تجمدت عيناى ومشاعرى عند قراءة نبأ الاعلان السعودى عن انتقال جزيرتى تيران وصنافير إلى السيطرة السعودية ومن ثم إلى الاسرائيلية ، بعد أن لاح الأمل فى إمكانية التراجع عن هذه الصفقة التى تجمدت بالفعل لفترة من الزمن .
تيران وصنافير قضية وطن ، وقضية شخصية بالنسبة لى . فقد تفتحت عيناى على العمل الوطنى بسبب هاتين الجزيرتين . فعندما حشد الرئيس جمال عبد الناصر فى 15 مايو 1967 القوات المصرية فى سيناء تضامنا مع سوريا التى أعلنت أنها مهددة بحشود اسرائيلية ، وبغض النظر عن تقييم هذا القرار وما تلاه من كارثة 5 يونيو ، فقد كان هذا اليوم بداية اقتحامى للعمل الوطنى وكنت فى الصف الثانى الثانوى . أدى هذا الاحتشاد للقوات المصرية إلى طلب مصر من الأمم المتحدة أن تسحب قواتها من سيناء ، وانسحبت قوات حفظ السلام فورا ، لأنها كانت موجودة بموافقة الحكومة المصرية . وهكذا أصبحت القوات المصرية وجها لوجه أمام مضيق تيران الذى تمر منه السفن الاسرائيلية أو المتجه لاسرائيل إلى ميناء إيلات، المنفذ البحرى للكيان على البحر الأحمر. وهذا أصاب القوات المصرية بحرج وعرضت الموضوع على عبد الناصر الذى أمر بإغلاق مضيق تيران أمام السفن الاسرائيلية أو المتجهة إلى اسرائيل .
وهنا استشاطت اسرائيل غضبا واعتبرت ذلك القرار إعلانا للحرب لأنه يمثل خنق لاسرائيل . وتمسك عبد النصر بقراره ، وحدثت مباحثات سرية عبر أمريكا وغيرها ، وكانت هناك اقتراحات بالتفرقة بين السفن التجارية والسفن الحربية وغير ذلك ، وصدر قرار بعدم ضرب أى سفينة مارة بدون الرجوع إلى عبد الناصر . ولكن التحالف الأمريكى الصهيونى وجد فى هذه فرصة لضرب مصر ، وكانت هناك خطط موضوعة منذ عام 1964 لتوجيه ضربة عسكرية لمصر التى تجاوزت الحدود فى المجالين الاقتصادى والعسكرى . وبغض النظر عن كل ذلك فقد دخل فى التاريخ أن جزيرتى تيران وصنافير هما الشرارة التى فجرت حرب 5 يونيو التى لانزال نحن والأمة العربية نعانى من عواقبها حتى الآن، وعلى رأس ذلك الاحتلال الكامل للقدس .
خلال الهجوم الاسرائيلى الكاسح على سيناء بدون مقاومة بسبب القرار الأخرق الذى صدر بالانسحاب من سيناء بعد ضرب المطارات ، كانت اسرائيل مهتمة بشكل خاص بتخصيص قوات لإحكام الحصار على شرم الشيخ ومضيق تيران أى الجزيرتين . وقد روى لنا ضابط حديث التخرج من الكلية الحربية وخدم فورا فى شرم الشيخ أن قواته تعرضت للضرب بالنابالم قبل أن تنسحب .
تيران وصنافير فى عدوان 1956
من الأمور التى لا يعلمها إلا قليل من المصريين أن مضيق تيران وصنافير كان مغلقا أمام اسرائيل من عام 1948 حتى 1956 . المعروف أن اسرائيل توسعت بعد وقف إطلاق النار فى حرب 1948 وتجاوزت حدود قرار التقسيم لعام 1947 فى مختلف الاتجاهات، خاصة فى اتجاه المنافذ البحرية على البحرين المتوسط والأحمر . فبعد وقف إطلاق النار تقدمت القوات الاسرائيلية واحتلت بلدة أم الرشراش على البحر الأحمر وهى بلدة مصرية وسمتها إيلات . ولكن الجيش المصرى ظل يغلق مضيق تيران من خلال الجزيرتين : تيران وصنافير وظلت اسرائيل حبيسة عن البحر الأحمر لمدة 8 سنوات ، وأذكر أن الأستاذ ابراهيم شكرى هو الذى شرح لى ذلك على الخريطة وأنا أيضا طالب بالثانوى وكنت أجرى معه حوارا صحفيا لمجلة ” المجد ” التى كنت أصدرها منزليا من نسخة واحدة ولكن قراءها كانوا بالعشرات . فهذه المعلومة لم تكن لتعرفها من الاعلام الرسمى .
ففى خضم الاحتفال بانتصار عام 1956 على العدوان الثلاثى تم إخفاء هذا التراجع الاستراتيجى أمام اسرائيل . رغم الانسحاب السريع والكامل للقوات المعتدية الانجليزية والفرنسية من القناة وانسحاب اسرائيل من سيناء تحت الضغط الأمريكى – السوفيتى ، إلا أن إدخال القوات الدولية إلى سيناء جعلها تقف فى شرم الشيخ وتطل على مضيق تيران ولا تتعرض للسفن الاسرائيلية، وصمتت مصر مقابل مكاسب الانسحاب من مصر . ولكن كان هذا تراجعا استراتيجيا فك الحصار عن اسرائيل من جهة البحر الأحمر وفتح المجال لأوسع العلاقات التجارية البحرية مع شرق افريقيا بل وكل افريقيا وآسيا . ثم سمح بعد ذلك للبحرية الاسرائيلية أن تعربد فى البحر الأحمر من وقتها وحتى الآن .
والآن كثيرا ما يرد الحديث عن إيلات كلما طرحت مشروعات بديلة لقناة السويس ، ولا قيمة لإيلات بدون تيران وصنافير وهى الآن تحت السيطرة الاسرائيلية التى يظنون أنها ستكون أبدية . فطرح مشروع قناة بين إيلات وأشدود على البحر المتوسط كمنافس لقناة السويس . وطرح مشروع إيلات أشدود أو إيلات حيفا بالسكة الحديد . والآن إيلات مطروحة كمحطة فى المشروع الفاشل الذى يسمى ممر الهند الشرق الأوسط أوروبا . وبغض النظر عن الفشل المتوقع لكل هذه المشروعات وهى جميعا فشلت ولم تنفذ إلا الممر الاقتصادى الهندى المزعوم الأخير الذى لم يبدأ بعد، فإنها تعكس التربص والتآمر على مصر من اسرائيل والامارات والسعودية والأردن مع أمريكا. ولكن يكفينا الآن الاشارة لأهمية إيلات ومعها جزيرتى تيران وصنافير لأنها بدون الجزيرتين تصبح مجرد مصيف للاستحمام بالبحر . وقد كانت إيلات هى حلقة الوصل مع الامارات فى مرحلة التطبيع غير المعلن كميناء للتصدير، حيث صدرت اسرائيل على سبيل المثال شحنات من الأبقار للامارات .
اليوم 14 سبتمبر 2023 لن نبكى على ضياع الجزيرتين، لأننا واثقون من عودتها قريبا بإذن الله .
أقول لمن يهمه الأمر، إن حدود مصر وغيرها من البلدان صنعتها الدماء ، والحدود التى صنعتها الدماء لا تزول ، وستعود كما كانت ولو بعد حين . إذا قرأت تاريخ المنطقة والعالم ستدرك جيدا أن حدود الدول صنعتها الدماء المسفوكة بالحق والباطل ، وبالنسبة لنا فقد أرقنا الدماء بالحق لرسم حدودنا، وإذا تجاوزت الاتفاقات والصفقات هذه الدماء الطاهرة فإنها ستعود لتصحيح الحدود من جديد . وهذا لا ينطبق على تيران وصنافير وحدهما ولكن على أم الرشراش أيضا . وسيختلط الدم المصرى والفلسطينى والعربى لتحرير كل فلسطين.
*باحث اسلامي وكاتب مصري