خدعة الديكتاتور وصناعة الأزمة… مصر نموذجاً
بقلم: عبد الناصر سلامة*
أعذار تدعو للشفقة، تلك التي يعلق عليها الديكتاتوريون العرب فشلهم، تلك المتمثلة في المقولة الشائعة البائسة التي يروج لها الإعلام الرسمي: (حتى لا نصبح مثل ليبيا أو سوريا أو العراق أو اليمن أو لبنان)، بمعنى أن الشعوب عليها تحمل الفقر والظلم والسجون والفساد والانهيار الأخلاقي والمحسوبية وهيمنة العسكر على شؤون الحياة، إضافة إلى سوء المرافق والخدمات، وإلا أصبحنا طوائف متناحرة، قتلى هنا وتفجيرات هناك، تدخلات أجنبية هنا وقرارات أممية هناك، هجرات داخلية هنا وخارجية هناك، حتى نصل إلى التحذير الأخطر، وهو تقسيم الوطن إلى دويلات طائفية وعرقية، وغيرها.
يغيب عن مثل هذه الأنظمة أن الحالة التي وصلت إليها تلك الدول، كان السبب الرئيسي فيها، هو الديكتاتورية ولا شيء غيرها، كان حكم الفرد، الذي يجب أن يأمر فيُطاع، فكان ما كان من فشل وانهيار وتدخلات أجنبية وهجرات وتقسيمات، بمعنى أن الديكتاتورية هي الطريق المضمون للوصول إلى هذه الحالة، حكم الرجل الأوحد هو أقصر الطرق للجحيم، الجهل في الإدارة هو الطريق الأسرع للانهيار، المكابرة والعناد هما السبب المباشر لحالة الاحتقان في الشارع، التي تؤدي حتماً للانفجار.
في الحالة المصرية على سبيل المثال، بلغت الأوضاع مبلغاً درامياً بدعوة الناس -رسمياً- إلى تحمل الجوع والعطش والفقر، حتى لا نصبح مثل سوريا والعراق، دعوة الناس -رسمياً- إلى الهجرة، إلى بيع دمائهم، حتى لا نصبح مثل ليبيا أو اليمن، والآن أصبحت غزة نموذجاً، بعد أن استعان بها رئيس الدولة في حديثه كمثال للجوع، في سابقة مخجلة، ما كان يجب أن تكون. أيضاً دعوة الناس -رسمياً- إلى عدم الإنصات إلا للحاكم، للتقشف، عدم التذمر والاحتجاج، ذلك أن البديل هو الفوضى والخراب، حتى لو كان الاحتقان واضحاً في الشارع، بما ينذر بأن الأوضاع تقترب من كل هذه الدول في آن واحد، إذا لم يتم تداركها على وجه السرعة، وهو ما لا يبدو في الأفق من خلال مجموعة من المؤشرات يمكن رصدها في النقاط التالية:
أولاً: الإصرار الغريب على اعتماد سياسة الاستدانة والاقتراض طريقاً وحيداً لحل الأزمة، ففي الوقت الذي تتحدث فيه الأرقام عن ضرورة سداد نحو 40 مليار دولار العام الحالي 2024، للعواصم والصناديق والبنوك الدولية، من الديون المتراكمة، يخرج علينا وزير المالية بين الحين والآخر متحدثاً عن مفاوضات جارية للحصول على قروض جديدة من هذا البنك أو ذاك الصندوق!
ثانياً: في الوقت الذي تفرض فيه الولايات المتحدة الأمريكية عقوبات اقتصادية على الدولة المصرية، وتعلق جزءاً من المعونة السنوية بين الحين والآخر، في إطار عقوبات تتعلق بمطالبات مستمرة بتحسين ملف حقوق الإنسان، وفي الوقت الذي يهدد فيه البرلمان الأوروبي بعقوبات مماثلة، يلحظ المراقبون استمرار عمليات الاعتقال لمجرد الإدلاء بالرأي، واستمرار اعتقال عشرات الآلاف منذ عام 2013 حتى الآن، في إصرار واضح على استمرار انتهاج هذه السياسة أياً كانت النتائج.
ثالثاً: الانتخابات الرئاسية كانت فرصة لبدء مرحلة جديدة من الانفتاح السياسي الداخلي، وفتح صفحة جديدة مع المعارضين والقوى السياسية المختلفة، إلا أن التكريس للظلم والقهر والبطش بدا واضحاً في ممارسات النظام الرسمي، من خلال استمرار التهديد والوعيد، بما يشير إلى أن السنوات الست المقبلة، في حال ما إذا استمر ذلك النظام، ستكون أكثر سوءاً وقهراً.
رابعاً: التهديد الصادر عن رئيس الدولة أكثر من مرة، بنشر الجيش في أنحاء البلاد خلال ست ساعات، أو إنزال الجيش «يُـبيد»، أو نشر الترامادول بين الشباب للتخريب، وغير ذلك من التلويح بـ(ما بعدي الطوفان)، هو مؤشر خطير على أنه لا توجد أي نية للإصلاح أو التراجع أو المصالحة الوطنية أو إنهاء حالة الاستقطاب، أو أي شيء من هذا القبيل.
خامساً: لم يحمل النظام الرسمي على عاتقه في أي مرحلة، ولو حتى من خلال برنامج انتخابي، طمأنة الشعب على المستقبل، بكيفية سداد الديون الخارجية البالغ قدرها نحو 170 مليار دولار، أو الداخلية البالغ قدرها نحو 8 تريليونات من الجنيهات، أو كيفية النهوض بقيمة الجنيه الذي انهار في عام واحد بما يزيد على 100% من قيمته، أو كيفية مواجهة حالة الفقر والتضخم وغلاء أسعار السلع، وغير ذلك، كفيل بأن نقفز على مرحلة سوريا والعراق وليبيا بمراحل.
وإذا وضعنا في الاعتبار ذلك الذي يجري على الساحة من الاعتماد، رسمياً، على قوات خاصة، في شكل مكاتب حراسات وشركات أمن، يديرها زعماء بلطجة مشهود لهم بالجريمة، فإننا أمام تكرار واضح لحالة السودان مع ما تسمى «قوات الدعم السريع» أو الحالة الروسية مع قوات «فاغنر» الأمر الذي يزيد من سرعة الاتجاه نحو مواجهات حتمية مع الشارع، في دلالة قاطعة على أن النظام أصبح يعي أنه أمام حالة من الغليان، سوف تسفر عن انفجار واسع عاجلاً أو آجلاً، وبدلاً من أن يعمل على احتواء الموقف، يسعى إلى العكس بالاستعداد للمواجهة، أو ربما المبادرة بتفجيرها.
لا شك بأن حالة كل من الدول المذكورة، تثير الانزعاج والقلق والخوف لدى عامة الشعب، كلما تم التلويح بها على المستوى الرسمي، خصوصاً مع الترويج لنظرية المؤامرة طوال الوقت، والاستهداف الداخلي والخارجي، وافتعال حريق هنا وأزمة هناك، رغم التأثير السلبي لهذه الممارسات على الأداء الاقتصادي بشكل عام، والسياحة وسوق الأوراق المالية بشكل خاص، وهي الحالة التي ما تلبث أن تهدأ بعض الوقت، إلا وتعود للاشتعال مرة أخرى، مع صعود وهبوط درجة حرارة الشارع، ثم تصل إلى قمتها من خلال أحاديث رئيس الدولة شخصياً، الذي حذر في أحيان كثيرة من حالة الدول ذات الصلة، في إطار التهديد والوعيد، المقرون بأغلظ الأيمان. يجب أن نعي أن الوضع في مصر مختلف كلياً عن تلك الحالات المشار إليها، لا يوجد في مصر صراع عرقي من أي نوع، لا توجد أزمة أقليات، لا توجد أزمة طوائف، لا توجد أزمة مذاهب، الأهم أن الشعب يرفض مثل هذه المزايدات، يستنكرها فيما يتعلق بالصراعات الخارجية، ما بالنا بالداخل، مازال المواطن في مصر يحمل بعض التقدير للمؤسسة العسكرية، رغم محاولة تعكير صفو هذا التقدير خلال السنوات الأخيرة، ويحمل تقديراً أكبر للمؤسسات الدينية، رغم محاولة العبث بها أيضاً، وهو ما يؤكد أن الشعب هو كلمة السر في حالة الأمن المستقرة إلى حد كبير في بر مصر، وقد شهد العالم ذلك بوضوح، حتى خلال أحداث يناير 2011، من خلال علاقة المواطن بعناصر الشرطة والجيش إلا ما ندر، في حالات استثنائية، لأسباب شخصية. ربما كانت الحالة المصرية هي الأغرب والأكثر جدلاً بين الحالات العربية، أو بين الديكتاتوريات بشكل عام، ذلك أن الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، على قناعة، كما قال في أكثر من مناسبة، بأنه قادم من عند الله، أو أنه جاء بمشيئة الله، ومن ثم فإن العناية الإلهية هي التي يجب أن تطيح به، وليس الشارع أو صناديق الانتخابات، ومن هنا فهو دائم الترديد، سواء في منتدياته الخاصة أو في الخطب الرسمية، للآية الكريمة (قُلْ اللهُم مَالِكَ المُلْكِ تُؤتِي المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وتَنْزِعُ المُلْكَ مِمّن تَشَاءُ وتُعِزُ مَنْ تَشاءُ وتُذِلُ مَنْ تَشَاء) سورة آل عمران. ورغم إيماننا الراسخ بالقرآن الكريم، إلا أن مثل هذا التفسير، وهذه الثقافة فيما يتعلق بالتعامل مع النص القرآني، تمنح الحاكم حقاً أزلياً في الاستمرار في الحكم حتى مفارقة الحياة، إما بالموت الطبيعي أو غيره، دون النظر إلى أي نصوص دستورية أو قانونية، لذا يصبح من حقه القتال على كرسي الحكم حتى آخر رمق!
لا أعتقد أن هناك أسباباً أكثر أو أهم من ذلك، فيما يتعلق بالتمهيد للوصول إلى حالة سوريا والعراق وغيرهما من حالات الدمار الشامل سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وهو ما يعيه الشارع المصري جيداً، ويسعى إلى تجنبه، وإلا لما كان كل هذا الصبر على الظلم والقهر، أو حتى الانقطاع الكارثي للكهرباء، في وجود قناعة بأن المقبل أسوأ وأكثر بطشاً إذا ما استمرت الأوضاع بهذه الوتيرة، وهو الأمر الذي كان يوجب على القيادة السياسية، إعادة النظر في السياسات القائمة، بما ينزع فتيل الأزمة على المستوى الداخلي، وبما يعيد العلاقات مع العالم الخارجي إلى مسارها الصحيح، الذي تستعيد مصر من خلاله زمام القيادة الإقليمية التاريخية، وليس التبعية المخجلة لكيانات ناشئة.
*كاتب مصري شجاع