تهديدات وصلته عن طريق الهاتف ليتوقف عن الحديث بالإنجليزية مع وسائل الإعلام الأجنبية و”إلا”.
هل ثمة مفاجأة في ما نراه في الشارع الغربي من مظاهر التضامن الإنساني مع القضية الفلسطينية؟
الإنسانية لا وطن لها ولا تحمل جواز سفر. وكما نشاهد يوميًا في التظاهرات وفي أشكال التضامن المختلفة، كان في قصة زواج كنفاني بمدرسة الأطفال الدانماركية التي سمعت عن “القضية” في مؤتمر طلابي أوروبي فسافرت إلى دمشق وبيروت لـ”تعرف أكثر”، فتنتهي رحلتها إلى الاقتران بالأديب الفلسطيني.
لماذا كل هذا الهوان العربي الذي كشفته غزّة؟
ربما لا يجيب عن السؤال غير سؤال: هل القادة العرب؛ من مدّعي القومية وطنيون أو قوميون حقًا؟
في روايته “قتيل في الموصل”، التي كتبها عام 1959 ولم يمكنه نشرها إلا بعد سنوات، إجابة على هذا السؤال، فرغم انتمائه فكريًا إلى القوميين العرب لم ينخدع غسان كنفاني بالشعارات المزيّفة لهؤلاء الزعماء، رغم بريقها، مدركًا مأزق المواطن العربي المحاصر بين مطرقة المستعمر وسندان الطاغية.
وبعد،، ففي رسالة واضحة لا يخطئ دلالتها كل ذي بصيرة، ترك لنا كنفاني قبل أن يذهب قولته التي لا تقبل التأويل: “لا تمت قبل أن تكون ندًا.. لا تمت”.
طوبى “لأم سعد”، التي صوّرها غسان في روايته، ونراها كل يوم في مخيمات غزّة ندًا، وطوبى لكل أولئك المقاومين الذين، رغم المرجفين العرب عرفوا الإجابة الحقيقية على “أسئلة غسان” فوقفوا بصدورهم العارية وأسلحتهم البسيطة يواجهون آلة الموت الإسرائيلية الشيطانية المدرعة بلا تردد أو وجل أو خوف، بل بكل “ندية”.