سفينة المقاومة أو طوفان الأقصى

بقلم: عبد الكريم بن حميدة*

 

أنا الأرض… يا أيّها الذاهبون إلى حبّة القمح في مهدها.. احرثوا جسدي!
أيّها الذاهبون إلى صخرة القدس مرّوا على جسدي ..
أيّها العابرون على جسدي.. لن تمرّوا..
أنا الأرضُ في جسدٍ.. لن تمرّوا..
أنا الأرض في صحوها..
لن تمرّوا..
هي الأرض تفيض بعطرها على أبنائها الذين ما بخلوا عليها بحبّة عرق.. وهو الجسد ينثر رماده على أرض فلسطين.. كلّ فلسطين.. هو الفلسطينيّ وقد نهض من غبار التاريخ ماردا جبّارا مجسّدا أنبل ظاهرة عرفها العصر الحديث. وها هو ينزع أغلال الحصار السياسي والعسكري ويحطّم قيود التآمر العربيّ وخيانة العاربة والمستعربة.
ظنّ كثيرون أنّ قطار التطبيع داس بعجلاته سنابل القمح وأنّنا دخلنا جميعا “العصر الإسرائيليّ” حتّى دهمهم الطوفان مردّدا:
عـبـثاً تحاول …. لا فنـــاء لثائر.. أنــــا كالقيامـــه ذات يـــــوم آت
حاصر الصهاينة قطاع غزّة منذ سنة 2006، ثمّ شدّدوا الحصار بعد سنة واحدة حتّى منعوا دخول الخلّ ولحوم الدواجن، وحوصرت المقاومة الفلسطينيّة من الشقيق ومن الصديق.. من البرّ والبحر والجوّ.. وفجأة اقتحمت المقاومة أحلامهم ونغّصت لياليهم وأذاقتهم الهزيمة وأذلّت كبرياءهم.. جاءتهم من البرّ والبحر والجوّ. وعندما أفاق العالم على معجزة غزّة كان الصهاينة يحصون قتلاهم. لكنّهم حتّى هذه اللحظة لم يستوعبوا حقيقة أنّهم يناطحون الصخر، ولم يدركوا أنّ كلّ الحمم التي تلقيها طائراتهم على بيوت غزّة ومساجدها ومستشفياتها ومدارسها لن تغيّر طبيعة الصراع ولا مآلاته.
شعب الجبّارين وحده يصنع المعجزات. لم تعد السماء ملكا للصهاينة.. ولم يعد بحر غزّة حكرا على زوارقهم، فالمقاومة ترسم معادلة جديدة بأسلحة جديدة وبإرادة غير قابلة للهزيمة. الصواريخ التي وُصفت فيما مضى بأنّها “بدائيّة” و”بلاستيكية” و”ورقيّة” و”عبثيّة” تدكّ مدن فلسطين المحتلّة ومستوطنات الصهاينة المغتصبين وتجبرهم على الاحتماء بالملاجئ، ثمّ ترغم الكثيرين منهم على توسّل تذكرة طيران من مطار بن غوريون حيث لا أمن ولا أمان. والطفل الفلسطينيّ الذي واجه الدبّابة الصهيونيّة بالحجارة أيّام الانتفاضة الأولى في ديسمبر 1987 كبر واشتدّ عوده.. وها هو يقود الطائرة الشراعيّة ويدمّر مراكز الاتّصال ويعطّل أبراج المراقبة، ثمّ يجتاز الجدار الفاصل المهيّأ بأجهزة استشعار ومراقبة عالية الدقّة وأسلحة أوتوماتيكية قادرة على رصد أية حركة. إنّه خطّ بارليف الثاني يتمّ تدميره بعد خمسين عاما من العبور الأوّل.
بعد كلّ ما حصل، نقول: لا وقت للدموع، ولا وقت للنواح. إمّا فلسطين.. وإمّا النار جيلا بعد جيل. هذه هي الحقيقة التاريخيّة الوحيدة التي يجب على العالم أن يسمعها ويستوعبها، فالمقاومة لا تفنى، والثوار لا يموتون.. إنّهم باقون:
كأننا عشرون مستحيل
في اللدّ، والرملة، والجليل
هنا .. على صدوركم، باقون كالجدار
وفي حلوقكم
كقطعة الزجاج، كالصبّار
وفي عيونكم
زوبعة من نار
ماذا تبقّى الآن؟ لا شيء. ستدفع غزّة ثمنا باهظا بلا أدنى شكّ، لكنّه قانون التراكم التاريخيّ هو الذي يحكم المعادلة. تراكم نوعيّ يعيد مسألة فلسطين إلى قلب قضايا العالم، ويحيل طوفان الأقصى إلى مادّة تدرَّس في الأكاديميّات العسكريّة.
إلى الحقوقيّين ومنظّماتهم في أقطار العرب: كفّوا عن البكاء على من تسمّونهم مدنيّين. ليس من بين الصهاينة مدنيّون، كلّهم عسكريّون ذكورا وإناثا، وكلّهم جنود مباشرون في الخدمة أو ضمن قوافل الاحتياط. وإذن فكلّ صهيوني في أرض فلسطين التاريخيّة هدف مشروع للمقاومة.
إلى العرب العرب وإلى شرفاء العالم وأحراره: تركتم العراق وحيدا فذبحوه.. ثمّ تركتم ليبيا وحدها فذبحوها. لا تتركوا غزة وحدها.. فإمّا سفينة المقاومة أو طوفان الأقصى.

*كاتب عربي من تونس
[email protected]

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى