اللعب بالورقة النووية!!
بقلم: عبد الله السناوي/ القاهرة
كأى ألعاب خطرة على الحافة يصعب التحكم تماما فيما قد يفضى إليه اللعب بالورقة النووية.
يكاد يستحيل استصدار وثائق ضمان مطلقة ألا تفلت الرسائل النووية المتبادلة من وظائفها كروادع إلى الزج بالعالم فى أتون أول وآخر حرب نووية.
فى الحرب الأوكرانية هناك الآن سباق محموم للدفع بأسلحة أكثر تقدما وتدميرا على أرض العمليات العسكرية خشية خسارة معاركها المحتدمة.
أية خسارة محتملة لروسيا تعنى بالضبط تهميش أوزانها وأدوارها فى محيطها المباشر حيث أمنها القومى وفى العالم كله حيث أدوارها العظمى التى تطمح لاستعادتها.
الخسارة قد تفضى إلى إذلالها وربما تفكيك دولتها.
وأية خسارة محتملة للولايات المتحدة تفضى بالضرورة إلى تفكيك التحالف الغربى وذراعه العسكرى حلف «الناتو»، وقد تفضى إلى إطاحة أدوارها كدولة عظمى مهيمنة بمفردها على المعادلات الدولية بعد انتهاء الحرب الباردة.
هذا هو السياق العام الذى يجرى فيه تبادل رسائل الردع النووية.
أمام حرب استنزاف مفتوحة بغير أفق سياسى وصلت الرسائل النووية المتبادلة إلى حدود تكاد تشبه الجنون رغم إدراك أن الحرب النووية لا كاسب فيها.
إنه الصراع الدامى على قيادة العالم، حسابات ومصالح القوة فيه.
أوكرانيا ميدان الصراع وليست موضوعه الرئيسى.
هذه هى الحقيقة الرئيسية وراء الانشقاق الحاد فى البنية الدولية وتواتر الحديث على جانبى الصراع عن شراكات استراتيجية، الشراكة الأطلسية على جانب والشراكة الصينية الروسية على الجانب الآخر.
يستلفت الانتباه أن كلا القطبين يلجأ إلى إطلاق الرسائل النووية إذا ما تدهورت أوضاعه العسكرية فى ميادين القتال كنوع من الردع حتى يذكر الطرف الآخر: «لا تنسوا أننا قوة نووية».
أخذت موسكو زمام المبادرة بالتلويح النووى ولم تتأخر واشنطن عن الرد بالمثل.
فى تصعيد أخير لافت ومنذر دخلت بريطانيا على خط الرسائل النووية بإعلان نيتها إرسال قنابل يورانيوم منضب إلى كييف.
طرح على الفور سؤالان: هل تستخدم مثل هذه القنابل فى الحرب الأوكرانية؟.. وما ردة الفعل المتوقعة من موسكو؟
قنابل اليورانيوم المنضب استخدمت عند اقتحام القوات الأمريكية للعاصمة العراقية بغداد قبل عشرين عاما لإضعاف طاقة المقاومة وإجبار العراقيين على الاستسلام.
لا جرت تحقيقات فى جرائم الحرب التى ارتكبت ولا تكشفت كل الحقائق.
المشكلة فى الحالة الروسية الراهنة أنها دولة نووية ولديها أكبر مخزون نووى فى العالم، وقد تلجأ لاستخدام السلاح النووى التكتيكى فى الرد على هذا التصعيد.
«إذا أمدت بريطانيا كييف بيورانيوم منضب فإن الرد لن يتأخر»، حسب تعهد الرئيس الروسى «فلاديمير بوتين».
ثم كان التطور الأخطر فى مسار الصراع الدامى بإقدام الولايات المتحدة على إنشاء أول قاعدة عسكرية مستدامة فى بولندا على الحدود الأوكرانية.
القاعدة تحتوى قدرات وطاقات نووية بالإضافة إلى دبابات «إبرامز» ومنظومات «هيمارس» وطائرات «إف 35».
أعلنت روسيا بالمقابل أنها بصدد نشر صواريخ نووية تكتيكية فى بيلاروسيا دولة الجوار الحليفة، التى تطل على الحدود المباشرة لدول الاتحاد الأوروبى.
عند هذا المستوى من اللعب المتبادل بالورقة النووية لجأ الطرفان إلى خفض درجة المخاوف العامة من أن يفلت الزمام.
«بوتين» أعلن «أن نشر الأسلحة النووية فى بيلا روسيا لا يخرق التزاماتنا الدولية بمنع الحرب النووية.. لا شىء غير اعتيادى، فالولايات المتحدة تفعل الأمر نفسه منذ عقود وتنشر أسلحتها النووية التكتيكية فى دول أوروبية عديدة».
ونظيره الأمريكى «جو بايدن» أكد «إننا لم نلحظ أى تغييرات فى المواقع النووية الروسية تدعونا إلى تعديل أوضاعنا».
كانت تلك رسالة تهدئة من الجانبين، لكنها لم تمنع من المضى قدما فى التصعيد إلى الحافة النووية وتوسيع مجال المواجهات العسكرية التقليدية بالوقت نفسه.
أجرت الولايات المتحدة مناورات واسعة فى محيط شبه الجزيرة الكورية مع حليفتها كوريا الجنوبية، يعتقد أن طاقات وقدرات نووية شاركت فيها.
لم يكن الزعيم الكورى الشمالى «كيم جونج أون» فى حاجة إلى من يستفزه، فقد سارع قبل وأثناء تلك المناورات إلى تجريب صواريخ باليستية جديدة أكثر تقدما مما فى مخازنه.
التوتير الأمريكى المتصاعد للأجواء فى المحيطين الهادى والهندى دعا للتساؤل إذا ما كان هناك اتجاها أمريكيا للدخول فى مواجهة عسكرية مع الصين، أم أنها استعراضات قوة أرادت أن تقول للعالم إنها ما زالت القوة العظمى المهيمنة عليه.
اللافت هنا أن الصين تكاد ألا تتوقف عن نفى أنها طرف فى الحرب الأوكرانية، وأنه لا يوجد تحالف عسكرى يجمعها مع روسيا، لكن العلاقات بينهما تشمل أوجه تعاون عديدة بما فيها المسار العسكرى.
فى أحوال الفوضى التى تضرب العالم بدت الولايات المتحدة مرتبكة استراتيجيا.
وقد عبر رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية أمام الكونجرس عن طبيعة وحجم تلك الفوضى بتأكيد أن أمريكا ليس بمقدورها إدارة حرب مع روسيا والصين معا.
إذا كان ذلك تقدير القيادة العليا فى البنتاجون فما معنى التحرش العسكرى بالصين؟!
وسط تلك الأجواء المحمومة أقدمت روسيا على نصب منظومة صواريخ «يارس» العابرة للقارات فى مناطق عديدة داخل أراضيها.
كان تلك رسالة أخرى، فتلك الصواريخ يمكنها أن تصل بحمولتها النووية الاستراتيجية إلى أى مكان فى أوروبا، أو داخل الولايات المتحدة نفسها.
فى مثل هذه الأجواء التفلت النووى غير مستبعد.
بأثر التجربة الإنسانية المريعة فى «هيروشيما» و«نجازاكى» إثر استخدام قنابل ذرية بالقرب من نهاية الحرب العالمية الثانية سادت البشرية مشاعر نفور جماعى من مجرد التفكير فى اللجوء إلى السلاح النووى.
باستثناء أزمة خليج الخنازير مطلع ستينيات القرن الماضى عند نشر صواريخ سوفييتية فى الجزيرة الكوبية قبالة الشواطئ الأمريكية لم تعرف سنوات الحرب الباردة أزمة أخرى مماثلة.
بقواعد الاشتباك التى أمكن التوافق عليها جرى تطويق تلك الأزمة باتفاق الزعيمين الأمريكى «جون كينيدى» والسوفييتى «نيكيتا خروشوف» على تسوية سياسية نزعت بمقتضاها الصواريخ السوفييتية مقابل تعهدات وضمانات ألا تجرى أى محاولة أمريكية لغزو كوبا.
أحد مصادر الخشية الآن أنه لا توجد قواعد اشتباك واضحة وملزمة.
التوازنات الدولية مختلة والفوضى تضرب بنية النظام الدولى.
السياق ضرورى لفهم مواطن الخطر النووى.