انقلاب النيجر.. مفارقات وصدامات!

بقلم: عبد الله السناوي/ القاهرة

إنه التنازع الدولى على القوة والنفوذ فى القارة الإفريقية.
لا يوجد سبب جوهرى آخر يستدعى كل هذه التعبئة السياسية والإعلامية والتوسع فى فرض العقوبات الاقتصادية المشددة والتلويح بتدخل عسكرى من دول الجوار إثر انقلاب فى النيجر.
لم تكن محض مصادفة توقيت أن تجرى وقائع الانقلاب على الرئيس المنتخب «محمد بازوم» بالتزامن مع القمة الروسية الإفريقية فى سان بطرسبورج.
ربما تكون أصوله العربية أحد أسباب الانقلاب عليه، حيث يمثل العرب أقلية هامشية فى ذلك البلد الإفريقى الصغير.
بدا الصدام علنيا ومباشرا بين فرنسا ممثلة للحضور الغربى فى معادلات القارة، وروسيا الطامحة لإعادة التمركز بعدما تقوضت أدوارها إثر انهيار الاتحاد السوفييتى.
على التوالى تلقت باريس ثلاث ضربات موجعة لنفوذها العسكرى والاقتصادى والثقافى فى غرب أفريقيا، مالى وبوركينا فاسو وأخيرا النيجر.
الضربات المتتالية طلبت فصم العلاقات مع الإمبراطورية الاستعمارية السابقة.
كان الحضور الروسى بارزا بصورة مباشرة وغير مباشرة.
نظمت تظاهرات مؤيدة لانقلاب النيجر أمام السفارة الفرنسية بالعاصمة نيامى أشعلت النيران فيها ورفعت العلم الروسى عليها.
تبدت ذريعتان رئيسيتان على مسرح الحوادث المتدافعة.
الأولى، تسوغ التصعيد إلى مستوى غير مسبوق فى أية أزمة إفريقية مماثلة بالدفاع عن الديمقراطية والشرعية وضرورة العودة بأسرع وقت ممكن إلى المسار الدستورى، وقد تبنتها القوى الغربية، الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى معا.
لأسباب مختلفة يتبنى الاتحاد الإفريقى الموقف نفسه.
عندما نشأت في ستينيات القرن الماضى منظمة الوحدة الإفريقية، التى تحولت لاحقا إلى الاتحاد الإفريقى، أقرت ضرورات عدم المس بالحدود الاستعمارية خشية الدخول فى احترابات قبلية وعرقية مدمرة بين دول القارة المستقلة حديثا.
ثم أقرت تاليا ضرورات عدم الاعتراف بالانقلابات العسكرية خشية إجهاض التجارب الديمقراطية الوليدة.
فى حالات كثيرة جرى انتحال العناوين الديمقراطية من أجل المصالح الاستراتيجية وحدها.
استخدمت روسيا خطابا مقاربا بالدعوة إلى عودة الديمقراطية واستئناف المسار الدستورى بعودة الرئيس، لكنها تحفظت على أى تدخل عسكرى.
كان ذلك دفاعا عن حلفائها المفترضين فى غرب إفريقيا.
الثانية، تسوغ الانقلاب بدواعى تغول الدور الفرنسى على مقدرات الحياة الداخلية، رغم حصول النيجر على استقلالها عام (1960).. مرة باسم مكافحة الإرهاب ومرة أخرى باسم الإرث الثقافى الفرنكفونى المشترك.
إنه اليورانيوم قبل أى حديث عن المبادئ الديمقراطية.
من المفارقات أن (70%) من الكهرباء التى تنتجها المفاعل النووية الفرنسية يستخدم فيها اليورانيوم المستخرج من النيجر فيما البلد نفسه يعتمد بنسبة مقاربة على ما يصله من نيجيريا لسد احتياجاته من الكهرباء!
بعد الانقلاب أوقف تصدير اليورانيوم لفرنسا.
كان ذلك داعيا لغضب فى باريس وصل إلى حد استخدام نفوذها لدى المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا المعروفة اختصارا بـ«إيكواس» لتمضى قدما فى سيناريو التدخل العسكرى بدعوى إعادة الشرعية إلى النيجر.
بمعنى أكثر دقة: استعادة النفوذ الفرنسى العسكرى والاقتصادى والثقافى.
كان اجتماع رؤساء أركان دول «إيكواس» فى نيجيريا للنظر فى خطط التدخل العسكرى إشارة إلى أن غرب إفريقيا كله، لا النيجر وحده، يوشك أن يشتعل بالنار.
أحد دواعيها للتدخل العسكرى خشية أن يتكرر السيناريو الانقلابى فى دولهم نظاما بعد آخر، فيما يشبه «أحجار الدومينو» المتساقطة!
كأى ألعاب خطرة تتبدى الآن على سطح الحوادث المتدافعة احتمالات انزلاق غرب إفريقيا إلى المجهول.
أعلنت بوركينا فاسو ومالى، مدعومين من غينيا، أن أى تدخل عسكرى فى النيجر بمثابة إعلان حرب ضدهم.
موضوعيا: لأنهم فى وضع مماثل.
فى حال اشتعلت النيران سوف تجد جماعات العنف والإرهاب المتمركزة على الحدود بين مالى والنيجر فرصتها لتتمدد وتقوِّض أى استقرار ممكن.
الأخطر أن حربا إفريقية داخلية سوف تنشب فى غرب القارة، تستهلك تطلعاتها للديمقراطية وحرية القرار الوطنى معا.
بتداعيات التصعيد المتبادل تحول «محمد بازوم» من رئيس محتجز إلى رئيس معزول، جرى قطع الاتصالات الهاتفية عنه، التى كان يتلقاها من الرئيس الفرنسى «إيمانويل ماكرون» ووزير الخارجية الأمريكى «انتونى بلينكن» لدعمه وتأييده.
هكذا استكمل الانقلاب إجراءاته ومقوماته.
لم تكن هناك دواع مقنعة ومتماسكة لإطاحة الرئيس، ولا كانت هناك شعبية للانقلاب، فقد خرجت باليوم التالى تظاهرات تندد به فى العاصمة، غير أن المزاج العام تغير بصورة ملموسة عقب التلويح بالتدخل العسكرى.
من غير المتوقع أن تتورط فرنسا بصورة مباشرة فى أى عمل عسكرى، لكنها حاضرة وشريكة رئيسية بالتحريض والتخطيط والتسليح إن لزم الأمر.
من المستبعد تماما أى أدوار مباشرة للولايات المتحدة، لكنها لا تخفى باسم الديمقراطية والحفاظ على المسار الدستورى دعمها الضمنى لسيناريو التدخل العسكرى.
تدخل البنتاجون برسائل دعم مباشرة فيما كان يفترض أن يترك الأمر كاملا للبيت الأبيض ووزارة الخارجية، كما جرت العادة فى الأزمات المماثلة.
بدا الأمر فى جانب رئيسى منه استضعافا للنيجر.
المعنى التقطه قائد الانقلاب «عبدالرحمن تيانى» واصفا العقوبات الاقتصادية التى فرضت على بلاده بأنها «غير عادلة وغير إنسانية.. وفيها استهتار بالجيش!».
هكذا استخدم العقوبات، التى تبارى فى فرضها الاتحاد الإفريقى والاتحاد الأوروبى والولايات المتحدة، فى اكتساب صفة الضحية، وتوحيد الجيش خلفه!
أبدت دول أوروبية عديدة خشيتها من الاندفاع إلى المجهول واحتذت روسيا موقفا متوازنا مقصودا حيث دعت إلى عودة الرئيس المنتخب وتحفظت على العمل العسكرى.
تحاول موسكو أن تكسب مواقع أقدام جديدة فى القارة بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة، وأدوار «مجموعة فاجنر» حاضرة فى المشاهد المحتقنة.
المصالح الاستراتيجية قبل المبادئ والقيم تحكم قواعد التنازع الدولى على قيادة العالم عند لحظة فارقة تحتدم فيها مواجهات السلاح فى الحرب الأوكرانية.
هذه حقيقة ما يحدث الآن من مفارقات وصدامات فى ذلك البلد الإفريقى الفقير وشبه المنسى.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى