حين شهد طه حسين بحتمية ثورة يوليو لانقاذ (المعذبون في الارض )
بقلم: د. رفعت سيد أحمد
تمر هذة الايام الذكري الحادية والسبعون لثورة يوليو 1952 التي قادها الزعيم الراحل جمال عبد الناصر والتي لا تزال تملأ الدنيا وتشغل الناس فيما أسست له من قيم ثورية ونضالية، وفيما تركته من موروث وطني وقومي وإنساني كبير ينحاز لمبادئ الحق والعدل والمساواة ..وفي تقديرنا -كمؤرخين لهذة الثورة العظيمة – أن قيمها ومبادئها ستظل خالدة لاجيال آخري قادمة، لانها… فيما دعت إليه وإنحازت له يضعها في مصاف الثورات الكبري التاريخية وذلك لانها بذرت بذورا أنبتت قيما لا تموت ..لانها كانت قيم صدق ونزاهة وتغيير الي عالم أفضل يسوده العدل.
* واليوم ونحن نعيش تلك الذكري ووسط الحملات التي تشن سنويا علي ثورة يوليو بهدف الاساءة اليها بإسم النقد وبإسم أن (عهد الملكية ) كان أجمل وكان أكثر ديمقراطية وعدل، وهي الامور البعيدة تماما عن الحقيقة والتي فندتها عشرات الدراسات والوثائق التاريخية العربية والغربية والتي ذهبت كلها الي التأكيد بأن العصر الملكي قبل ثورة يوليو 1952 كان الاشد إفقارا للشعب والاكثر فسادا في تاريخ مصر منذ الفراعنة .. سنكتفي هنا وفي هذا المقام بأن نورد شهادة لواحد من أعظم العقول الفكرية والادبية والسياسية التي أنجبتها مصر ..إنه (طه حسين ) والذي لا يحتاج الي تعريف لمن يعرف قيمة (الذهب) حين يصبح فكرا وأدبا.
*سوف نورد هنا شهادته من خلال كتابه الاكثر شهرة والذي لا ينساه أبدا كل محب للعدل وللادب الراقي المشتبك مع قضايا الوطن ..إنه كتاب (المعذبون في الارض ) والذي تعرض لمصادرات عدة في العهد الملكي الذي يوصف تبجحا وجهلا من البعض بـ (الحرية والديمقراطية ) وهو الكتاب الذي نشر في بيروت نهايات الاربعينات من القرن الماضي، ثم أعيد نشره في مصر بعد ثورة يوليو 1952.. ولندع عميد الادب العربي (طه حسين ) يتحدث ليقول في مقدمته ويجيب عن سؤال تاريخي عميق وكبير :لماذا كانت ثورة يوليو 1952 ضرورة وطنية وتاريخية ؟ ولماذا كان الانتصار الحق للفقراء وللمعذبين في أرض (الملكية المصرية ) يتطلب هذة الثورة المباركة ؟
* في البدية وفي السطور الاولي من رائعته الخالدة (المعذبون في الارض ) يهدئ (طه حسين ) كتابه بكلمات غاية في الروعة و غاية في الكشف والبوح عما كان يعانيه شعب مصر العظيم تحت نير الملكية، وعلي نقيض ما يتبجح به من لم يعرف أو يقرأ التاريخ . * يقول طه حسين في الاهداء:
(إلى الذين يحرقهم الشوق إلى العدل، وإلى الذين يؤرقهم الخوف من العدل،
إلى أولئك وهؤلاء جميعًا،
أسوق هذا الحديث.
•••
إلى الذين يجدون ما لا ينفقون،
وإلى الذين لا يجدون ما ينفقون،
يساق هذا الحديث.)
كلمات بليغة تكفي لاقناع كل من في قلبه ذرة موضوعية عما كان يعيشه ويحسه هذا المفكر الكبير من غبن وظلم لاهل مصر ومن إفقار لهم في عهد الملكية الذي يصفه البعض بـ (العهد السعيد ) …ثم يقو ل مفسرا ومفندا وكاشفا لطبيعة ذلك العهد ( لا أجد لتصوير الحياة في مصر أثناء الأعوام الأخيرة من العهد الماضي أدقَّ من هذين الإهدائين اللذين يقرؤهما كل مَن تناول هذا الكتاب؛ فقد كان المصريون في تلك الأعوام القريبة البعيدة فريقين،) ثم يشرح من هما الفريقان ؟ ( أحدهما يصور الكثرة الكثيرة البائسة التي تتحرق شوقًا إلى العدل مصبحة وممسية، وفيما بين ذلك من آناء الليل وأطراف النهار، والآخَر يصوِّر القلة القليلة التي تشفق من العدل حين تستقبل ضوء النهار، وتفزع من العدل حين تجنها ظلمة الليل، وكان فريق الكثرة ذاك لا يجد ما ينفق في رزق نفسه، وفي رزق مَن يعول، فيشقى بما يجد من الحرمان، ويشقى أشد الشقاء وأعظمه نكرًا بما يجد عياله من الحرمان؛ كانت عينه بصيرة إلى أبعد ما يبلغ البصر، وكانت يده قصيرة إلى أدنى ما يكون القصر، كان يرى الطيبات بين يديه فتتوق إليها نفسه، وتتوق إليها نفوس بنيه وبناته، فإذا أراد أن يمد إليها يده أَبَتْ أن تمتد كأنما أصابها شلل، أو كأنها شُدَّتْ إلى سائر جسمه بأثقل الأغلال، فكان يكظم غيظه، ويصبِّر نفسه على مكروهها، ويصبِّر أهله على البأساء والضراء، وينتظر العدل الذي يبطئ عليه؛ فيغلو في الإبطاء.)
ثم يقول العميد في عمق ودقة وروعة كلمات كاشفا لعورات ذاك الزمان المر ((:وكان (المصري ) يري الآفات المختلفة تصطلح على جسمه ونفسه، وعلى أجسام عياله ونفوسهم، ويهم أن يصلح مما تفسده تلك الآفات، فيقصر به همُّه، ويقعد به عزمه، ويضطر إلى أن يسلِّم نفسه وأهله لهذه الآفات تعبث بهم كما تريد، قد وطَّنَ نفسه على الجهل لأن أباه لم يستطع تعليمه، وهمَّ أن يُخرِج عياله من الجهل الذي اضطر هو إليه، فلم يجد إلى ذلك سبيلًا، فرضي الجهلَ لبنيه كما رضيه لنفسه، وانتظر العدل الذي يتيح لبنيه من المعرفة ما لم يُتَحْ له في صباه، ولكن العدل يبطئ عليه وعلى بينه فيغلو في الإبطاء.)
(وكان يرى البؤس له خليطًا بغيضًا، يصحبه إذا سعى في الأرض، ويصحبه إذا راح إلى داره، ويسكن معه ومع أسرته في تلك الدار إن أتيحت له ولأسرته دار يَأْوَون إليها؛ فيصبر نفسه على هذا الخليط البغيض، ويصبر أهله عليه، واثقًا بأنه لن يستطيع منه فرارًا؛ لأنه لن يستطيع أن يتخذ نفقًا في الأرض أو سلمًا في السماء، فينتظر العدل الذي سيخلصه ويخلص أهله من خليطه ذاك البغيض، ولكن العدل يبطئ عليه فيغلو في الإبطاء.)
* ثم يحلل ويوثق عميد الادب العربي د. طه حسين في الصفحات الاولي من كتابه الفريق الثاني ممن كان يعيش في مصر في زمن (الملكية التي يصفها من لا يعرفون التاريخ الحق بـ (السعيد ) وهو الفريق الحاكم والاقطاعي والملكي الفاسد يصفه بأخطر العبارات وأدقها تعبيرا فيقول (فأما الفريق الثاني، فريق تلك القلة القليلة، فقد كان يرى بؤس الفريق الأول وشقاءه وعناءه، وخضوعه للمحن والخطوب، وإذعانه للكوارث والنائبات؛ فلا يحفل بما يرى ولا يلتفت إليه، ولعله لم يكن يرى شيئًا ولا يحس شيئًا، فقد كان مشغولًا بيسره عن عسر الناس من حوله، وكان مشغولًا بترفه عن شظف الناس من حوله، وكان مثقلًا بالغنى فلا يعنيه أن يثقل الناس بالفقر. كان نظره قصيرًا كأدنى ما يكون القصر، وكانت يده طويلة كأبعد ما يكون الطول، كان يشتهي فيبلغ ما يشتهي حتى سئم شهواته، وكان يريد فيبلغ ما يريد حتى ملَّ إرادته، وكان قلبه قد قسا فهو كالحجارة أو أشد قسوة، وإن من الحجارة لما تتفجر منه الأنهار، وإن منها لما يشقَّق فيخرج منه الماء، وإن منها لما يهبط من خشية الله. وكان عقله قد حُجِب عمَّا حوله أو حجب عنه ما حوله، فهو لا يرى ما كان يملأ البيئة التي يعيش فيها من النُّذُر، فإن رأى منها شيئًا أعرض ونأى بجانبه، وأمعن في الحمق والغرور،) ويبدع الدكتور طه في وصف هذا الفريق الحاكم والفاسد فيقول في موضع آخر ( هذا الفريق يشتد بينه وبين البائسين المعذَّبين، فهو لا يحسهم إلا أن يحتاج إليهم، وهو إذا احتاج إليهم لم يرفق بهم ولم يعطف عليهم، وإنما ينزل إليهم الأمر تنزيلًا أن يشتقُّوا له من شقائهم سعادةً، ومن عنائهم راحةً، ومن بؤسهم نعيمًا، وكانت الحكومات تقوم على إرضاء هذا الفريق المترف طوعًا أو كرهًا، وربما حاول بعضها أن يختلس شيئًا من الإصلاح اختلاسًا، فنظر إلى هذا الفريق من المعذَّبين في الأرض نظرةً فيها شيء من إشفاق، وهمَّ أن يمسهم بجناح من رحمة، ولكنه لا يكاد يفعل حتى تزلزل به الأرض، ويُحال بينه وبين الحكم، وتلقى عليه الدروس في إثر الدروس لعله يفهم أن غاية الحكم إنما هي أن يزداد المترف ترفًا، ويمعن البائس في البؤس والشقاء.).
* هذا التوصيف الدقيق لحال مصر في زمن فاروق والملكية التي يتغني بها البعض اليوم من عميد الادب العربي ..ألم يكن يحتاج الي ثورة تعيد الامور الي نصابها الصحيح وتعيد العدل الي أرض المعذبين من شعب مصر وهم الاغلبية الساحقة ؟
* يسترسل طه حسين بعد ذلك في مقدمة كتابه الفذ (المعذبون في الارض ) وبالتفصيل الدقيق قصة مصادرة الكتاب في زمن الملك فاروق ذلك الزمن الذي يصفه بعض السذج والمغرضين بأنه زمن (الحرية ) وهو كان في خصومة تاريخية معها ومصادرة كتاب طه حسين خير دليل علي ذلك !
* ثم ينهي عميد الادب العربي مقدمته الضافية بكلمات قمة الروعة والدلالة يقول فيه واصفا فيها تلك الفترة الكئيبة من حكم الملكية لمصر ( يا لها من ليالي قاتمة مظلمة كثيفة الإظلام، لم يُتَحْ فيها للنجوم أن ترسل سهامها المشرقة، ولم يُتَحْ فيها للقمر أن ينشر ضوءه الهادئ الجميل، وإنما ازدحمت فيها الظلمات يركب بعضها بعضًا، وقد احتملنا أثقالها ونهضنا بأعبائها نكاد نختنق، ولكننا مع ذلك نرسل أنفاسنا حارة محرقة كأنها شعل من نار تضيء لقرَّائنا الطريق، وتهديهم إلى قصد السبيل.).
ويختم العميد شهادته فيقول عن ثورة يوليو 1952 والتي نشر الكتاب في بداية عهدها بعد طول مطاردة ومصادرة: (ها هو الفجر الصادق قد أخذ يشير إلى الظلمات المتراكبة المتراكمة بأصبعه الوردية التي ذكرها الشعراء، فتنهزم متفرقة كأنها لم تزدحم ولم يركب بعضها بعضًا، وما هي إلا أيام وأسابيع، وإذا الفجر الضئيل يمتد ويتسع، ويملأ الأرض نورًا وجمالًا وبرًّا وإنصافًا؛ وهنالك لا يحتاج الأديب إلى حيلة ليعرب عن ذات نفسه، ولا إلى رمز يخفي به سرَّ ضميره على الرقباء، وإنما يتحدث إلى قرائه في صراحة ووضوح، ويسر ورضى، يصوِّر لهم حياة ناعمة، وعيشًا رغدًا، وعدلًا واسعًا، بعد أن صوَّر لهم جحيم البؤس والجور والشقاء.).
* تلك شهادة (طه حسين ) عن زمن الملكية .. ولم نجد أنسب من الذكري الحادية والسبعين لكي نوردها وبإختصار شديد يناسب مقام الذكري.
* وتلك إجابته عن السؤال التاريخي الذي لازل البعض – جهلا أو خبثا – يسأله : هل كانت مصر تحتاج الي ثورة يوليو 1952 ؟ وهل كانت (الملكية ) بفسادها و عدلها الغائب تحتاج الي ثورة ؟
* تلك إجابة ( المعذبون في الارض ) الذين كانوا ( يحرقهم الشوق الي العدل ..) كما صاغها …(طه حسين )! عن هذا السؤال …علها تفي وتقنع !