الاستراتيجية الأمريكية لعرقلة مسار التقارب التركي – السوري
بقلم: توفيق المديني
في ضوء تزايد وتيرة الحديث حول موضوع التقارب التركي- السوري، تَشُّنُ الولايات المتحدة هجومًا سياسيًا و إعلاميًا ضاريًا على الدولة السورية، داعية دول العالم قاطبة إلى عدم تطبيع علاقاتها مع الرئيس السوري بشار الأسد، وذلك في سياق استعراض موقفها من الوساطة الروسية التي تستهدف تحقيق تقارب تركي- سوري يُعَبِّدُ الطريق للتطبيع الكامل بين تركيا وسورية.
فقد قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، إنَّ الحوار مع النظام السوري يستمر بشكلٍ متدرجٍ، بحيث تلتقي أولاً أجهزة الاستخبارات التركية والروسية والسورية، تليه اجتماعات على صعيد وزراء الدفاع، ثم وزراء الخارجية.وأوضح أردوغان أنَّ الخطوة الأخيرة في هذا الإطار، هي لقاء الزعماء، وذلك في حال استكمل عقد الاجتماعات السابقة بنجاح، مبيناً أنَّ سير العملية هذه منوط بمواقف أطرافها، مشيرا إلى إمكانية انخرط إيران في المباحثات الثلاثية.
ويستند هذا الموقف الأمريكي من العداء للنظام في سورية، إلى إرث تاريخي من العداوات القائمة بين أمريكا وسورية، وتمتد منذ الحرب الباردة مرورًا بالغزو الأمريكي للعراق في عام 2003،ووصولاً إلى تبني الإدارات الأمريكية المتعاقبة بعد اندلاع “انتفاضات الربيع العربي” قضية إسقاط الدولة الوطنية السورية،وفرض العقوبات المتشددة لتجويع الشعب السوري.
فقد ظلت العلاقات الأمريكية-السورية تتسم بالعداء طيلة سنوات إدارة بوش الثماني ، ورغم وصول الرئيس أوباما إلى سدة الرئاسة في البيت الأبيض في بداية سنة 2009، فإنّ العلاقات السورية ـ الأمريكية لم تتحسن ،لأنّ إدارة أوباما السابقة مدّدت العمل بالعقوبات المفروضة على سورية، وهو مؤشر دالٌ على صعوبة التطبيع للعلاقات الأميركية ـ السورية .وسوريا تواجه العقوبات منذ عام 1976 وتعززت أكثر بعد عام 2003. فالعقوبات المفروضة تَحُدُّ من تصدير العتاد العسكري ، والعتاد المزدوج الاستخدام، المدني والعسكري. وبتاريخ 11 مايو/ أيار 2004 أضاف الرئيس الأميركي السابق بوش عليها منع تصدير كل شيء نحو سورية باستثناء الغذاء والدواء. هذا بالإضافة إلى عدد من الإجراءات الإدارية والمالية.
ولم يغيّر انتخاب جو بايدن رئيساً طبيعة العلاقات الأمريكية ـ السورية بشكل حقيقي، وحتى لو كانت قد استجدّت بعض التطورات مثل نهاية حرب أفغانستان بهزيمة لأمريكا، إِذْ كانت تكاليف هذه الهزيمة باهظة بالفعل. خلال عقدين من جهود التهدئة الفاشلة ونشر 775000 جندياً أمريكياً في أفغانستان، تكبّدت الولايات المتحدة وحدها 2442 قتيلاً ونحو 20000 جريحاً. يُقدّر أنه قُتل 170000 أفغانياً بينهم 47000 ضحية من المدنيين. وصل إجمالي التكاليف الأمريكية في هذا الصراع حوالي 2.2 ترليون دولاراً في النفقات العسكرية وحدها.
كما أن أداء الجيش الأمريكي في حرب العراق كان كئيباً، إِذْ قُتِل ما يقارب من 4500 جندياً أمريكياً وجُرِح 32000 آخرون. أما تقديرات خسائر العراق، فتراوح عدد القتلى المدنيين من العمليات العسكرية الأمريكية ما بين 200000 إلى أكثر من مليون ضحية. وصلت التكاليف المباشرة للحرب إلى ما يقرب من 2 ترليون دولاراً، بعد إنفاق مليارات لا حصر لها خلال عقد من إعادة الإعمار.
الإرث الذي خلّفته العلاقات الأمريكية –السورية العدائية
يتحكم في العلاقات الأميركية –السورية، إرث من النفور وعدم الثقة، ويعود السبب في ذلك إلى وجود عوائق مهمة أمام قيام علاقات صحيحة ومفيدة للجانبين . فعلى الرغم من أن العداوة العلنية التي شهدناها في ظل إدارة بوش السابقة كانت أمراً شاذاً في العلاقات الأميركية -السورية، إلا أنه نادراً ما كان العكس هو المسار العادي للأمور.
لقد دَخَلت الولايات المتحدة وحلفاؤها من الحلف الأطلسي أراضي سورية من دون موافقة الحكومة الشرعية، كما تعودت ذلك منذ الحرب العالمية الثانية، ما يجعل من العمل العسكري الأمريكي عدواناً عَسْكَرِيّاً موصُوفًا ضد سيادة دولة مُسْتَقِلّة، لكنَّ “القانون الدولي” و”الأمم المتحدة” وغيرها من المنظمات الدولية تخضع للإمبريالية الأقوى، أي الولايات المتحدة الأمريكية، التي استحدثت في شمال سورية المُحاذي لحدود تركيا (عضو الحلف الأطلسي) والقريب من قاعدة “إنجرليك” الضّخْمَة قواعد عسكرية، مستخدمة ذريعة”مُساعدة الأكراد” فيما أوْكَلت أمريكا مناطق أخرى من سورية إلى السعودية وقطر والإمارات لتمويل وتسْلِيح المنظمات الإرهابية في حلب، ومناطق جنوب وغرب سورية.
عملت واشنطن ما في وسعها خلال السنوات الأولى للحرب ضد سورية، لتلتقي مصالح أمريكا مع عدد من القوى المحاربة ضد الدولة الوطنية السورية، ثم أنشأ الجيش الأمريكي قواعد عسكرية في شرق وشمال سورية الذي يخضع لسيطرة الذراع العسكرية لـ”حزب العمال الكردستاني” (التُّرْكِي)، على الحدود السورية المشتركة مع العراق وتركيا، والتي أصبحت مقرًا لفريق التخطيط العسكري الأمريكي، وانتشر “المُسْتَشَارُون” الأمريكيون في المناطق المحيطة بالحسكة )شرقًا وجنوبًا) ويقدّرُ عدد الجنود الأمريكيين ومُرْتَزَقَةِ الشركات الخاصة المتعاقدة مع وزارة الدفاع الأميركية والمُنْتَشِرَة في شمال سورية بنحو 5000آلاف جندي.
وتعمل الولايات المتحدة الأمريكية كل ما في وسعها لكي لاتنتقل أجزاء من سورية التي كان يُسَيْطِرُ عليها “داعش” (وهي كانت حتى سنة 2016 تناهز 34%من مساحة سورية ) إلى الدولة الوطنية السّورية وجيشها وحكومتها، بعد تطهيرها من دنس الإرهاب، بل إنَّها تسعى إلى “تفجير حرب جديدة” في شمال سورية، عبر عدوانها على موقع للجيش العربي السوري في دير الزور من أجل الهروب من استحقاقات مسار التسوية المحتمل، وبهدف تجويف الاتفاق الروسي-الأميركي من مضمونه، والعودة إلى الهجوم العسكري عبر تسليح “قوى المعارضة السورية”،”لاستنزاف الروس” على الجبهة السورية التي لا تشكل بنظر الصقور الأميركيين سوى “إحدى ساحات الاستنزاف” لروسيا في مقاربة أشمل للمواجهة معها ومع محور المقاومة، ومدِّ أكراد سورية بالقوة العسكرية و المالية من أجل خلق كيان انفصالي في شرق سورية.
كذبة الكيماوي من العراق إلى سورية : أمريكية بامتياز
عادت إدارة بايدن إلى شنِّ حملةٍ قديمةٍ-جديدة ضد الدولة السورية،مستخدمة هذه المرَّة التقرير الثالث لفريق التحقيق وتحديد الهوية(IIT) (139 صفحة) التابع لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية (OPCW) والمعني بالتحقيق في حوادث استخدام الأسلحة الكيميائية في سورية، والذي صدر في لاهاي يوم الجمعة 27 يناير/كانون الثاني 2023. واستغرق العمل عليه عامين تقريبا، وركّز على الهجوم المرتكب في 7 إبريل/ نيسان 2018، الذي استهدف مدينة دوما المحاصرة، فقد خلص التقرير إلى أن طائرة هليكوبتر واحدة على الأقل تابعة للجيش السوري ، أسقطت أسطوانتين تحملان غاز الكلورين السام بتركيز عالٍ على مبنيين سكنيين في وسط المدينة، ما تسبب في مقتل 43 شخصاً تم توثيقهم بالأسماء، وإصابة عشرات آخرين.
يقول المسؤولون السوريين،أنّ الجيش العربي السوري لم ولن يستخدم أي نوع من السلاح الكيميائي حتى ضد الإرهابيين الذين يستهدفون أبناء الشعب السوري ،فكذبة استخدام الجيش السوري لهذا السلاح جاءت من قبل دول معروفة بتآمرها على سورية بعد فشل الإرهابيين في هجماتهم وأيضا فشل محاولاتهم في تعطيل العملية السياسية.
وكان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب دشَّن عهده بِشَنِّ عدوانٍ أمريكيٍّ جديدٍ على سورية ، مستغلاً بدعة “الكيميائي”،استهدف قواعد الجيش العربي السوري،الذي لا يزال صامداً،ويقاوم الإرهاب الذي تمارسه الحركات الإرهابية التكفيرية المدعومة من الأطراف الإقليمية :قطر والسعودية وتركيا والكيان الصهيوني منذ أكثر من عشرسنوات من المقاومة السورية البطولية.
ليس من قبيل المصادفة التاريخية أن تستخدم أمريكا ذريعة استخدام الأسلحة الكيماوية في هذا الوقت تحديدًا لمعارضة التقارب التركي-السوري الذي يمكن أن يغير حسابات وتوازنات قائمة في الوضع السوري والمنطقة، وهي نفس الكذبة التي استخدمتها لتبرير وشرعنة عدوانها على سورية، فلها سابقة في هذا المجال بالعراق، حين اعتمدت إدارة بوش الإبن لتبرير احتلالها للعراق على معلومات كاذبة، وهذا ما كشفه التقرير الاستخباري الأميركي الذي أفرج عنه في شهر آذار/مارس 2015.
الخاتـــــــــــــــــــــــــــــــــــمة
ها هي إدارة الرئيس جو بايدن تُكَرِّرُ نفس الكذبة باستخدام الجيش العربي السوري الأسلحة الكيماوية في خان شيخون و الغوطة ،لكي تعطيها شرعية مبررة لشنِّ حملةٍ دوليةٍ معاديةٍ للدولة السورية، بهدف استمرار احتلالها للأراضي السورية (حوالي 25% من مساحة سورية)،وسرقة النفط و الغاز السوريين،واستمرار الأزمة السورية من دون حلٍّ،ومنع روسيا من الاستفراد بإيجاد حل عادل للأزمة السورية، حيث يمثل التطبيع بين تركيا وسورية إذا قام على أسسٍ صحيحةٍ تراعي مصالح البلدين ،وأهداف الشعب السوري في تحقيق سيادته على كامل ترابه الوطني ،وإعادة تحديث اتفاق أضنة الموقع عام 1998، أحد المخارج الحقيقة للإنفراج في الوضع السوري.
وفيما تقود روسيا سياسة الوساطة لتسهيل إقامة حوار بناء بين دمشق وأنقرة على أساس المراعاة المتبادلة لمصالح واهتمامات الطرفين من أجل دفع عملية تطبيع العلاقات السورية التركية،فضلاً عن ترحيب تركيا بانضمامِ إيران إلى الاتصالات التي تجريها مع الدولة السورية بوساطة روسية،حيث ذكر المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم قالن، قبل يومين أنَّ وجود إيران في المحادثات “يسهل القضاءَ على التهديدات الإرهابية التي تطاول تركيا من الأراضي السورية، وتأمين حدودها، وكذلك عودة اللاجئين السوريين إلى بلدهم بشكل آمنٍ وطوعي”، وفق ما نقلت وكالة “الأناضول”، فإنَّ المحللين و الخبراء يرون أنَّ إدارة بايدن لديها نيات لإسقاط الرئيس الحالي رجب طيب أردوغان ودعم وصول معارضيه للسلطة في الانتخابات الرئاسية المقبلة المزمع إجراؤها في مايو 2023.ومن الممكن أن تستخدم واشنطن خطوات تصعيدية تجاه الاقتصاد التركي قد تؤثر على قدرة الحكومة في السيطرة على الليرة التركية، ما يؤدي إلى تدهور اقتصادي سريع يؤثر مباشرة وبشكل كارثي على شعبية أردوغان وذلك بهدف دعم مرشحي زعماء المعارضة و إسقاط أردوغان في الانتخابات المقبلة.
هذا الوضع دفع بموسكو وطهران أكثر للتمسك بالرئيس أردوغان ،واستعجال دمشق وأنقرة لاتخاذ خطوات تنفيذية لجهة التقارب بينهما، والذي من الممكن أن يدعم أردوغان في انتخاباته ويضيف لرصيده النقاط اللازمة للفوز.