طواحين العواء ومثقفو التهويد.. الجدل المصري يتفوق على الجدل البيزنطي
بقلم: نارام سرجون

سأترك المعارك .. وأغادر ساحات الوغى .. وأمر قرب الجثامين المسجاة بالأكفان المدماة .. واثب بين النيران .. لا لأفرّ من الواجب .. ولأذهب الى استراحة للمحارب .. بل لأطلق النار في الخطوط الخلفية على التفاهة والغوغاء النخبوية .. لأن قتل الشيطان أهم من قتل النيران .. وقتل الأشقياء أحيانا أهم من قتل الاعداء ..
أنا ربما لا تهمني دناءة برامج ترفيه العامة والهاء الدهماء قرب مهرجانات الدم رغم قسوة المعركة وعنف الموت الذي يجتاحنا .. وقد أغفر للتافهين أن يهرولوا الى التفاهة والترفيه .. فهذا أقصى ما يقدرون عليه .. ولكنني لا أقدر أن اغفر للمثقفين أن ينشغلوا بالتفاهات والثرثرات وبناء الترفيه الفكري والجدل البيزنطي في قلب معركة بين الموت والحياة .. لأن العامة تلهو وتترفّه عندما تشتغل الخاصة والنخبة بالجدل التافه والقضايا التي لا تفهمها العامة .. ان تفاهات نخب هذا الشرق لم يعد لها نظير في التاريخ ولا في المخيال البشري .. لأن المثقفين عندما ينشرون الجدل البيزنطي فيما الموت يحيط بهم انما يجعلون الحياة تافهة والموت تافها .. وهم يدفعون العامة الى التفاهة .. والى اللامبالاة وتبلد المشاعر .. والحقيقة هي أنهم المسؤولون الرئيسيون عن الجهل والتطرف بكل أنواعه والديني منه خاصة ..
تخيلوا ان في هذا العالم اليوم ما قد تفوق على النقاش البيزنطي .. بل صار النقاش البيزنطي ثريا بالقياس الى تفاهة الجدل الذي تدور رحاه الان في القاهرة بين من يريدون ان يقولوا لنا انهم قادة الرأي والمفكرون .. واسمحوا لي أن أخذكم بيدي الى احد أكبر مستشفيات الامراض العقلية التي تدار الان في مصر .. مصر التي كانت تدير نقاش التحرر وعدم الانحياز بين الكتل العالمية صارت منشغلة بحركة عدم انحياز بين الدين والعقل .. ومصر التي كانت تخترع عجلات للكلام وعجلات للفلسفة الثورية .. تقام فيها أكبر مهرجانات للجدل البيزنطي والتفاهة الثقافية .. في زمن تتفكك حولها الدول وتتساقط أسوارها الامنية في ليبيا والسودان وسيناء .. وفي وقت تقوم بجانب عتبة بيتها أكبر مجزرة بالبث المباشر عبر التاريخ .. فيما نخبتها مشغولة بحديث (التكوين) .. وما أدراك ما التكوين .. انه منتدى عظيم اجتمع فيه الفرسان لا لنصرة أهل غزة .. ولا لتوبيخ المتوحشين .. بل لاقامة جدل حول الدين والمنطق .. وانبرى ابراهيم عيسى واسلام البحيري وغيرهم – بحجة الحاجة للتنوير ومقارعة التطرف والجهل – للتصدي ومبارزة علماء الازهر الذين نزلوا الى الساحة ولبسوا الدروع وكبروا وأثنوا على الله واندفعوا للجهاد في سبيل الله والتراث العزيز .. وحمي وطيس المعركة .. ولا ينتهي القتال الا ويعود كل فارس بلون أرجواني من كثرة ما قتل من خصومه على الفيسبوك والمواقع المعادية على الانترنت ..
اذا .. اياك ان تتصور ان الحرب في غز.ة هي الوحيدة الان .. بل هناك حرب ضروس طاحنة الان على الضفة الاخرى من غز.ة .. تدور رحاها بين مجموعة من الذين يدعون انهم يقودون الوعي ولهم رغبة في اعادة تكوين عقولنا وبين مجموعات دينية وأزهرية .. ولكن الغاية من تلك الحرب الطاحنة والسجال والديالكتيك التافه هو اشغال الناس عن أهم شيء .. وهو الصراع مع الغرب ومع الصهيو.نية وخاصة لفت أنظار العامة بعيدا عن مذبحة ومحرقة غز.ة .. لأن محرقة غز.ة فضحت الطرفين .. فضحت الذين يمثلون التنوير والذين يمثلون الازهر والجماعات الدينية .. فهم مختلفون في كل شيء الا على غز.ة فقد اتفق الطرفان على الصمت المطبق وتجاهل غز.ة وكأنها فيلم عبثي من أفلام الرعب التي تحاول جذب الفضوليين الى شباك التذاكر .. واتفق الطرفان على ترك المذ.بحة وعدم الاكتراث بها لان هناك ما هو أهم من الصهيو.نية .. وهو تنقية التراث من شوائبه بحجة انها هي التي تسببت بكوارثنا .. رغم ان هذه الكوارث لم تكن بسبب الدين والتراث الذي كان بيننا منذ ألف عام ونيف .. بل لأن النخب المتنورة باعت نفسها بالمال لمن يدفع أكثر وانشغلت بترفها الفكري وتخلت عن رسالتها .. وبعضهم تحالف مع الدين وبعضهم تصالح معه وبعضهم أخذ الجوائز .. مقابل ان يصمت ويترك للمتدينين ان يعيثوا في البلاد فسادا .. والدليل على ذلك أنه في الحرب السورية تحديدا تحالف من كانوا يسمون أنفسهم التنويريين مع الظلاميين .. فدافع صادق جلال العظم – صاحب كتاب (نقد العقل الديني) باستماته عن المتدينيين واعتبرهم قرة عينه وايقونته الثورية رغم فظائعهم .. وغطاهم برهان غليون صاحب كتاب (اغتيال العقل) بالمجلس الوطني السوري رغم علمه ان العرعور هو من يدير المعركة .. وأن الجهل النفطي هو من يقرر مبادئ الحرية … ولذلك فانه عندما غابت الحركة العلمية والحركة القومية ومات اليسار .. وانسحب المثقفون .. كانت الساحة متروكة لاعلام النفط وشيوخ النفط ولم يحاول اي مثقف تنويري من أدعياء التنوير التصدي لهم .. حتى فعلوا فعلهم ..
ولكن هل هذه الطريقة في مقارعة الجهل والتطرف هي في توقيت مناسب؟ وهل يكافح التطرف والجهل بنشر الجهل والجدال على الملأ ودعوة الناس لحضور كوؤيدا اسبانية ومصاعرة ثيران أم بنشر العدو الطبيعي له بطريقة ذكية عبر نشر التعليم المنطقي في المدارس والتلفزيون والتحريض على التفكير في تدريس الفكر الفلسفي؟ ووجود برنامج متكامل بين كل مؤسسات المجتمع ووزارات الثقافة والاعلام والتعليم وكل النشاطات الفكرية لجذب الناس بعيدا عن التيار السلفي .. ولكن المدعين للثقافة والتنوير تصرفوا بغباء مدروس .. وهو الترويج للجهل عبر احضار الجهل لمحاكمته في الساحات العامة .. فنشروه أكثر وسوقوه أكثر .. لأن منصتهم كان مثل حاملة طائرات تحط عليها طائرات الجهل .. فالتيار الاسلامي المتطرف لن ينكسر بهذه المنتديات ومشاريع الابراج العاجية بل سينكسر بنشر الشعر والثقافة والسينما والمسرح والكتب والأفكار العلمية وتدريس الفلسفة في المدارس والبحث عن الافكار الخلاقة .. وعندها ستندثر الكتب التراثية – التي تتهم انها تبذر التطرف – مثل منطق تطور الاحياء .. وكي نعرف مدى فشلنا ما علينا الا ان ننظر الى معارض الكتب في السنوات الماضية لنجد ان الاسلاميين ينشرون مؤلفاتهم التي عمرها مئات السنين ويجددون طباعتها .. وتغص بها المعارض .. فيما لايوجد منتج فكري مناوئ يستحق ان ينظر اليه ..
هذه معركة دونكيشوتية .. فبحجة التنوير يجري اعماء العامة بغبار المعارك الدونكيشوتية .. لأن الغاية من هذه الحرب الثقافية العلنية التي لاتقل تفاهتها عن داحس والغبراء معروفة .. وليس غرضها الا شيء واحد وهو نشر الجهل والتطرف .. فاخراج التراث علنا الى الشوارع والمقاهي هو نشر للتراث بكل مافيه من غث وسمين .. وذريعة اننا نقود معركة تنويرية هي خدعة لأن هذا النوع من النقاشات بين العامة والدهماء لن ينشر النور ولا الوعي بل سيزيد تشقق الوعي وانشطار النفس ..
الغريب ان كل النقاشات ذات الطابع التنويري يجب ان تخاض ولكن ليس علنا وليس على شاشات التلفزيون وحتما ليس على السوشيال ميديا في بلاد يسيطر عليها الجهلاء ولاتزال خصبة لنمو التطرف .. لأن من يشاهد هذه المناكفات والمناطحات ويسمع صوت ارتطام جماجم الثيران بجماجم الثيران .. واحتكاك قرون الخرفان بقرون الخرفان لن يفهم شيئا وخاصة من جمهور العامة والدهماء .. التي ستنقل الصراع وتترجمه الى عنف احيانا او تناقضات اجتماعية وتنافرات وتخندقات وتحزبات ..
يعني هل هذه النقاشات ستنقّي التراث من عيوبه وتناقضاته ولوثاته؟؟ انه يشبه حفلات الحوار الاسلامي المسيحي بين الشيوخ والبطاركة .. حيث التعايش الاسلامي المسيحي موجود قبلهم ويترجمه انسجام سكان الاحياء المختلطة في الشرق الذين ليسوا بحاجة لهذه المؤتمرات .. ولمن لا يعرف فليقرأ كتابات الاب الياس زحلاوي .. وليسمع محمد حسين فضل الله والشيخ أحمد بدر الدين حسون والسيد حسن نصرالله .. ومع هذه يصر هؤلاء على هذه المؤتمرات الصاخبة .. فهل أوصلنا الحوار المسيحي الاسلامي الى اي شيء؟ وهل أوصلنا تقريب المذاهب الى شيء؟؟ والغريب ان العنف الديني ظهر بعد هذه المؤتمرات والنشاطات .. انها مضيعة للوقت مثل محاولة الوصول الى اي اتفاق بين العلمانية والدين والعقل والدين وكأن الكتب المقدسة متصالحة مع الداروينية؟؟
هذا النوع من النقاشات السفسطائية العلنية بين التنوير والتكفير هو من عيار برنامج الاتجاه المعاكس لصاحبه فيصل القاسم (صاحب حلبة الديوك) .. حيث ليست الغاية تعليم الناس ولا تثقيفهم ولا تنويرهم بل تسليتهم بلحوم بعضهم .. وتسليح التطرف بالمزيد من التطرف .. وتنفير المتنافرين من بعضهم ويزداد كل طرف تشبثا برأيه .. ومن هنا ينشأ التطرف بين المعسكرين ..
أصحاب (التكوين) طلاب شهرة وثرثرة .. وهم في الحقيقة محرجون مما يحدث في غز.ة لأن الاوامر التي تلقوها تقضي بالصمت او التحريض على أهل غز.ة .. كما يفعل ابراهيم عيسى الذي شن هجوما على حما.س كي تكون أكثر حرصا على حياة الناس وان تبني لهم ملاجئ قبل ان تضعهم في هذه المحرقة .. وكأنه نسي ماذا تفعل اميريكا بالملاجئ واللاجئين والآمنين .. ونسي مجزرة ملجأ العامرية العراقي وطريق الموت العراقي في الكويت وهي ذكريات لاتزال تقبح وجه التاريخ البشري .. وهو – ابراهيم عيسى – من رواد (واحنا مالنا) .. نسخة كامب ديفيد .. فالدم وصل الى نوافذ غرفته وغطى الملايات والشراشف ووصل الى شقالات بنطلونه وهو يقول لا ناقة لنا ولا جمل في هذه الحرب في غزة .. وهي مغامرة حماس الاخوانية ..
ويكفي ان نعرف ان أحد مؤسسي المنتدى هو يوسف زيدان .. الكاتب المسبق الصنع مندوب اسرا.ئيل بين الكتاب العرب وسفيرها في الثقافة العربية .. الذي يتم التسويق له لأنه ضد العروبة وهو من المطبعين الاخيار لأنه مروج للسلام مع الاسر.ائيليين .. ويهاجم التاريخ بانتقائية ليناسب اسر.ائيل فقط .. والذي لم ينبس ببنت شفة خلال هذه “المحغقة” (المحرقة) .. لم يتذكر ابو عزازيل ان يقول كلمة من أجل حشد الرأي لمنع القتل الاسرائيلي وايقاف (المحغقة) .. ولم (يفكغ المفكغ) يوسف زيدان في كلمة واحدة تعنف (الاسغائيليين) بل (تغكهم) وشأنهم .. و(انصغف) الى (مقاغعة الأزهغيين) وقتل صلاح الدين والمسجد الاقصى ليمهد لهدمه .. وهو يتابع مهمة التجهيل ونشر الجهل بانشاء كتائب التفاهة والجدل المصري الذي يستحق بجدارة أن يحل محل الجدل البيزنطي من حيث أنه لايقدم أي قيمة .. بل يضيع الوقت والجهد والاعصاب .. ويشتت انتباه الأمة عن الخطر المميت .. فما فعلته اميريكا بيد اسرائيل في غز.ة هو ما فعلته في العراق وهو ما فعلته في ليبيا .. وهو ما ستفعله في مصر ان عاجلا أو آجلا .. ولن يحمي المصريين اي سلام ولا كامب ديفيد لأن الاميريكي عندما ينتهي من المنطقة فانه سيتفرغ لانهاء مصر ككيان ودولة ومجتمع .. فيما لايريد أصحاب التكوين أن يرى الناس ذلك .. بل ان ينقوا عدس التراث وقمح السيرة من الشوائب والحصى .. ولن ينبهوا الناس الى أميريكا واسر.ائيل .. بل الى الجدل مع الأزهر .. فيما الأزهريون مستمتون بهذه المعركة بين الطواحين .. حيث طواحينهم تطحن الهواء في التكوين ..
وان كان لي من عتب فانه على الكاتب والمفكر السوري فراس السواح الذي استدرج الى هذه المجموعة العابثة بدم فلـ ـسطين والتي لا تليق به .. وتستعمله مثل ديكور في نشاطها المشبوه .. وتورطه في تغطية الدم الفلــ سطيني الذي صار يسيل على جدران العقل والضمير والروح .. ويبدو أن صاحب مغامرة العقل الاولى لم يقدر عقله أن يغامر ليقول لهؤلاء العابثين بدم الناس أنهم شركاء في القتل ..
ما أريد ان أقوله هو أن هؤلاء هم المثقفون القتلة .. هم لا ينشرون الضوء .. بل ينشؤون الظلام .. لأن أهم أرجان الطلام هو أن تظلم وروحك وتظلم عينك وأذنك وقلبك وضميرك .. فلا ترى الموت الذي يحيط بط .. ولا تسمع صراخ الاطفال وأناتهم وهم يموتون .. ولا تقدر ان تهتز روحك وأنت ترى الأطفال وقد صاروا يسيرون في الطرقات بلا أم ولا أب ولا اسرة ..
تبا لهذا النور وتبا لهؤلاء المتنورين .. الذين صمتوا عن القتل الذي بجوارهم .. هم اليوم يريدون أن يقتل نتنياهو الأطفال بصمت فيما أصوات طواحين العواء تجرش أصوات المثقفين والأزهريين والاسلاميين فلا نسمع صوت الدبابات ولا أزيز الطائرات .. ولا نسمع صوت تهدم المباني وتهدم القيم الانسانية ونشهد قيام التوحش على عتبات بيوتنا ..
تبا لهذه المهزلة .. وتبا لهذا الجدل المصري وهذه المحرقة الفكرية التي تكمل المحرقة في غزة .. ويريد هؤلاء ان يحرقوا فيها ضمائرنا وانسانيتنا .. وأرواحنا .. وان نرمي عقولنا في تلك النار ..
ولكن لن نرمي عقولنا في النار .. بل سنضيء عقولنا من ضمائرنا .. ومن انسانيتنا .. فلا معنى للثقافة عندما لا تقدر ان تنتصر للانسان .. ولدم الانسان .. والعدالة .. والخير ..
تبت أيديكم .. كما تبت يدا ابي لهب ..
وبدأت حرب داحس والغبراء … وطواحين العواء والهواء