في ذكرى ثورة 23 يونيو المجيدة.. ما لها أكثر بكثير مما عليها
بقلم: وسام رفيدي

يمكن بكل بساطة اعتبار ما كُتب عن ثورة 23 يوليو المجيدة وقائدها الكبير جمال عبد الناصر حالة فريدة، من حيث كم الدراسات والكتابات وحجم النقاشات والمؤتمرات والندوات ومختلف الفعاليات، والسبب بتقديري معروف: كانت الثورة بمثابة فتح تاريخي في مسار حركة التحرر العربية، والجبهة المعادية للاستعمار القديم والإمبريالية في المنطقة العربية والعالم ككل، والأهم كانت أولى التجارب العربية لبناء اقتصاد وطني مستقل، بعيداً عن التبعية للمركز الرأسمالي، لا بل وذو خيارات تفترق عن خيارات الرأسمالية المتوحشة، وإن لم يصل لمستوى الخيار الاشتراكي بمفهومه الماركسي، تجربة ألهمت العديد من التجارب للسير على نهجها: في الجزائر وسوريا والعراق واليمن.
ومنذ اندلاع الثورة بمراحلها المختلفة ابتداءً من الانقلاب العسكري، وصولاً لإجراءات تأميم قناة السويس عام 1956 وتحريرها من الهيمنة البريطانية، وإجراءات التأميم التي تبعتها عام 1962، لم يتوقف سيل الدراسات والكتابات ومختلف الفعاليات، بما فيها المسلسلات والأفلام التي تناقش وتتعرض للثورة وقائدها الكبير. وبعيداً عن موقف اليمين بشقيه، البرجوازي ممثلاً برأس المال المتضرر، وممثله الأبرز حزب الوفد وبقاياه، واليمين الديني الرجعي المتآمر على الثورة ممثلاً، بحركة الإخوان المسلمين، أقول بعيداً عن هذين الاتجاهين اليمينيين، كانت الدراسات والفعاليات إجمالاً تُعلي من شأن الثورة وقائدها دون ملامسة النقد التاريخي للتجربة إلا ما ندر.
لا يمكن بطبيعة الحال إغفال حجم العداء والمؤامرات والضغوط التي مورست على قيادة الثورة لضربها وتصفيتها، وبالحد الأدنى حرفها عن مسارها، وهنا كان للإمبرياليين البريطانيين وفرعهم السياسي الإخوان المسلمين الدور الأبرز (وصلت حد محاولة سيد قطب اغتيال عبد الناصر)، ومعهم الصهاينة والفرنسيين ولاحقاً الأمريكان، وذلك العداء لم يخلو من نزعة عنصرية مقيتة تبدو متأصلة في السياسة البريطانية، وتمثلت في إصرار إيدن وزير الخارجية البريطاني آنذاك على السعي دائما للتقليل من شأن عبد الناصر بوصفه (بالبوكباشي)، وبلهجة تنم عن فوقية ارستقراطية، أما السوفييت ومعهم المنظومة الاشتراكية، فكانوا الداعم الرئيس للثورة والنظام سواء في السياسة الخارجية أو في الإجراءات التقدمية الداخلية.
ومع ذلك نجحت الثورة بتقديري على جبهتين: الأولى قيادتها لحركة التحرر الوطني العربية في الخمسينيات والستينيات، وتجلى ذلك بقوة بدعم غير محدود للثورتين التحرريتين في الجزائر ضد المُستعمِر الفرنسي، وفي اليمن ضد نظام القرون الوسطى الممثل بنظام الإمام يحيى صنيعة البريطانيين والسعوديين، الأمر الذي لعب دوراً رئيساً بتحرير البلدين، وفي دعم الثورة لبدايات النضال الفلسطيني تدريباً وتسليحاً واحتضاناً.
أما الجبهة الثانية فهي سلسلة الإنجازات الهائلة التي تحققت للفئات الشعبية: عمال وفلاحين ومستخدمين وحرفيين، فمن توزيع الأراضي على الفلاحين، الإجراء الأكثر ثورية في الإصلاح الزراعي، إلى تأميم المصانع وتحويلها لمؤسسات قطاع عام ومشاركة العمال في قيادتها، رغم شكلية المشاركة، إلى التعليم المجاني الذي فتح المجال أمام الملايين من الفقراء للتعليم ولكل المراحل الدراسية، دون نسيان النهضة الثقافية والفنية والتي نصفها اليوم بأيام الزمن الجميل، ودعم وتعميم الثقافة ومن أبرز مظاهرها المراكز الثقافية في الأرياف والنجوع، وإصدار (كتاب الجيب) بسعر زهيد ليكون في متناول الفقراء.
كل ما سبق يظهر تلك المأثرة التاريخية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً التي سجلتها ثورة 23 يوليو بقيادة جمال عبد الناصر، ومع ذلك هناك ما يسجل نقدياً كدروس مستخلصة من التجربة ومن هزيمتها على أيدي القوى اليمينية والرجعية بشقيها الرأسمالي والديني.
إن افتراض بناء مجتمع مستقل اقتصادياً وسياسياً ويهدف لتحرير الفقراء من بؤسهم دون مشاركة سياسية حزبية واسعة من مؤيدو الثورة، دون مشاركة العمال والفلاحين عبر ممثليهم السياسيين والحزبيين في القرار، يعني ببساطة تحويل مؤسسة الثورة، الدولة وحزبها الرسمي الحاكم، لمؤسسة بيروقراطية ستنهش بالنهاية منجزات الثورة لتحويلها لمنجزات طبقية لها. وقضية تحول موظفي القطاع العام من مدنيين وعسكريين، المصنفين كبرجوازيين صغار، وعبر المكانة والامتيازات وما امتلكوه من رأسمال رمزي حسب تعبير بورديو، تحولهم لشريحة طبقية برجوازية كبيرة هيمنت وتغولت، خاصة في مؤسسات الامن، المتغولة عبر القمع والرقابة، والجيش والقطاع العام، ما يعنيه ذلك من غياب المشاركة الحقيقية في القرار والعداء للحزبية خارج إطار الحزب الرسمي، كل ذلك عنى مقتل للثورة ومنجزاتها. ليس المطلوب الانجرار خلف الديموقراطية الليبرالية كمدخل لإجهاض الثورة، ولكن يجب تأكيد الديموقراطية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الشعبية التي تعني تحديداً المشاركة في القرار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، عبر انتخابات حقيقية بمشاركة القوى الداعمة للثورة ومنجزاتها، لا قمعها بدموية كما جرى مع الحزب الشيوعي المصري مثلاً.
كل ذلك أضعف جبهة القوى المؤيدة والداعمة للثورة، وخلق حاجزاً ما بين قيادتها والجماهير الشعبية التي وجدت نفسها نهباً لشريحة طبقية تتمتع بالامتيازات الطبقية، وتمتلك أدوات قمعية تثير الرعب، الأمر الذي جعل الانقلاب الساداتي اليميني سهلا وسريعا ودون مقاومة تُذكر. إن طبيعة التحولات الداخلية التي حدثت داخل النظام نتيجة لسياسته الأمنية وتغول أجهزتها ضد اي انتقاد ولو جاء على قاعدة دعم الثورة، وعدم الإشراك الفعلي للجماهير في قيادة التحولات، ذلك كان بمثابته كعب أخيل الثورة والتجربة معاً.
واليوم، في ظل هذا الانهيار المخزي للنظام العربي الرسمي، الرجعي والعميل، والذي وصل حد التعاون الاستخباري والعسكري مع العدو الصهيوني، وفي ظل تغول الرأسمالية الطفيلية ونهبها لكل مقدرات الوطن العربي، وفي ظل هذا النظام السياسي المصري البائس لما بعد نظام ثورة 23 يوليو، تبدو ثورة 23 يوليو نقطة الضوء وسط هذا الظلام السياسي الرسمي، نقطة ضوء يجب التركيز والبناء عليها وتمثل دروسها السلبية والايجابية بهدف إعادة إحياء مشروع الأمة العربية بالوحدة، والتحرر من الهيمنة الإمبريالية، وبأفق بناء مجتمع عربي اشتراكي.
ثورة 23 يوليو لها ما لها وهذا سيبقى منارة في تاريخ كل الثوريين والتقدميين العرب، وعليها ما عليها وهذا سيبقى درساً أيضاً لكل الثوريين والتقدميين العرب، ولكن ما لها أكثر بكثير مما عليها.
المجد لثورة 23 يوليو ولقائدها التاريخي جمال عبد الناصر.