أثارت التصريحات المسيئة لنبي الإسلام الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، التي أدلى بها مسؤولان في حزب بهاراتيا جانات الحاكم بالهند، وهما:نوبور شارما المتحدثة باسم حزب “بهاراتيا جاناتا” خلال مناظرة تلفزيونية، ورئيس وحدة دلهي الإعلامي للحزب نافين كومار جندال، على خلفية مشاركة صور التعليقات المذكورة على “تويتر”،ردود أفعال غاضبة في الدول العربية، لا سيما الخليجية منها ، إذْ قُوبِلَتْ بالرفضِ الواسعِ عبر منصات التواصل الاجتماعي.
حزب بهاراتيا جاناتا الهندوسي وانتهاج سياسة معادية للدول الإسلامية
لا تمثل الخلافات والجدل الدبلوماسي المستمر في الهند بشأن التعليقات “المسيئة” الأخيرة، التي أدلى بها عضوان بارزان في حزب بهاراتيا جاناتا حول النبي محمد (ﷺ)، أمرا جديدا، فهذه ليست المرة الأولى التي يواجه فيها حزب مودي أو حكومته انتقادات عالمية بسبب ما يُنظر إليه على أنه يندرج في إطار الإسلاموفوبيا.فمنذ تولي حزب بهاراتيا جاناتا القومي الهندوسي زعامة الهند،كثرت الحوادث العنصرية تجاه الأقليات في ، ما عرّض السياسة الخارجية الهندية لعدد من الأزمات مع دول عربية وإسلامية مهمة .
وقد أغضبت تعليقات نوبور شارما، التي أدلت بها خلال نقاش تلفزيوني، المسلمين في الهند، أكثر من عشر دول إسلامية، مثل قطر والسعودية والإمارات وسلطنة عمان ومصر وإندونيسيا وماليزيا وباكستان وإيران وأفغانستان، ومنظمة التعاون الإسلامي، ومجلس التعاون الخليجي، والمجلس الأعلى للدولة بليبيا، والأزهر الشريف، وهيئة كبار العلماء بالسعودية، وطالبت في بيانات منفصلة الحكومة الهندية بالاعتذار.
وعلّق حزب “بهاراتيا جاناتا” عضوية نوبور شارما. وفصلت المسؤولة الإعلامية للحزب في دلهي. وأُلقي القبض على هارشيت سريفاستافا، وهو زعيم شاب من حزب “بهاراتيا جاناتا” الذي يتزعمه رئيس الوزراء ناريندرا مودي، في مدينة كانبور، شرق البلاد، في أعقاب التوترات الطائفية الأسبوع الماضي خلال احتجاج للمسلمين للتنديد بالتعليقات المعادية للإسلام.
وأحرجت التعليقات المسيئة للنبي محمد رئيس الوزراء ناريندرا مودي، الذي تفاخر في السابق بعلاقاته مع العالم الإسلامي، وزار العديد من دول الشرق الأوسط.
وقال حزب “بهاراتيا جاناتا” في بيان صدر عنه إنه “ضد أي أيديولوجيا تهين وتحقر أي طائفة أو ديانة”، وإنه لا يشجع الأشخاص الذين يفعلون ذلك ولا يشجع أفكارهم.
ورفضت نيودلهي البيانات العربية والدولية الواسعة المنددة بالتصريحات المسيئة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وقالت إن الإدانات لا مبرر لها.وقال متحدث الخارجية الهندية أريندام باغشي، في تصريحات صحفية، إن بيان منظمة التعاون الإسلامي (الذي يدين الإساءة للنبي محمد عليه الصلاة والسلام بالهند) لا مبرر له، واصفا إياه بأنه ضيّق الأفق.وشدَّدَ على أن الحكومة الهندية ترفض رفضا قاطعا بيان منظمة التعاون الإسلامي، مشيرا إلى أن نيودلهي تولي أعلى درجات الاحترام لجميع الأديان.
وتربط الهند علاقة قديمة وعميقة بدول الخليج، حيث يعمل حوالي 8.5 مليون هندي في دول الخليج الست المنتمية إلى مجلس التعاون الخليجي، أي أكثر من ضعف عدد الباكستانيين، ثاني أكبر قوة عاملة مغتربة في دول المجلس.ويشكل الهنود أيضا أكبر مجتمع للمغتربين في كل من هذه البلدان، وهم يرسلون إلى الوطن حوالي 35 مليار دولار كل عام في شكل تحويلات تدعم 40 مليون فرد من أفراد أسرهم في وطنهم، والذين يقطن العديد منهم في بعض أفقر ولايات الهند مثل ولاية أوتار براديش التي التي يدير حزب بهاراتيا جاناتا حكومتها المحلية.والتجارة بين الهند ودول مجلس التعاون الخليجي تبلغ حوالي 87 مليار دولار، حيث يعد العراق أكبر مصدر للنفط إلى الهند، تليه المملكة العربية السعودية، كما أن أكثر من 40 في المئة من الغاز الطبيعي الهندي يأتي من قطر.
احتدام الصدام الديني في الهند
تُعَدُّ الهند واحدة من أكبر دول العالم في القارّة الآسيوية، وتأتي في المرتبة السابعة عالميًا من حيث حجم مساحتها(3ملايين كيلومتر مربع). كما وتشغل المرتبة الثانية بعد دولة الصين الشعبيّة بعدد السكان1.406.631.776 مليار نسمة.وتعدّ الديانة الإسلامية ثاني أكبر الديانات المنتشرة في الهند بعد الهندوسية، والتي يزيد عددها عن 900 ديانة، لكلٍّ واحدةٍ منها خصائصها ومعتقداتها وسماتها وأتباعها. ويبلغ عدد المسلمين في الهند حوالي 200 مليون نسمة، حسب إحصائيات 2022،ويشكلون ربع عدد السكان في الهند.
وتحتل الديانة الهندوسية المرتبة الأولى في الهند، وهي واحدة من أقدم الديانات الموجودة في الهند، وتنقسم إلى ثلاث طوائف وهي: الطائفة العابدة للآلهة شيفا، والطائفة العابدة للآلهة فيشن. كذلك والطائفة العابدة للآلهة شاكتي.ويبلغ عدد سكان الهندوس حوالي 966 مليون نسمة.
وتأتي البوذية في المرتبة الثانية بعد الديانة الهندوسية في الهند، وهي إحدى الديانات القديمة في الهند. كما ويعود تاريخها في البلاد إلى القرن السادس عشر قبل الميلاد.
وتنتشر الديانة الإسلامية بشكل كبير في الهند. لا سيما في المناطق الجنوبية والساحلية بعد أن اعتنقت الدين الإسلامي قبيلتين هنديتين كبيرتين بعدد أفرادهما، هما قبيلتا تشرومان، وإتيان، مما ساعد على انتشار الإسلام، وتعدد مذاهب المسلمين في الهند، إلا أن غالبيتهم من السنّة.
أمَّا الديانة المسيحية فقد انتشرت بوصول الإنجليز، خلال البعثات التجارية البحرية من الغرب، التي وصلت عبر الموانئ الهندية.ومن الديانات الأخرى المنتشرة في الهند: السيخية، الكونفوشيوسية، الجينية، الملاوية، والزرادشتية وغيرها.
في عقد التسعينيات من القرن الماضي، ولاسيما مع وصول حزب الشعب الهندي اليميني الهندوسي المتطرف (حزب بهاراتيا جناتا) تأججت الطفرة القومية الهندوسية والعنصرية ضد كل من ليس هندوسيا. وكانت سلطة اليمين الهندوسي تتعاظم، وتشكل تهديداً للممارسات الدستورية التي اكتسبتها الهند بشق النفس، والتي تتمثل في الديمقراطية، والتسامح، والتعددية الدينية. وقد سعى اليمين الهندوسي، بقيادته السياسية التي يمثلها حزب بهاراتيا جناتا، إلى إخضاع الجماعات الدينية الأخرى، وكان يوجه سهامه بوجه خاص نحو المسلمين، الذين يعتبرهم شياطين يجب تطهيرهم.
لقد شكل حزب بهاراتيا جناتا برئاسة أتال بيهاري فاجباي خطرا على “الديمقراطية العلمانية الهندية” والعدالة الاجتماعية. ولحزب الشعب هذا مفهومه الخاص للهند ولهويتها وتتحدد سياسته في الأساس انطلاقا من أفكار “راشتريا سوايا مسيواك سانغ” (أوجمعية المتطوعين الوطنيين)وهو الجناح المؤسس لعائلة من التنظيمات السياسية والثقافية المكرسة للقضية الهندوسية أو “الهندوتفا”.
ومنذ تأسيسها عام 1925اتبعت “الهندوتفا” في مشروعها للهيمنة مسارين: الديني المحمّل المعاني السياسية القومية، والسياسي المفعم بالقدسية. وتستغل “الهندوتفا” الرموز المتعددة المعنى وطواعية الممارسة الدينية الهندوسية لكنها تتعامل في الواقع مع الدين كمعيار للنقاوة العرقية. وانطلاقا من مفهومها للقومية الهندوسية تعارض (جمعية المتطوعين الوطنيين) فكرة الهند العلمانية. وتجدر الإشارة هنا أنَّ مفهومي “العلمنة” و”الطائفية” لهما هنا معنى مختلف عن معناهما في الغرب.
فهنا “العلمنة” لا تدل على الفصل بين الحيزين العام والديني بقدر ما تعني التعدد والتكاثر الاجتماعي ـ الثقافي. ويعكس هذا التكاثر في صورة جيدة وقائع البلاد السوسيولوجية. وعلى العكس فإن “الطائفية” تشير إلى جماعة دينية متخيلة كأمة قائمة على العرق.وفي بلد متعدد الطوائف مثل الهند، إذ يشكل الهندوس نسبة 80% من السكان، ويشكل المسلمون الهنود نحو ربع السكان، ولا تربطهم أي علاقة بالراديكالية الإسلامية الدولية، أو بالمنظمات الإرهابية، ولا يقيمون سوى روابط سياسية أو تنظيمية قليلة، حتى مع باكستان.
كما أن الهند هي ثالثة كبريات الدول في العالم من حيث عدد السكان المسلمين فيها (بعد اندونيسيا وباكستان)، حيث تضم من المسلمين أكثر من بنجلاديش، ونحو عدد سكان باكستان تقريباً. والمسلمون في الهند بوجه عام، أقلية فقيرة كادحة، ظلت منذ قرون تعيش جنباً إلى جنب مع الهندوس، وهي تشارك اليوم في الحكم الذاتي الديمقراطي على جميع المستويات. وقد أظهرت دراسة حديثة أنها تؤيد وتساند تعليم الإناث على نحو أشد مما يؤيده الهندوس. وليس للأصولية الإسلامية سطوة في الهند، على الرغم من التمييز، بل والاضطهاد الذي يمارس ضد المسلمين. ويشكل إشراك المسلمين في شغل مناصب بارزة في الحكومة الجديدة، علامة تبعث الأمل في مستقبل أفضل.
المسيحية،وبالرغم من تشكيلهم ثاني أكبر أقلية دينية في الهند، فإن المسيحيين لا يمثلون سوى نسبة 5.2% من السكان. والمسيحية ليست حديثة العهد في الهند. فالكنيسة السريانية وهي الأقدم تأسست على يد القديس توما على شاطىء مالابار في نحو العام 45 بعد الميلاد. أما صعود الكنيسة الكاثوليكية الرومانية فلم يبدأ فعلا إلا بعد وصول فاسكود دي غاما إلى أبواب كالكوتا عام 1498.
وفي غمرة تركيز أمريكا على الإرهاب، والعراق والشرق الأوسط، كانت الديمقراطية تخضع للحصار في مكان آخر من العالم، فقد كانت الهند تمر بأزمة، وهي كبرى الدول الديمقراطية من حيث عدد السكان، والتي يحمي دستورها حقوق الإنسان على نحو أشمل حتى مما هي عليه الحال في الولايات المتحدة، كما تقول المؤلفة. ومنذ عقدين كانت حكومة الهند البرلمانية، تخضع بصورة متزايدة للمتطرفين الهندوس اليمينيين، الذين كانوا يغفرون، بل ويدعمون بنشاط في بعض الحالات، العنف ضد الأقليات عامة، وضد الأقلية الإسلامية بخاصة، ويسعى العديد منهم إلى إحداث تغييرات أساسية في ديمقراطية الهند الجماعية.
وما يجري في الهند من صدام ديني ،يشكّل تهديداً خطيراً لمستقبل الديمقراطية في العالم. وأن كون ذلك يحتاج إلى جهد لإدخاله في وعي الأمريكيين، يشكل دليلاً على الكيفية التي صرف بها الإرهاب وحروب أفغانستان والعراق وسوريا أنظار الأمريكيين عن الأحداث والقضايا ذات الأهمية الجوهرية.
وإذا أردنا أن نفهم تأثير القومية الدينية في القيم الديمقراطية، فإنَّ الهند تشكل أنموذجاً يثير القلق العميق، ومن دونه يظل أي فهم للظاهرة الأشد عمومية ناقصاً على نحو خطير. كما أنه يوفر مثالاً على الكيفية التي تستطيع بها الديمقراطية أن تنجو من عدوان التطرف الديني، وهو مثال يمكن أن يكون درساً تتعلمه جميع الديمقراطيات الحديثة.
والبؤرة المركزية للجدال الأخير حول الصدام الديني داخل الديمقراطية في الهند، ليس الأول من نوعه،فقد حدثتْ مذبحة دينية، إثنية في ولاية كوجارات في غرب الهند، في فبراير/شباط مارس/آذار 2002، وكان أساسها حادثاً وقع بالقرب من محطة جودرا، حيث اندلعت النيران في إحدى عربات قطار يقل حجاجاً من الهندوس، مما أسفر عن مصرع ثمانية وخمسين شخصاً من الرجال والنساء والأطفال، جميعهم تقريباً من الهندوس. وعلى الفور، وُجّهت أصابع الاتهام نحو المسلمين المحليين الذين يقطنون بالقرب من سكة الحديد، هذا على الرغم من أن أبحاث الطب الشرعي التي أجريت فيما بعدما ألقت بظلال من الشك الشديد على هذا الزعم، كما يقول الخبراء المحايدون.
ولهذا العنف بدافع الدين ليس جديداً على الهند، غير أن هنالك اتفاقاً واسع النطاق، على أن ما حدث في كوجارات كان شيئاً مختلفاً فحرق العديد من الضحايا، الذي يشير إلى خطة معقدة للإبادة التامة، لم يشاهد من قبل، وكذلك استخدام التعذيب الجنسي على نطاق واسع. وكان العنف موجهاً ضد جميع المسلمين كمسلمين، كما تشير الدعاية المرافقة إلى رغبة في طرد كل المسلمين، باعتبارهم عدواً داخلياً خطراً. ومن الجديد كذلك، أن الأماكن الإسلامية المقدسة لم تُمسح عن وجه الأرض وحسب، بل إنها استبدلت كذلك بأعلام اليمين الهندوسي الزعفرانية وتماثيل هانومان (القرد الإله)، زعيم القرود ومساعد الإله (راما).
فالمشكلة الأعمق التي تكشفها هذه الأحداث، هي مشكلة العنف الذي يُرتكب بعون وتحريض من أعلى مستويات الحكومة، وجهات تطبيق القانون، والذي يشكل إعلاناً فعلياً لمواطني الأقلية أنهم غير متساوين أمام القانون، وأن حياتهم لا تستحق الحماية من قبل القانون ودوائر الشرطة.وفي هذه الأثناء كانت الحكومة تبدي لا مبالاة جديرة باللوم، قائلة أن أعمال الشغب الدينية لا مناص منها في المناطق التي يعيش فيها المسلمون جنباً إلى جنب مع الهندوس، وأن المسلمين المثيرين للمتاعب هم الذين يتحملون مسؤولية ذلك. وكان سلوك كبار الساسة يوحي بأن الحكومة سوف تعامل مواطني الدولة بطريقة غير متساوية: حيث سيتلقى بعضهم الحماية التامة من قبل القانون، أما بعضهم الآخر فسوف يُحرم منها.توفر أحداث كوجارات مثالاً واضحاً على الأمور القبيحة التي يمكن أن تحدث عندما يبني حزب سياسي رئيسي أهدافه ومبادئه على أسس قومية دينية متضافرة مع أفكار التجانس والنقاء العرقي.
غاندي وتاريخ العلاقات بين الهندوس والمسلمين
في قراءة موضوعية وموثقة، لفكر المهاتما غاندي، ومواقفه من قضايا الإسلام ،و الأمة العربية، و لا سيما تاريخ العلاقات بين الهندوس و المسلمين،وتداعياتها المختلفة، التي أدت إلى ولادة جمهورية باكستان، يمكن التطرق إلى منابع وجذور التكوين الفكري لموهانداس غاندي، الذي ولدفي الثاني من أكتوبر /تشرين الأول 1869، في غرب الهند في مدينة بوربندر الساحلية، باعتبارها أحدى الموانىء أو منافذ التجارة ومراكز الاتصال بين الهند والدول العربية والسواحل الشرقية لقارة إفريقيا. فقد ولد غاندي وترعرع في أحضان أسرة هندوسية محافظة وملتزمة دينيًا،لكنها لم تكن متعصبة أو متزمتة.
وفي كتابه”قصتي مع تجاربي مع الحقيقة”، أشار غاندي إلى معتقدات طائفة برانامي التي كانت أمه تنتمي إليها ، قائلاً:” إنها تسعى لدمج أفضل ما في الهندوسية مع أفضل ما في الإسلام”. لقد كانت والدة غاندي أقرب وأعز الناس إليه، وكانت محط حبه وتقديره واحترامه، وكان يعتبرها مثله الأعلى والمحور الذي كان يدورحوله ،وقد رضع من ثديها مبادىء التوحيد والتسامح.
لقد أكدغاندي في مواقع ومناسبات مختلفة أنه مسلم بقدر ما هو هندوسي، فالبنسبة إليه إنّ الدين ليس في الطقوس الدينية بالدرجة الأولى، ولكن في العمل والأخلاق، أو كما يقال في عُرْفِ الإسلام “الدين هو المعاملة الحسنة “.وقال غاندي بالحرف الواحد:”ليس هناك أي شيء يمكن وصفه بالدين سوى المعاملة، إنني واثق بأن ّ الله لن يسألنا عن العلامة الدينية التي نحملها، ولكن سيسألنا عن عملنا، فالبنسبة إليه العمل هوكل شيء، والإيمان من غير عمل لا يساوي شيئًا،وإنّ العمل هو الإيمان”.وكان غاندي يؤمن بالتعددية الدينية، وقبول الآخر و احترامه، وكان ضد التبشير وضد محاولات نقل عقل البشر من دين إلى آخر.
لقد كان الكثير من المتطرفين الهندوس ، وما يزالون يعتقدون ، بل يؤمنون بأن غاندي كان أقرب إلى الإسلام و المسلمين منه إلى الهندوسية و الهندوس، بل يجزمون بأنه ضحى بمصالح ومكتسبات الهندوس لصالح المسلمين.وعندما قرر موهانداس غاندي السفر إلى بريطانيا لاستكمال دراسته ، وجد نفسه في صدام ومواجهة مباشرة مع المؤسسة الدينية للطائفة الهندوسية التي كان ينتمي إليها، فتوجه إلى مدينة بومباي في شهر أغسطس/آب 1888، في طريقه إلى لندن، لدراسة القانون،وهو متمسك بانتمائه وهويته الدينية الهندوسية،إلا أنه لم يكن ملتزما بأداء أي من الشعائر الدينية التي يتطلبها ذلك الانتماء.
في لندن قرأ غاندي أيضًا القرآن الكريم وسيرة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، وتأثر كثيرًا بشخصية الرسول التي أبرزها الفيلسوف و المؤرخ الأسكوتلندي توماس كارلايل، في كتابه المشهور”الأبطال وعبادة البطل”.وأرسى غاندي قراءته عن الإسلام والنبي محمد(ص) في لندن على إيمانه بضرورة الانفتاح و التقارب بين الهندوس والمسلمين.ورغم حصول غاندي على شهادة جامعية في القانون من لندن، لكنه فوجىء عند عودته إلى الهند، أن دراسته لم تؤهله كما يجب للعمل في ساحة القضاء في الهند،لأنه لم يكن ملما كفاية بقواعد القانون الهندوسي وأحكام الشريعة الإسلامية، فجاء خلاصه عن طريق شخص مسلم، عرض عليه العمل في مؤسسةهندية يملكها مسلمون تعمل في جنوب إفريقيا، كمستشار قانوني.فغادر الهند إلى جنوب إفريقيا في أبريل/نيسان 1893.
حزب الرابطة الإسلامية
رغم انشغاله بقضايا الجالية الهندية في جنوب إفريقيا،كان غاندي يتابع عن كثب نمو وتطور الحركة الوطنية في الهند، التي كانت تطالب بتحقيق حكم ذاتي، فكتب غاندي كُتيبًا بعنوان “الحكم الذاتي للهند”وقام بنشره في جريدة “الرأي الهندية. وبعد ذاك، بدا سقف تطلعات الشعب الهندي في الارتفاع ، وانتقلت المطالبة بالحكم الذاتي إلى المطالبة بالاستقلال.وفي هذا السياق، وفي العام 1905،كان حزب المؤتمر الوطني الهندي قد بدأ في مناقشة مستقبل الهند بعد تحقيق الاستقلال.وفي العام عينه، قامت الحكومة البريطانية بتقسيم إقليم البنغال إلى بنغال الشرقية ذات الأغلبية المسلمة، وبنغال الغربية ذات الأغلبيةالهندوسية، وقد أثارت تلك الخطوة مخاوف وشكوك الهندوس، ولكن المسلمين اعتبروها مؤشرًا وبادرة لتفهم البريطانيين للاختلافات والخلافات القائمة بين المسلمين والهندوس.
وفي السنة التالية، أي في العام 1906، بدأت مجموعة من زعماء وقادة المسلمين في الهند الشروع في إنشاء حزب إسلامي ينطق باسم مسلمي الهند ويدافع عن حقوقهم ويحقق الوحدة والتلاحم بينهم للتصدي للتحديات التي تواجههم، وعلى هذا الأساس، تأسس “حزب الرابطة الإسلامية Muslim League في شهر ديسمبر/ كانون الأول من العام نفسه. وفي العام 1913 انضم محمد علي جناح للحزب، عندما كان عضوًا ومن بين قادة حزب المؤتمر البارزين. وفي نهاية العام 1930م أصبح المفكر الإسلامي الأديب الشاعر محمد إقبال رئيساً للحزب، ونادى فور تسلمه رئاسة الحزب بوطن قومي مستقل للمسلمين في الهند، وقد أكد جواهر لال نهرو أن “إقبال كان من أوائل من دعا إلى تأسيس الباكستان”.
ومنذ تأسيسه وحتى عقد الثلاثينات من القرن الماضي ظل دور حزب الرابطة الإسلامي هامشياً على مسرح الأحداث التي شهدتها الهند في تلك الفترة، إلى أن ترسخت عند غالبية المسلمين فكرة “الباكستان” كوطن قومي مستقل لمسلمي الهند. وإبان الحرب العالمية الثانية برز دور الحزب حيث أصبح قوة الدفع الرئيسة لانفصال المسلمين وتقسيم الهند بينهم وبين الهندوس وتأسيس باكستان في العام 1947م.
جولة غاندي في الهند:
خلال العامين 1905 و 1906م شهد الحراك السياسي في الهند جملة من التطورات المفصلية المهمة، منها كما ذكرنا قيام الحكومة البريطانية بتقسيم إقليم البنغال.وعلى أساس تجربته الناجحة في تأسيس مشروعي مزرعة فيونيكس ومزرعة تولستوي في جنوب أفريقيا، شرع غاندي في تأسيس (أشرم ساتياغرا Satyagraha Ashram ، بالقرب من مدينة أحمد أباد في شهر مايو/ أيار من العام 1915م. والأشرم هو مُجَمَّع للإقامة والسكن المشترك يعتكف فيه عادة مجموعة متدينة من الهندوس يترأسهم عالم دين هندوسي Guru وكمؤسسة، فإن طبيعة أو دور “الأشرم” أقرب ما يكون إلى دور الخلوة الدينية أو التكية أو الزاوية أو الحوزة عند المسلمين.
وقد ضم مجمع “الستياغرا أشرم” أكثر من 25 فرداً من الرجال والنساء، إلا أن هذه التجربة تعثرت في البداية بسبب رفض الهندوس المنتمين للطبقات العليا الاختلاط بالمنبوذين من الهندوس.
عايش غاندي الحرب البريطانية ضد قبائل الزولو في جنوب إفريقيا عام1906، وكيف سحق البريطانيون قبائل الزولو،واستعمروا أراضيهم بالقوة،فتولدت عنده فكرة المقاومة السلمية، لا سيما أن غاندي لا يؤمن بالعنف في أي صورة من الصور،والحال هذه كانت المقاومة السلمية
violent Resistance” – Non” هي السبيل الأفضل والوحيد بالنسبة إليه.
بداية شكوك ومخاوف المسلمين من غاندي
وفي سياق منهج وهدف هذا البحث يبرز، عند هذا المنعطف، سؤال مهم، وهو: كيف ولماذا قرر غاندي إضفاء الصبغة والهوية والطابع الديني الهندوسي على أولى خطواته، وأول مركز من مراكز انطلاقه السياسي؟ وهل أدى ذلك إلى بذر بذور المخاوف والشكوك من جانب المسلمين الهنود في نواياه الحقيقية؟ إلى جانب ذلك فإنّ حساسيته الدينية الهندوسية الواضحة، والتصاقه منذ البداية بكبار رجال الدين والنساك والرهبان الهندوس، وتدشينه لحراكه السياسي في الهند بالحج والتطواف والتنقل بين المعابد والأماكن المقدسة والتكيات الهندوسية، بالإضافة إلى تكرار تأكيده على أن إستراتيجية العصيان المدني واللاّعنف مرتكزة بثبات على مبدأ ” أهمسا Ahimsa” ، وهو من أبرز مبادئ أو قيم الديانة الهندوسية، كل ذلك أدى إلى تفريخ المخاوف والشكوك لدى المسلمين بأن مشروع غاندي يتجه، بوضوح، نحو ترسيخ وتثبيت وهيمنة الهوية الهندوسية الدينية للهند. مناوئو غاندي ومنتقدوه من المفكرين المسلمين في الهند يؤكدون أنه كان يتأبط أجندة هندوسية، ويرون أنه كان مسؤولاً عن تديين السياسة أو تسييس الدين.
الخلاف والاختلاف بين المسلمين والهندوس:
“حركة الخلافة” الإسلامية.. نقطة الالتقاء وبداية الافتراق
اندلعت “حركة الخلافة Khilafat Movement في العام 1919م نتيجة لقلق المسلمين في الهند ومخاوفهم من دسائس الدول الأجنبية وأطماعها في ديار المسلمين، وجاءت كردة فعل لإعلان بريطانيا عن وقوفها إلى جانب الثوار الجمهوريين الأتراك، الذين كانوا يسعون إلى الإطاحة بالسلطان العثماني، وتغيير نظام الحكم في تركيا. وقد ترأس مولانا محمد علي جوهر وفداً من وجهاء الهند المسلمين، توجه إلى بريطانيا في العام 1919م لإقناع الحكومة البريطانية بالتأثير والضغط على القائد التركي الصاعد مصطفى كمال، لكي لا يخلع السلطان العثماني، إلا أن البريطانيين رفضوا ذلك.
عاد مولانا محمد علي جوهر والوفد المرافق له إلى الهند حانقين، وفور وصوله، بادر هو وأخوه شوكت علي، بالإضافة إلى مولانا أبو الكلام آزاد وعدد من علماء وقادة المسلمين في الهند، إلى تأسيس منظمة باسم “حركة الخلافة” للقيام بجملة من الفعاليات والأنشطة والإضرابات ، ومقاطعة الحكومة، والاحتجاج على مواقف الحكومة البريطانية تجاه الوضع في تركيا، والسعي لحماية الخلافة، والتصدي لخطط مصطفى كمال في تركيا الهادفة إلى فصل الخلافة عن الحكم، وقد حدد مؤسسو هذه الحركة هدفين أساسيين لهم، الأول: ضمان احتفاظ سلطان تركيا، بوصفه خليفة، بسلطاته الدنيوية، والثاني: تأكيد استمرار سيادته على الأماكن الإسلامية المقدسة.
كان معظم المسلمين يعتبرون السلاطين العثمانيين خلفاء الرسول في الأرض ورؤوس الأمة الإسلامية، وكان المسلمون في الهند بشكل خاص ينظرون إلى سلاطين الدولة العثمانية كآخر سد في وجه زحف الإمبريالية الغربية، وآخر رمز لقوة المسلمين، بعد أن تمت الإطاحة بملوك الإمبراطورية المغولية الإسلامية في الهند في العام 1858م.وقد نشر مولانا أبو الكلام آزاد، في العام 1920م كتاباً بعنوان؛ مسألة الخلافة، جاء فيه : “بدون الخلافة لا يمكن وجود الإسلام، ويجب أن تُوجَه كل جهود المسلمين في الهند من أجل هذا الهدف”.
وفي كلمة ألقاها مولانا محمد علي، في باريس، العام 1920م، قال: “تعتبر الخلافة أكثر مؤسسة ضرورية للأمة الإسلامية في العالم، والأغلبية الساحقة من المسلمين في العالم يعترفون بسلطان تركيا كأمير للمؤمنين وكوريث لخليفة نبيهم. وكجزء جوهري من هذا المعتقد أن يكون للخليفة، أمير المؤمنين، أقاليم كافية وقدرات عسكرية وبحرية مناسبة وموارد مالية ملائمة”.وقال في موقع آخر: “كان حاكم تركيا هو الخليفة، وخليفة النبي وأمير المؤمنين، ومن الضروري أن تكون الخلافة همنا الديني، شأنها شأن القرآن وسنة النبي”.
وقد نشرت صحيفة “الرفيق Comrade في عددها الصادر في دلهي بتاريخ 2 نوفمبر/تشرين الثاني1921م، خطاباً وردها من محمد عاصف، وهو ناشط سياسي بارز؛ شدد فيه على أهمية الواجب الشرعي في وجود الخلافة، وجاء فيه: “هيبة تركيا تتطابق مع هيبة الإسلام، ووجود الدولة العثمانية ضروري للتقدم.وقد دُعيّ غاندي للمشاركة في مؤتمر دلهي حول “حركة الخلافة”، الذي عقد في شهر أكتوبر /تشرين الأول 1919م. كما تم انتخابه لرئاسة الاجتماع الذي عقد لـ “مؤتمر الخلافة” بتاريخ 24 نوفمبر/ تشرين الثاني من العام نفسه.
حين تسلّم غاندي قيادة “حركة الخلافة” التي تأسست بعد سقوط الخلافة العثمانية ، ونجح في صهر الهندوس والمسلمين حول هدف واحد، مؤكداً بقوة وحزم ضرورة الالتزام بمبدأ اللاعنف، وأن يكون الحراك سلمياً خالصاً.وبلغ غاندي، في تلك الفترة، أوج لمعانه وقمة تألقه، فبالإضافة إلى الهندوس، كان غاندي وقتها يقود مسلمي الهند أيضاً، أي أنه كان يتمتع بثقة ثلث المسلمين في العالم لمواجهة البريطانيين ومنعهم من السيطرة على الأماكن المقدسة للمسلمين والقضاء على سلطانهم ورمزهم الروحي.وبذلك فقد أصبح غاندي بين العامين 1919م و 1922م، أول قائد غير مسلم لحركة جهاد إسلامية سلمية، وقد قبل قادة المسلمين وعلماؤهم قيادة غاندي لحركتهم.
ومن المفارقات الصارخة الجديرة بالذكر هنا، أن محمد علي جناح، في تلك المرحلة، كان قد نصح غاندي وحذره من مغبة خلط الدين بالسياسة وإقحام رجال الدين المتشددين في العمل السياسي، بجانب أن محمد علي جناح، أثبت في تلك المرحلة، كما سنرى فيما بعد أنه كان أكثر إدراكاً واستيعاباً للحالة الإسلامية في الهند ولأبعاد تطورات ونتائج الحرب العالمية الأولى، والوضع في تركيا، ومصير ” حركة الخلافة”، التي لم ينسق وراء شعاراتها. وفي ظل الظروف والمعطيات التي أفرزتها الحرب فقد تفهم محمد علي جناح رغبة وتوجه الشعب والجيش في تركيا والدور الذي اضطلع به كمال أتاتورك والمكانة التي تبوأها.
لم يتفق محمد علي جناح كذلك مع أسلوب غاندي في إثارة الجماهير وتحريكها والزج بها في الشوارع، ضمن برامج المقاطعة للبريطانيين وعدم التعاون معهم في إطار فعاليات “حركة الخلافة”، ومع أن جناح كان يرفض أسلوب تعامل الغرب مع تركيا، إلا أنه كان قلقاً من أسلوب تحريك الجماهير الذي يتبعه غاندي، حيث إن جناح كان يفضل الأساليب الدستورية والحوارات المباشرة شرائح واسعة من الصف الإسلامي في الهند، تلك المواجهة التي أفضت إلى الافتراق عنه، مما أدى بالنتيجة إلى تغذية شرايين وتيارات الانفصال، وإلى تمسك غالبية المسلمين بالهوية الإسلامية وتمترسهم وراءها.
تعبئة هواجس ومخاوف المسلمين:
لقد شعر الكثير من المسلمين في الهند بالخطر من تسلط الأغلبية الهندوسية عليهم، والإمعان في تهميشهم بعد انسحاب البريطانيين. وسكنهم الخوف من أن يصبحوا أقلية فاقدة للكثير من مقومات البقاء والنمو، بعد ما تعرضوا له من حصار وإقصاء لعقود طويلة على يد المستعمرين البريطانيين، الذين انتزعوا منهم السلطة والجاه عندما قضوا على الدولة المغولية وعلى نظام الحكم الإسلامي في الهند.
لقد انتاب المسلمون في الهند القلق على قدرتهم، كأقلية منهكة، على صون هويتهم وعقيدتهم والحفاظ على وجودهم.فشعروا بأنّ لهم خصوصية تحتاج إلى مساحة خاصة بها، وإلى فاصل جغرافي وسور سياسي يحميها وإلى قلعة يحتمون بها. خليط من الأحاسيس بالخوف والضعف وعدم الأمان وانعدام الثقة بالهندوس تحولت إلى منظومة من الهواجس والمخاوف والعقد يصعب تجاوزها، فتأصل الشعور بالحاجة إلى وطن يؤويهم، يعيشون فيه بأمان، يحميهم ويحي دينهم وهويتهم. وقد امتزجت هذه الأحاسيس بآلام الحسرة والهوان بعد انهيار إمبراطوريتهم المغولية المسلمة والقضاء على الحكم الإسلامي فيها.
لقد ظل وجدانهم متشبثاً ومتعلقاً بذكريات المجد المغولي الإسلامي التي كانت الذاكرة تختزنها، والتي ظلت محبوسة مكبوتة إلى أن تهيأت الظروف والمستجدات الملائمة لتحريكها وإيقاظ الأمل في استعادة، ولو جزء من المجد والجاه الضائعين، ولو على بقعة أصغر من الأرض، وليس القبول بالبقاء كأقلية ضمن معادلة غير متوازنة أو شراكة غير متكافئة محفوفة بالمخاطر والمجازفات والمحاذير. إنّ للمسلمين الهنود تاريخاً يضرب في أعماق الوجود في الهند، وحكمِّا إسلامياً يمتد لأكثر من ألف عام أرسى قواعده محمد بن القاسم، الذي غزا الهند تنزلق الأمور إلى هذا المستوى من الحدة والضراوة.
لقد قاوم غاندي فكرة التقسيم، لكنه في نهاية المطاف اضطر إلى الموافقة عليها، عندما وصل الوضع إلى حد اللاعودة، وقَبِل بتقسيم الهند بين الهندوس والمسلمين تفادياً لمزيد من إراقة الدماء ومزيد من الاقتتال وإزهاق الأرواح وهتك الأعراض بين أبناء الوطن الواحد، وتجنباً لإتلاف وتدمير مزيد من الممتلكات والأواصر والقيم.
كان غاندي يعمل لصالح الهند كوطن ولصالح الهنود كشعب، ولم يكن يعمل ضد أي طرف، أو ينحاز للهندوس أو للمسلمين، ولذلك كرهه المتعصبون والمتشددون من الطرفين.فالمتعصبون والمتشددون الهندوس، بشكل خاص، استشاطوا غضباً من تراجع غاندي وقبوله بالتقسيم، واعتبروا ذلك غدراً وخيانة لهم وتفريطاً في حقوقهم وتضحية بمصالحهم وروضخاً وانصياعاً لمطالب المسلمين وضغوطهم. كما رأوا أن موافقته على التقسيم كانت خطوة هدف من ورائها كسب ود الأقلية المسلمة وإرضائها على حساب مصالح الأكثرية الهندوسية.
وكلما ارتفعت أصوات الغاضبين على غاندي، وكلما تصاعدت أعمال العنف بين الهندوس والمسلمين، ارتفع وتصاعد معها حجم الأخطار التي تحيق بغاندي وتهدد حياته، بما في ذلك احتمال الاعتداء عليه واغتياله.
وعلى الرغم من محاولة فاشلة لاغتياله، ومن تحذيرات الكثيرين من المقربين إليه بضرورة اتخاذ الحيطة والحذر وتقليص مساحة اختلاطه بالناس وتعزيز حراسته وحمايته أثناء تحركاته وتنقلاته، إلا أن غاندي، في تلك الفترة المصيرية الحرجة من تاريخ بلاده÷ رفض أن يسمح للخوف على حياته بتقييد وعرقلة جهوده ومحاولاته لوقف نزيف الدم بين الهندوس والمسلمين وتحقيق السلام والتعايش فيما بينهم.
اغتيال غاندي
كحال أبطال الملاحم الإغريقية، ومثل كل العظماء في التاريخ، أو مثل الغالبية الكبرى منهم على أقل تقدير، فقد كانت نهاية المهاتما غاندي نهاية تراجيدية مأساوية، وهي نهاية تضفي دائماً على ضحاياها هالة من الإكبار والإجلال والتبجيل، أكثر مما تدر عليهم من المواساة ومن مشاعر العطف والشفقة.
كانت مواقف غاندي المساندة للحقوق المشروعة للأقلية المسلمة في الهند قد أغضبت الفئات الهندوسية المتعصبة والمتطرفة، وكان آخر مثال على ذلك إصرار غاندي، كما رأينا، وتهديده بالإضراب عن الطعام، ومطالبته الحكومة الهندية بالتسديد الفوري لحصة باكستان من الأصول العامة التي كانت تملكها الهند الموحدة، وعليه فقد تم التسديد الكامل في شهر يناير/ كانون الثاني 1948م، وبعدها بأيام اجتمعت إرادة الشرّ لدى مجموعة من المتعصبين الهندوس على التخلص من غاندي واغتياله، ولتنفيذ هذه المهمة اختاروا من بينهم شخصاً اسمه ناتورام غودسه Nathuram Godse الذي كان يعتقد بأن غاندي كان يؤيد ويساند المسلمين على حساب الهندوس ومصالحهم. لقد شاءت الإرادة الإلهية ألا يكون قاتل غاندي مسلماً، وإلا لاشتعلت حرب أهلية أكثر ضراوة وقسوة بين الهندوس والمسلمين.
ميلاد باكستان
في البداية كانت باكستان مفهوماً. فالبلد ولد من حلم شاعر هندي، محمد إقبال. وقد رأت باكستان النور في آب 1947، بوساطة الأب المؤسس محمد علي جناح في فترة التقسيم الدامي لامبراطورية الهند. ومن دون شك، هل يمكن رؤية في الأصول المؤلمة لهذا البلد، صعوبته الاونطولوجية لبناء هويته؟ وأبعد من علة وجودها الجلية كأمة تضم مسلمي الهند، فإنه في الواقع بنيت باكستان بالنسبة إلى جارتها وشقيقتها اللدودة الهند. إذ انها بدلالة هذه الأخيرة يتحقق الوجود المعين لباكستان. لا سيما أن الهند ما زالت إلى حد الآن لم تهضم عملية تقسيمها، وتعتبر وجود باكستان اصنطاعياً، وان شعوبها المتكونة من الباشتون، والبنجابيين، والسنديين، والبلوتش، والمهاجرين (من المسلمين الهنود الذين جاءوا من الهند بعد الاستقلال)، لم يجتمعوا كلياً وأبداً حول مشروع مشترك أبعد من رباط الاسلام.
وقد طبع التاريخ الداخلي لهذه الأمة الفتية بالعديد من القفزات السياسية الفجائية، فكان اغتيال رئيس الحكومة ليافت علي خان في عام 1951، وحصول اول انقلاب عسكري من قبل الجنرال يعقوب خان في عام 1958، وإعلان الأحكام الفرعية من جانب خليفته الجنرال يحيى خان. وفي بداية السبعينات انفصلت بنغلادش (باكستان الشرقية) بعد حملة واسعة من القمع ضد الاستقلاليين. وصعد بعدها نجم ذو الفقار علي بوتو في فضاء السياسة الباكستانية، الذي قام بالإصلاح الزراعي، وأطلق العنان للبرنامج النووي الباكستاني، غير أن نهايته كانت الإعدام بعد سنتين من عودة الجيش من جديد إلى السلطة في الانقلاب الذي قاده الجنرال ضياء الحق في تموز 1977. ولأول مرة في تاريخها وضع ضياء الحق باكستان في مصاف الأمم الحديثة، وقادها على طريق الاسلمة الراديكالية، وانتهت مرحلته بموته في حادث طائرة غامض إلى حد الآن في آب 1988. وبموت ضياء الحق طوت باكستان صفحة الديكتاتورية العسكرية، وعادت الديموقراطية من جديد على يد بنازير بوتو التي تناوبت على رئاسة الحكومة مرتين مع خصمها اللدود نواز شريف. وبدلاً من أن يرسى الحكم المدني أسس التنمية الحقيقي، عمقت الديموقراطية الأزمة السياسية في البلد يوماً بعد يوم، وانتشر الفساد والرشوة في قمة هرم السلطة، وازداد الصراع الطائفي حدة بين الاقلية الشيعية والمسلمين السنة، وانعدم الأمن في كبريات المدن الباكستانية.
خاتمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة:
يُعتبر الدين ركيزة أساسيّة ومُهمّة في الجمهورية الهندية التي تتمتع بتنوع وتعايش ديني، حيث يُؤدي كل أتباع المذاهب والديانات شعائرهم الديانية بكل حُرية، وبالرغم من تعدد الأديان الموجودة في الهند إلا أنّ الدستور الهندي نصّ على أنها جمهوريّة علمانيّة.
ويبلغ عدد سكان الهند 1400مليون نسمة،منهم حوالي 200 مليون مسلم. ويبلغ عدد سكان باكستان حوالي 193مليون نسمة،أما سكان بنغلاديش فيصل عددهم إلى 162 مليون نسمة.فإذا قمنا بعملية حسابية لتعداد السكان المسلمين في شبه القارة الهندية، فإنّ عددهم يصل إلى حوالي 555مليون نسمة،أي تقريبا أقل بقليل من نصف عدد سكان الهند الحالي ، ما يؤكد التحليل الذي يقول أن السكان المسلمين لو ظلوا متوحدين في الدولة الهندية منذ استقلالها وليومنا هذا، كان تأثيرهم في السياسة الهندية سيكون أكبر، من انقسامهم إلى ثلاث دول.