ما هو الخطر الروسي؟
بقلم: د. موسى الحمداني/ لندن
من عشرات السنين و الدعاية الغربية تصور لنا و كأن و جود روسيا خطر على السلام العالمي. حتى في ثقافتهم و ادبياتهم كثيراً ما يخرج تعبير عفوي مثل: ماذا لو هاجمنا الروس؟ و كأن من طبع الروس الاعتداء على الآخرين أو اغتصاب أراضيهم أو استعمارهم. بناءً على التجارب التاريخية فإنه أجدر بالدول الغربية أن تتخوف من بعضها، فبريطانيا مثلاً دخلت حروباً طاحنة مع المانيا و فرنسا و يكون مفهوماً أن تتقي شرهما. و قد حاول الغرب فرض تصوره الغريب عن روسيا على الشعوب الأخرى خاصة الشعوب العربية. كل تلك الأحلاف التي فُرضت على منطقتنا مثل الحلف المركزي و الحلف الإسلامي كانت تُسَوَّق لنا على أنها لحمايتنا من الخطر الروسي، و الغريب أنه كان بين حكامنا من انطلت عليهم تلك الفرضية أو تظاهر بالإقتناع مجاملة لأميريكا! و كان علينا أن ننتظر حتى يأتي جمال عبدالناصر ليرفض أحلافهم و يقول لهم بوضوح ”إن الخطر على أمتنا يأتي من إسرائيل و ليس من روسيا“.
الخطر على السلام العالمي يأتي من الدول الغربية مثل أميريكا و بريطانيا و فرنسا و المانيا، فهذه الدول فيما بينها اعتدت على كل دول العالم تقريباً كما انه اعتدى بعضها على بعض في حروب طاحنة تسببت في عشرات الملايين من الضحايا. العالم العربي بالذات له تجارب مريرة مع الغرب الذين احتلوا بلادنا و استعمروها و اضطهدونا و نهبوا ثرواتنا و لا يزالون يعيثون فيها فساداً. و لن ننسى أن سايكس بيكو كانت مؤامرة غربية و كذلك كان وعد بلفور و أن قيام إسرائيل تم بإرادة الغرب الذي لا يزال يساعدها و يباركها إلى الآن.
روسيا ليست خطراً على أحد إلا على من يعتدي عليها. لا توجد في آسيا أو افريقيا أو آمريكا اللاتينية دولة واحدة تعرضت لهجوم روسي و لا يوجد أي شعب في تلك القارات يعيش حالة خوف من اعتداء روسي. و ليتنا نستطيع أن نقول نفس الشيء عن أميريكا! و روسيا لم تعتدِ على الدول الغربية بل كانت ضحية لاعتداءات أوروبية متكررة كانت الأكثر دموية في تاريخ البشرية و معها كل الحق لأن تكون أكثر دولة في العالم حساسية تجاه أمنها القومي.
اعتدت السويد (نعم، حتى السويد فعلتها) على روسيا في القرن الثامن عشر و هُزمت هزيمة شنيعة و هرب ملكها من البلاد و انتهت أحلامهم بأن تصبح السويد دولة كبرى. . ثم اعتدت فرنسا في القرن التاسع عشر عندما قاد نابليون ما سُمِّي ”الجيش الأعظم“ لضخامته لكنه هُزم شر هزيمة و أبيد أكثر من ٩٠٪ من جنوده و أصبح لقمة سائغة لأنداده الانجليز الذين قبضوا عليه حتى مات. ثم اعتدت المانيا النازية اعتدائها المشهور في القرن العشرين و الذي نتج عنه إبادة المانيا النازية تماماً و نهايتها كدولة كبرى.
فلماذا تُقلب الحقائق و يصبح الضحية مجرماً؟ هل تكذب الإدارة الأميركية أم أنها تهذي؟ الحقيقة أنها تكذب و تهذي و تحلم بعالم يخضع لها تمام الخضوع. في الحلم الاميريكي لا يوجد مكان لدولة قوية مستقلة مثل روسيا أو الصين لكن يوجد أماكن لبريطانيا و فرنسا لأنهما تدوران في فلكها و تخضعان لها.من و جهة النظر الاميريكية يكمن ”الخطر الروسي“ في مجرد وجود روسيا لأن وجودها يسبب قلقاً لأميريكا، و الحل (في رأي أميريكا) هو إزالة روسيا كدولة قوية مستقلة! هذا المنطق الغريب في علاقة أميريكا مع غيرها تعرض له جمال عبد الناصر في خطابه سنة ١٩٥٦ عندما قال: ان المشكلة بالنسبة لأميريكا ”انه احنا فلتنا“ أي خرجنا من قبضتهم. أميريكا لا تطيق وجود دول خارج قبضتها، حتى لو كانت بريئة!
أما بالنسبة لنا كعرب فأنا أعتقد أنه من التخريف و الإسراف في الجنون أن يعتقد بعضنا أن الخطر علينا يأتي من روسيا و نتناسى أن الغرب احتل كل بلادنا و لا يزال يتحكم بدولنا و مصادرنا و قراراتنا و أنه غرز في قلب وطننا خنجراً مسموماً اسمه إسرائيل التي لا وظيفة لها سوى الاعتداء علينا و تشريدنا و الفتك بأطفالنا و نسائنا، و إن لزم، إبادتنا بترساناتها النووية الضخمة و الموجهه لتستهدف كل المدن العربية. روسيا كانت قوةً أساسية اعتمد عليها أحرار و ثوار العالم و سنداً لتطور شعوب العالم الثالث. و هل ننسى أنها فتحت جامعاتها لتعليم شباب العالم الثالث بالمجان؟ فلا ينسى الأردنيون و الفلسطينيون أن جيلاً منهم تعالج على يد أطباء تخرجوا من روسيا. و كذلك لا ينسى العراقيون و لا السوريون و لا السودانيون و لا سائر العرب. روسيا خصصت إحدى أهم جامعاتها لتعليم فقراء العالم الثالث و أطلقت عليها آسم باتريس لومومبا – أحد رموز النضال الأفريقي. يا ترى كم من ابناء فقرائنا احتضنتهم اميريكا (التي قتلت لومومبا) و فتحت لهم جامعاتها؟
إلّا أن اندلاع الحرب الأوكرانية كشف عن جانب قبيح من وجه الغرب لم نكن نراه بوضوح. كان يبدوا لنا في السنين الاخيرة و كأن الغرب بدأ يتخلص من تاريخه العنصري المخزي فانكشفت الحقيقة و ظهر أن عنصريتهم لا زالت متأصلة فيهم. في بريطانيا مثلاً فتح عشرات الآلاف بيوتهم لاستقبال المهاجرين الأوكرانيين، قارن ذلك بالاحتجاجات الكثيرة لوقف الهجرة من دول الشرق الأوسط المنكوبة و التي كان الغرب سببا رئيسياً في نكبتها. كما أن الحرب كشفت عن كراهيتهم الدفينة تجاه الروس و التي كان يُفترض أنه تم اجتثاثها من جذورها لكن الواقع يقول غير ذلك. النظرة العنصرية المريضة تجاه الروس قديمة، فمن المعروف ان تعليمات هتلر لجنوده عندما غزا روسيا أن يتعاملوا مع الروس بقسوة و شدة، و طلب من جنرالاته أن لا يقبلوا استسلام موسكو إلا بعد تدميرها. مثل تلك الوحشية لم يمارسها الألمان في فرنسا مثلاً. و لم يكن هتلر بحاجة لتفسير سبب تعليماته لجنوده، فقد كانوا يشاركونه نفس النظرة العنصرية. أكثرية الروس ينتمون الى ما يسمى بالشعوب ”السلافية“ و هي كلمة مأخوذة من كلمة “slave” و التي تعني العبد. الأوروبيون الغربيون يعتبرون أن الحضارة و التقدم و الثراء حكر عليهم و لا تليق إلا بهم. فنظرتهم للروس فيها استعلاء و عجرفة تذكرنا بعجرفة و أنانية ”أبن الباشا“ و استعلائه على أبناء الفلاحين البسطاء و اعتقاده انه لا يليق بهم سوى الفقر و التأخر، أو بكلمات أخرى يعتبرونهم ”اولاد عويس“ الذين ذُكروا في الفيلم المعروف ناصر ٥٦. و لكن شاءت الأقدار أن يُثبت ”أولاد عويس“ في الحرب العالمية الثانية أنهم أكثر رجولة من ابناء الباشا و أشد بأساً و لا يقلون عنهم علماً و تقدماً، كما سنرى.
معظم الناس يتخيل أن الحرب العالمية الثانية كانت عبارة عن ستة أعوام من المعارك الطاحنة بين بريطانيا (ثم أميريكا عندما دخلت الحرب) و المانيا. أنا شخصياً كنت أعتقد ذلك لكن الحقيقة أن الحرب كانت في معظمها حرباً بين المانيا و روسيا و أن دور بقية دول الحلفاء كان دوراً مساعداً. و قد كشفت تلك الحرب عن جوهر و معادن الشعوب، فالمعارك التي اندلعت بين المانيا و دول غرب أوروبا كانت خاطفة و انتهت بعد بضعة اسابيع باستسلام كل تلك الدول، احياناً من غير قتال. طيلة السنوات الستة التي استغرقتها الحرب كان الوضع مستتباً في تلك الدول و كان الجنود الألمان يتنزهون فيها و يقضون إجازاتهم . أما الحرب الحقيقية و القتال الضاري فقد كان في الشرق بين روسيا و المانيا. كان الجيش الالماني أقوى الجيوش بلا منازع و أكثرها كفاءةً و أحسنها تدريباً و تسليحاً و كان ٩٠٪ منه يحارب في الشرق (الجبهة الروسية). بعد انتصاراتهم الباهرة في الأشهر الأولى من الحرب فوجىء الألمان بأن الروس يحاربون باستماتة و يوقعون بهم خسائر فادحة. من المعروف الآن أن من كل عشرة جنود فقدتهم المانيا تسعة قُتِلوا في الجبهة الروسية. قاتل الروس ببسالة و حققوا نصراً بعد نصر و تعقبوا المعتدين حتى وصلت جيوشهم إلى برلين و رفعوا أعلامهم على معقل الرايخ الثالث. كان يوماً حافلاً مشهوداً و انتصاراً كبيراً لا مثيل له في التاريخ لكنه لم يأت رخيصاً بل سقط في سبيله الملايين من الضحايا. أثناء القتال الضاري و نزيف الدماء رفض تشرشل عدة مرات طلبات ستالين (و كانوا حلفاء حينئذ) بأن يفتح جبهة في الغرب للتخفيف عن الجبهة الشرقية. كانت بريطانيا الدولة الوحيدة التي لم تستسلم لهتلر لكنها لم تتقابل مع المانيا في معارك دبابات على النطاق الذي كان يجري في الجبهة الروسية. معركة العلمين كانت في مصر و كانت شيئاً لا يذكر قياساً لما كان يجري في الجبهة الروسية، و لولا تورط الالمان في القتال في روسيا لما هٌزموا في العلمين. أما إنزال الحلفاء في نورماندي و ما تلاه من تقدم دباباتهم باتجاه المانيا في أيام الحرب الأخيرة فقد كان بعد أن فقد الجيش الالماني قدراته القتالية تماماً و لا يقوى على الوقوف. بلغت خسائر بريطانيا في الحرب ٤٠٠ الف قتيل، قارن ذلك ب ٢٧ مليون في الجبهة الروسية! في ستالينغراد مثلاً كان متوسط بقاء الجندي على قيد الحياة بعد وصوله للجبهه ٢٤ ساعة فقط!
ذلك الاستبسال و التضحية في روسيا كان يتناقض مع الانهيار السريع لدول اوروبا الغربية. و مع ذلك فلم يحاول ستالين و لا الإعلام الروسي الاستفادة من هذا التناقض و لو بتلميح سريع. كان على الغرب أن يتقبل على مضض الحقيقة و هي أن الروس نجحوا فيما هم فشلوا فيه. لكن هذا لم يمنعهم من أن يحاولوا فيما بعد التقليل من انتصار الروس بترويج أكذوبة أن الألمان هُزموا بسبب قسوة الطقس! و كأن الطقس كان قاسياً في خنادق الالمان و لطيفاً دافئاً في خنادق الروس!
مع أن الاتحاد السوفياتي أصبح قوة عظمى بعد الحرب العالمية ألا أن صورة الروس عند الغرب لم تتغير: شعب فقير متأخر و لا يمكن التوقع منهم الكثير، لكن خابت توقعاتهم مراراً. فمثلاً كانت التوقعات الغربية أن الاتحاد السوفياتي سيحتاج إلى ١٥ عاماً لانتاج قنبلة ذرية لكنه فاجأهم و انتجها في غضون ٤ سنوات. ثم جاءت خيبتهم الكبرى عندما أطلق الروس أول قمر صناعي (سبوتنيك) إلى الفضاء خاصة بعد أن تبين فيما بعد أن الروس لم يعتمدوا على تصميمات العلماء الألمان الذين كانوا لديهم بل اعتمدوا على علماء روس ( فيما بعد تبين أن الذي صمم الصاروخ كان عالماً روسياً إسمه كوراليف و بقيت كنهته سرية حتى وفاته) ثم توالت الانتصارات العلمية التي كان أشهرها إرسال أول إنسان إلى الفضاء ”يوري جاجارين“. و المعروف أن و كالة الفضاء الاميريكية لا تزال إلى الآن ترسل رواد الفضاء عن طريق روسيا للإقلاع بمركبة الفضاء الروسية سويوز التي يقودها دائماً رائد فضاء روسي و يطلقها صاورخ روسي ( و لذلك فإن تعلم اللغة الروسية جزء أساسي من برنامج ناسا لتدريب رواد الفضاء). كما أنه من المعروف أن أميريكا كانت الى عهد قريب (و ربما لا تزال) تعتمد على محركات الصواريخ الروسية الصنع لإطلاق صواريخها من أميريكا.
الحرب الأوكرانية حرب خطيرة أصابت الغرب بالجنون فكانت ردة فعلهم جنونية جعلتهم يتصرفون و كأن الدبابات الروسية على أعتاب لندن أو باريس. في غمرة انفعالهم انكشفت عوراتهم و ما لها من عورات قبيحة. فبالاضافة للعنصرية البغيضة ظهر نفاقهم السياسي في دعمهم لكتائب ازوف النازية مما يشير إلى أن محاربتهم للنازية الألمانية لم تكن لمواقف مبدئية و إنما كانت لأسباب تكتيكية أو بسبب ضغط المنظمات اليهودية. و ظهرت سياستهم في الكيل بمكيالين فهم يشجبون الغزو الروسي لكنهم لا يرون حرجاً في غزو العراق و افغانستان و لم ينبسوا بكلمة واحدة ضد اسرائيل لغزوها لبنان و اعتداءاتها المتكررة على سوريا. و ظهر زيف حضارتهم و ثقافتهم عندما سقطت ديمقراطيتهم و أصبحوا يتصرفون كأي نظام قمعي في عدم تقبل الرأي الآخر، فقد منعوا أي مقالة أو تعليق الا إذا كان يتماشى مع الموقف الرسمي.
أعتقد أنه من واجب و مصلحة احرار العالم و ما تبقى من دول العالم الحر أن يتضامنوا مع روسيا تماما كما تضامنت القوى الامبريالية ضدها. فأكثر ما أخشاه أنه إذا تمكنت اميريكا من فرض إرادتها في الأزمة الأوكرانية فإنها ستمضي قدماً لتحقيق المزيد: اليوم روسيا و غداً الصين ثم إيران ثم ما تبقى من دول العالم التي ترفض التبعية حتى يصبح العالم كله في جعبتها و عندئذ يقول الجميع أُكلْتُ يوم أُكلَ الثور الأبيض.