ما لم يذكره بوتين بعد.. نابليون 1812 وهتلر 1941

بقلم: أحمد أشقر*

الأمم الحيّة هي التي تكون مسكونة بوحدة جغرافيتها وتاريخها ومصالحها. هذا ما يصفه بعض المنظرين بالمجال الحيوي للدولة أو الأمة، ولا يتحقق الحفاظ والدفاع عنها إلا بوجود قادة ونُخب تعي وتدرك أهميتها، والأهم أن تمتلك من الشجاعة والجرأة للدفاع عن وطنها حتى ولو وصفها البعض بالمغامرة والجنون. فالفرد/ القائد ‘المجنون’ هو العاقل الوحيد بين قطعان المتواطئين والجبناء. هذا هو الرئيس بوتين، رئيس الاتحاد الروسي. لا تستهينوا بشجاعة وجرأة الفرد، وأكبر مثال له عندنا نحن العرب هو شجاعة وجرأة جمال عبد الناصر الذي وصفه الأبنودي قائلا: “اسمه جمال وجميل فعلاً/ ياما شفنا شجعان خوّافه/ عظيم.. وكان إنسان طبعاً/ المجد مش شغل صحافة.. علشان ده عاش عبد الناصر”، وكذلك صاحب العباءة الطاهرة،” السيّد الأحسن” فينا وبيننا.
مثل مئات الملايين في العالم تابعت باهتمام بالغ خطاب الرئيس بوتين ليلة الثالث والعشرين من شهر شباط الفائت. لم يكن الخطاب تاريخيّاً كما وصفه البعض، بل كان إعلان بدء الحرب الوطنية العظمى الثانية (الأولى 1941- 1945)، ولن أعترض على أي وصف آخر مهما بلغت عدائيته وعدوانيته فلا قيمة لها.
الحرب الآن هي دفاع عن روسيا الكبرى التي استكثرتها “الباربي السوداء” على الأمة الروسية قليلة العدد نسبيّا مقارنة بمساحة وطنها الشاسع الذي تبلغ مساحته 17 مليون كيلومتر مربع. تابعت الخطاب لأفهم كيف سيتلافى بوتين ذكر غزو فرنسا نابليون لروسيا سنة 1812 وألمانيا هتلر سنة 1941. لم أكن وحدي فقط، بل غالبية قادة ونخب فرنسا وألمانيا وكثيرون في العالم الذين يعرفون ويدركون معنى وأهميّة روح الأمم الحيّة. فؤلاء يدركون جيداً أن ‘عقدة ‘روسيا الأمنية سببها هذان الغزوان. كما أنهم يدركون دون شكّ أو تأويل ولو بسيط أن الاعتداء على الأراضي الروسية لن يتكرر لو كلّف الأمر بجعل باريس وبرلين وأخواتهما الأوروبيات رماداً كما فعل الحلفاء بدرِيزْدِن بين الثالث والخامس عشر من شهر شباط سنة 1945!.. الأمم الحيّة لا تدافع عن مجالها الحيوي ومصالحها فقط، ولا تدع أحداً أن يُشكل خطراً عليها، بل إنها تنتظر فرصة ما كي تنتقم. لمَ لا؟! هذان الغزوان لا يزالان ماثلين في وعي كل روسي، كم بالحري بوتين المولود من أم اعتبرت في عداد المقتولين نتيجة للقصف الألماني النازي أثناء الحرب الوطنية العظمى الأولى ولولا حبّ والده لها ورغبه بدفنها في قبر خاص بها وليس في قبر جماعي لما رأينا اليوم بوتين. من هذه الأم والحالة- والتشديد على الحالة- وُلد بوتين الذي يدرك ويعي معنى غزو الأعداء لوطنه. كما أنها ماثلة أمام كل متخذي القرار والنخب في برلين وباريس.
لهذا السبب حاول كل من المستشار الألماني الحالي، أولاف شولتس، والرئيس الفرنسي، ماكرون، إيجاد منافذ دبلوماسية لحلّ التوتر التي أنتجته أمريكا بعناية فائقة مع روسيا على أرض “إسرائيل الثانية”. شولتس وماكرون لم ينجحا في مساعيهما، لأن أمريكا التي تمسك بكل جنازير الأزمة تعامل قادة أوروبا مثل تعامل الوجهاء العرب. بالمناسبة: عادت بعض الصحف الفرنسية إلى وصف ربيب بيوتات المال اليهودية لآل روتشيلد، ماكرون، بزوج “مغتصبة الأطفال”.
في سياق خطاب بوتين الشهير ذكرني الصديق زاهر بولس، وهو شاعر وكاتب واسع الثقافة والاطلاع، برمزية العلمين على يمين ويسار الرئيس بوتين. فالعلم الذي على يمينه علم روسيا القيصرية (الاتحاد الروسي) وتظهر منه كفّ تحمل سيفاً بيزنطية، وعلى يساره العلم الروسي ذو الألوان الثلاثة التي برز منها اللونان الأزرق والأحمر. أما الأبيض رمز السلام فاختفى. بالمناسبة سقطت القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية في أيدي العثمانيين المسلمين بدعم من روما البابوية الكاثوليكية.
في سنة 1812 أرسلت فرنسا جيشها بقيادة نابليون بونابرت لغزو روسيا لإجبارها على إيقاف التجارة مع بريطانيا. حينها لم تكن روسيا القيصرية الاقطاعية قادرة على صدّ هجوم الجيش الفرنسي. فجاء قرار قادتها ‘السماح’ له بدخول موسكو وحرقه فيها. وفعلاً هذا ما تم. عندما دخل الجيش الفرنسي قام الروس بإخلاء موسكو من سكانها، وأضرموا النار فيها وأغلقوا مخارجها فتم شِواء الجيش الفرنسي الغازي. هذه الحرب يسميها الروس الحرب الوطنية بخلاف الحرب الوطنية العظمى (الأولى). ولأهميتها في تاريخ ووجدان وروح الأمة الروسية خلدها الموسيقار تشايكوفسكي بسمفونية تعرف اليوم بسمفونيّة 1812. تتميز هذه السمفونية عن غيرها من السيمفونيات الأخرى في تاريخ الموسيقى العالمية بوجود مدافع فعلية تطلق أثناء العزف قذائفها في الهواء الطلق كجزء من الأدوات الموسيقيّة. ومن يمعن السمع بالإصغاء إليها يمكنه سماع صوت الهوان الروسي في حينة، صوت لهيب النيران في موسكو وصوت شواء جنود جيش الغزاة الفرنسيين الفارين وصراخهم. على يبدو إن تهديد بوتين للرئيس الفرنسي السابق سنة 2007 بالقول: “إن بلدك بهذا الحجم (الصغير) وبلدي بهذا الحجم (الكبير)، والآن أنت أمام حلّين، إما أن تستمر في الحديث بهذه اللهجة وعنده اسأحطمك، وإما أن تغير أسلوبك، وعندها بإمكاني جعلك ملكاعلى كل أوروبا” (بحسب الصحفي الفرنسي نيكول حنين لصحيفة “هافينغتون بوست”)، وإهانته ماكرون بعدم الاقتراب منه عندما استقبله في الكرملين في الأزمة الأخيرة نابع من تداعيات عدوان 1812 وما حدث لروسيا بعد 130 سنة.
بعد نحو 130 سنة، في سنة 1941 تحديداً هاجم الجيش الألماني النازي الهتلري الاتحاد السوفياتي وحاصر مدينة ستالينجراد سنة 1942 لمدة 872 يوماً بالتمام والكمال، وعدّت المعركة فاصلة في الحرب الوطنية العظمى (الأولى) والحرب العامية الثانية. قتل الألمان في عدوانهم الذي انتهى بهزيمتهم سنة 1945 أكثر من عشرين مليوناً من سكانه غالبيتهم من الروس. ملابسات، مجريات هذه الحرب ونتائجها كانت أكثر تعقيداُ وكارثيّة على الاتحاد السوفياتي التي أريد له تدميره من قبل ألمانيا النازية وصمت أوروبا وأمريكا الإمبريالية (كما قال لينين) في البداية، إلا أنهم تدخلوا عندما أيقنوا أن الأتحاد السوفياتي بطريقه إلى حسم الحرب لصالحه فتقاسموا النصر معه سنة 1945 الذي أصبح الثيمة المركزية في التربيّة والأخلاق وعلوم الجمال الروسية التي يتلقاها كل روسي منذ ذلك الوقت. فالفولاذ الذي سقاه الروس بحسب نيقوﻻي أوستروفسكي، ليس لصناعة سكاكين المطابخ، بل لصناعة البلطات والسيوف التي تحطم وتجزّ رؤوس الغزاة.
على هذا الأدب والأخلاق وروح التضحية ينشأ الروس، قيادة ونخباً وأمة. لذا فإن مطالب روسيا بعدم تمدد الناتو شرقاً وسحب منظومات صواريخه من أوروبا الشرقية ومنح روسيا ضمانات خطيّة بذلك مطلباً شرعيّاً لن تتنازل عنه. لذا أشعلت حربها الوطنية الثانية عندما استنفذت كل المحاولات الدبلوماسية لمنح تحول أكرانيا إلى خنجر نووي في خاصرتها.
مع اشتداد الأزمة الحالية باتت تعرف أوكرانيا بـ”إسرائيل الثانية” لدى بعض المحللين الوطنيين الروس والأوكرانيين لسببين: الأول- يبلغ عدد الوزراء اليهود- الإسرائيليين عشرة في الحكومة الأكرانية الحالية، وتحابي هذه الحكومة “إسرائيل” في كل شاردة وواردة من التعاطف مع صواريخها التي تطلقها على الغزيين، وليس انتهاء بنقل سفارتها إلى القدس؛ والثاني- باتت النخب الوطنية الروسية والأوكرانية تعي أن دور أوكرانيا هو خنجر نووي في خاصرة روسيا الاتحادية كوجود “إسرائيل” في الوطن العربي على أرض فلسطين المحتلة من أجل على تفكيك الوطن العربي. أي أننا أمام مشروعين للتفكيك، الأول في الوطن العربي وقد نجح مع الأسف، والثاني لتفكيك الاتحاد الروسي (…).
تؤيد “إسرائيل” الرسمية ومجاميع المستعمرين من أبناء الطوائف الغربية والشرقية التي تسكنها أمريكا والناتو. أي إنهم يؤيدون أوكرانيا، علماً أن العصابات النازية بقيادة بانديرا وشوخيفيتش والعملاء الأكرانيين والجيش الهتلري الذي احتلها في (1941- 1943) أباد نحو 900 ألف يهودي، والذي حال دون إبادة اليهود بالكامل هو انتصار الاتحاد السوفياتي بقيادة ستالين على ألمانيا النازية سنة 1945. قبل أربع سنوات نشرت نشرة إعلانات تصدر في مستعمرة العفولة في مرج ابن عامر خبراً لم يتنبه المحرر لأهميته وجاء فيه على لسان أوليجارخ أكراني شارك مؤتمر في مؤتمر بحيفا دون أن يذكر أسمه أن تم برمجة الشعب الأكراني بواسطة البرمجة العصبيّة اللغوية ما يجعله يعادي روسيا قرناً كاملاً من الآن!
لكن المثير هو تأييد إسرائيل ويهودها لأوكرانيا الحالية دون العودة إلى ما فعله النازيون الأكرانيون بأجدادهم لدرجة أنها سمحت لأحد قادة المنظمات النازية الجديدة، أرتيوم موشنسكي، للمجيء إليها وتلقي العلاج في مشفى (أسوتا- حيفا) حسب ما ذكرت وسائل إعلام إسرائيلية بتاريخ 30 تموز 2021! علينا أن نشير هنا إلى الرئاسة الأكرانية منحن كل من النازيّيْن باندير وشوخيفتش لقب بطل أكرانيا سنة 2010 دون أي احتجاج من يهودها أو إسرائيل.
تساعدنا كثيراً مدونة ماركس المسألة اليهودية لفهم سبب دعم إسرائيل ويهودها الإمبريالية العالمية (ضد روسيا)، لكن تنقصنا مقاربات سيكولوجية لشرح كيفية تحول من عاد من الموت (اليهود) إلى داعمين لمن أرسلوهم إليه قبل سبعة ثمانية عقود ويهددونه بأنهم سيواصلون مسعاهم للقضاء عليهم (النازيون الجدد في أوكرانيا وأوروبا). بالمناسبة: الأدبيات اليهودية والإسرائيلية (والغربية الرأسمالية) التي قدحت في ستالين والاتحاد السوفياتي يفوق عددها بتلك الأدبيات التي قدحت بهتلر وألمانيا النازية. نعود إلى إسرائيل الأولى، في حمى نشوة ديّان لهزيمته العرب سنة 1967 وردّاً على قطع الاتحاد السوفياتي العلافات الدبلوماسية مع “إسرائيل” قال بإن الجيش الإسرائيلي قادر على الوصول إلى موسكو، عنها ردّ عليه أحد الحضور بالقول لكنه لن يعود.
نقطة أخيرة: صرّح الذي أرسله آل روتشليد، ماكرون، للانقضاض على المكتسبات الاجتماعية لعمّال وموظفي فرنسا منذ الثورة الفرنسية حتى الآن أن قطع روسيا عن نظام “سويفت” للخدمات المصرفية بأنه “نظام نووي حديث”!.. حسناً، اليابان سنة 1945 وروسيا سنة 2022!. البادي أظلم، والأمور في خواتيمها- كما قالت العرب!

*باحث في الدراسات الدينية ومترجم
[email protected]

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى