“المجــــد” تعبر برزخاً بين قرنين، وتسافر في دنيا الكلمة المُلتزمة طوال 28 عاماً
بقلم: فهــد الريمــاوي
يطيب لنا ان نستحضر “الفعل الماضي”، ونستذكر التاريخ القريب، ونحن نهنئ “المجد” بعيد ميلادها الثامن والعشرين، حيث خرجت الى الوجود يوم ١٩٩٤/٤/١١ للنهوض بالواجب الوطني والقومي والتقدمي، وإنعاش الحالة الشعبية العربية المثقلة بالاحباط، وإعادة الاعتبار لثوابت هذه الامة واهدافها الاستراتيجية في الوحدة والحرية والاشتراكية وتحرير الاجزاء السليبة.
من رومانسية الاماني والآمال الكبيرة، ومن إشراقات الحاسة السادسة الشغوفة بالاستطلاع، ومن انفاس فصل الربيع الباسم الفواح، ومن تفتح نُوار وازهار واقحوان شهر نيسان، تفتحت صفحات “المجد” الغراء لتشكل منبراً قومياً لكل احرار العرب، ورافعة جادة وملتزمة ومؤهلة للاسهام في تجديد ثقة الامة بنفسها، ومعاودة حمل الرسالة العربية المحمدية الخالدة.
ولكي يتكافأ التفكير مع التعبير، وينسجم خط المسير مع مكنون الضمير، ويتوافق الهدف مع وسيلة تحقيقه، ويتلاءم الموقف مع شجاعة الجهر به، فقد حرصت “المجد” – ما امكنها ذلك – على مصداقية اخبارها، ورشاقة إخراجها، وعمق تحليلاتها، ورِفعة خطابها، وسلامة لغتها، وسلاسة عباراتها، وبلاغة كتاباتها ومقالاتها التي أبدعتها أقلام عشرات الرموز والقيادات والشخصيات الوازنة والمعبرة عن مختلف الوان الطيف السياسي والايدلوجي العربي.. يسارياً وقومياً وإسلامياً.
يوم إنبعاث هذه المطبوعة الكادحة والمكافحة، كانت طموحاتنا تتجاوز إمكاناتنا بما لا يُقاس، وكانت التحديات الماثلة أمامنا تتطلب إجتراح المعجزات، وكانت الاجواء العربية ملبدة ومشحونة باخطر الازمات، بدءاً بانهيار الاتحاد السوفياتي وتفرد الشيطان الامريكي، ومروراً بضرب العراق لاخراجه من الكويت، وعقد مؤتمر مدريد الملغوم، وليس إنتهاءً باتفاق اوسلو الاستسلامي، وإرهاصات معاهدة وادي عربة المشؤومة التي تم إبرامها فعلاً بعد بضعة أشهرٍ من صدور “المجد”.
غير ان حماسنا للنضال بالكلمة كان في أوجه، وإخلاصنا لاجندتنا القومية الوحدوية كان فوق الوصف، وإصرارنا على حق المعارضة السياسية كان باسلاً وعنيداً وعابراً للمصاعب والعقبات والعقوبات التي تعددت كثيراً جداً، وتنوعت ما بين سجن رئيس التحرير غير مرة، وجرجرته في المحاكم والدوائر الامنية لعدة اعوام، ووقف طباعة الجريدة مراراً وتكراراً، وسحب إمتياز إصدارها بغير سند قانوني، ومنع توزيع الكثير من أعدادها داخل البلاد وتصديرها الى الاقطار العربية.. الخ.. الخ.
لكن فريضة الصبر، وفضيلة الصمود، وقوة الارادة والعزيمة أزالت من درب هذة المطبوعة رهط أعدائها الظالمين الذين ردّهم الله أسفل سافلين، وأتاح لها البقاء على قيد الصدور والحضور، الى حد أنها قد عبرت برزخ ما بين القرنين العشرين والحادي والعشرين، واكملت اليوم من أرقام العمر الصعب ثمانية وعشرين عاماً.
في البداية انتسبت “المجدً” الى العائلة الورقية، وانطلقت كمطبوعة اسبوعية ترفع باعتزاز راية القومية العربية بمفهومها الناصري، وتعارض بشجاعة حكام الفساد والإستبداد والإستسلام في الاردن وفلسطين خاصة وباقي الاقطار العربية عموماً، وقد أسعفتها الاقدار وقوة المجالدة والاصرار لتعمّر ٢٢ عاماً مُكعباً، وتحظى بشعبية ومكانة وأهمية ومساحة تأثير، نترك للمنصفين من مؤرخي الصحافة العربية تقديرها والحكم عليها.
لكن دوام حال من المُحال.. فقد سحب العصر الراهن دعائمه ومرتكزاته من تحت سقف الصحافة الورقية عامة، واطلق العنان للثورة الالكترونية والشبكة العنكبوتية والسوشيال ميديا، التي انجبت سُلالة جديدة من ادوات التواصل والتراسل والنشر والتعبير المنزوعة الدسم، امثال الفيسبوك والتويتر والواطس والمدونات والمواقع الاعلامية التي قد تُشبه الصحافة او تتشبه بها مظهرياً، ولكنها بعيدة عنها كل البعد من حيث الجوهر والجدوى والمضمون.
عندي، أن الصحافة منارة في عمارة قوامها حبر وورق ومطبعة، فالحبر في الصحافة عطر، والورق سجادة صلاة، والمطبعة مدفع من العيار الثقيل يطلق قذائف تنوير تضم أخباراً وأفكاراً وأشعاراً تلبي حاجات وتطلعات القراء المعرفية والثقافية، وتحدد لكل صحيفة هويتها وشخصيتها ورسالتها وتَميزِها عن غيرها، وتشكل همزة وصل ووشيجة إرتباط بينها وبين جمهورها.. وما عدا ذلك ليس أكثر من نثريات إعلامية، وخواطر وشطحات وتعليقات إنشائية، ناهيك عن المنشورات الدعائية والاعلانية، والاخبار المضللِة والشائعات المُغرضة والمفبركة التي تغذيها أسراب “الذباب الالكتروني” لإفساد المزاج والذهنية والذائقة الشعبية العربية.. والعياذ بالله.
تحت ضغط الإجبار ومكبس الإضطرار، خلعت “المجد” ثوبها الورقي المحتشم، وإرتدت ملابس الكترونية ليست على مقاسها ولا تتلاءم مع روحها وسَمتها ورزانتها.. ولكن للضرورة أحكام، وليس في الإمكان ابدع مما كان، فإما الغياب والإحتجاب، وإما مُعايشة الواقع والتغاضي عن نصف الكوب الفارغ والاكتفاء بالنصف الملآن، الى ان يقضي الله أمراً كان مفعولاً.