تونس تَتَخبَّطُ بَيْنَ إِفْلاَسِ الدَّوْلَةِ وعَجْزِ الرَئِيسِ سَعَيَّدْ

بقلم: توفيق المديني

يُسَيْطِرُ الغضب وَالْقَلَق عَلَى شَرِيحَةٍ كَبِيرَةٍ مَنْ مُوَظَّفِيِّ الدَّوْلَةِ التّونِسِيَّةِ فِي الْقِطَاعِ الْعُمُومِيِّ الْبَالِغِ عَدَّدَهُمْ حَوَالِيْ 700 ألْفٍ مُوَظَّفٍ وَأُسَرِهِمْ، الَّذِينَ لَمْ يَقْبِضُوا رَوَاتِبَهُمْ عَنْ شَهْرِ ينَايرِ / جَانفِي 2022، فِي مَوَاعِيدِهَا الْمُعْتَادَةِ مُنْذُ سنوَاتِ طَوِيلَةِ، حَيْثُ أَنَّ التَّأْخِيرَ فِي تَنْزِيلِ أُجُورِهِمْ يُؤَثِّرُ عَلَى اِلْتِزَامَاتِهِمْ الْحَيَّاتِيَّةِ الْمُهِمَّةِ، خُصُوصًا أَنَّ مُعْظَمَ الشَّعْبِ التّونِسِيِّ يُوَاجِهُ صُعُوبَاتٍ مَالِيَّةٍ كَبِيرَةٍ بِسَبَبِ الْغَلَاَءِ وَالتَّضَخُّمِ وَعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى مُجَابَهَةِ الْأَزْمَاتِ الْمَالِيَّةِ وَ الْاِقْتِصَادِيَّةٍ وَ السِّيَاسِيَّةِ الْمُتَلَاحِقَةِ.
ووفق الروزنامة العادية (البرنامج الزمني) تتولى الحكومة صرف رواتب الموظفين في الفترة المتراوحة ما بين 18 و26 من كل شهر، غير أنَّ الإفلاس المالي للدولة التونسية تسبَّبَ في الأشهر الماضية في تخلف دوري في عملية التنزيل للأجور، لتبلغ مداها في شهرجانفي/كانون الثاني الماضي،مع تسجيل تأخير فاق العشرة أيام.ويبدأ الشهر لأغراض احتساب الراتب في تونس يوم 16 من الشهر وينتهي في 15 من الشهر الذي يليه، ويصرف بعد 3 أيام/في 18 من كل شهر.
ويقول الخبراء أنَّ الحكومة التونسية تمارس سياسة تمييزية بإعطاء الأولوية في صرف الرواتب إلى موظفي الوزارات السيادية وهي الدفاع والداخلية والمالية والعدل، فيما يصنف موظفو قطاع التعليم بمختلف مستوياته في أسفل الترتيب، والبالغ عددهم نحو 230 ألفا من مجموع نحو 700 ألف موظف يعملون في الدوائر الحكومية، ما يفسر عدم تقاضيهم لرواتبهم حتى الآن، وهي سابقة لم تحدث من قبل.
أمام اشتداد الأزمة المالية ، حاولت الحكومة التونسية على لسان وزيرة المالية سهام بوغديري، يوم الإربعاء الماضي،أن تقدِّمَ تطمينات بشأن قدرة الحكومة على دفع أجور الموظفين في القطاع العمومي ، كما أكدت أن الأجور ليست مهددة خلال الشهور المقبلة.
لكنَّ كلام وزيرة المالية لم يُقْنَعْ مئات الآلاف من الموظفين الذين لم يتلقوا رواتب شهر جانفي/كانون الثاني 2022،حتى الآن،لا سيما أنَّها لم تُقَدِّمْ موعدًا مُحدَّدًا لصرف الرواتب المتأخرة، ورمت الكرة في ملعب الدائنين الدوليين، إذ أكدت أنها تأمل في الوصول إلى اتفاق تمويلي مع صندوق النقد الدولي في شهر إبريل/نيسان المقبل .
الوضع المالي للدولة التونسية
لا تزال الدولة التونسية لا تعطي أرقامًا مالية دقيقة للشعب التونسي عن الواقع المالي الذي تعيشه البلاد،كما أنَّ كبار المسؤولين في هذه الدولة فشلوا بتقديم الشيء الوحيد الذي تحتاج إليه البلاد وبشكلٍ عاجلٍ: خطة اقتصادية قابلة للتطبيق ويمكنها التعامل مع المظالم القديمة والمستمرة للتونسيين الذين يعانون من نسب بطالة عالية وتدهور بمستويات الحياة.وهذا ما تعكسه الدعوات التي تطل علينا في كل مرَّة لمطالبة الشعب التونسي للقيام بحملة تبرع بالمال لإنقاذ دولته،وهو ما يؤكد لدى الخبراء و المحللين و المراقبين أنَّ الدولة التونسية أصبحت دولةً مفلسةً،وبالتالي فاشلةٍ.
ففي 20 جانفي/ كانون الثاني2022 ،دعا مفتى تونس “عثمان بطيخ” رجال الأعمال، ومن وصفهم بأهل الخير،للتبرع للدولة؛ لمساعدتها على الخروج من أزمتها المالية والاقتصادية،باعتبار أنَّ الإسهام في  مساعدة البلاد للخروج من الظروف الاقتصادية والاجتماعية الصعبة التي تمر بها ،هو واجب أخلاقي وديني..
ولم تكن دعوة المفتي هذه الدعوة الأولى التي وُجِّهَتْ للشعب التونسي لِلتَبَّرُعِ للدولة، بل سبقها دعوات أخرى، ففي 23 أكتوبر 2019، وبعد أدائه اليمين الدستورية، خلال جلسة عامة بالبرلمان التونسي، تحدث قيس سعيد عن دعوات للتبرع بيوم عمل للدولة كل شهر؛ “حتى تفيض خزينة الدولة، وتتخلص من القروض والاستدانة”، على حد قوله، مؤكدا وقتها أنَّ الشعب يحتاج لإعادة بناء الثقة بالحاكم.
وفي 17 مارس /آذار2020، دعا قيس سعيّد في خطابه وقتها المواطنين، ممن باستطاعتهم تقديم المساعدة لمواجهة فيروس كورونا، إلى التبرع بنصف رواتبهم أو أكثر، قائلا إنّه يوجد في تونس الكثيرون ممن هم في حاجة للوقوف بجانبهم لحفظ كرامتهم، مؤكدا أنّه سيكون أوّل المتبرعين.
وفي 4 نوفمبر 2021، جدَّد الرئيس قيس سعيَّدْ دعواته للتونسيين بالداخل والخارج، ودون استثناء، للمساهمة في إيجاد التوازنات المالية المطلوبة، مؤكدا أنَّ الأموال التي سيساهم بها التونسيون في تخفيف الأزمة المالية “ستكون تحت رقابة رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة”، قائلا إنَّ الأموال ستذهب إلى ما رصدت له.
وتعكس مثل هذه الدعوات لمطالبة شعب يئن تحت وطأة الفقر والغلاء منذ أكثر من عشر سنوات،نمط التفكير السياسي الذي يسيطر على عقلية رئيس الجمهورية التونسية، فبدلاً من تعبئة خزائن الدولة من خلال إجبار رجال الأعمال الفاسدين والمتهربين من دافعي الضرائب،على استرجاع الأموال المنهوبة،نجد الرئيس سعيَّدْ الذي توعد في خطبه ملاحقة الفاسدين و مافيات التهريب والاحتكار للسلع الغذائية وغيرها، لم يُثبتْ شيئًا ضدَّهُمْ، ولم يتمكن من محاسبتهم، وعَجِزَ عن إحالة ملفات الفساد للقضاء، رغم المساندة التي يجدها من قبل كافة أجهزة الدولة، بما في ذلك الجيش والأمن والاستخبارات، وحتى القضاة أنفسهم، والسبب في عدم إحالة ملفات الفساد إلى القضاء، وبالتالي مصادرة أموال و أملاك الفاسدين و المافيات على اختلاف أنواعها، هو إمَا عدم رغبة الرئيس نفسه في الصدام مع هؤلاء جميعًا الذين يحتمون بالدولة العميقة ،أو بسبب سيطرة بعض الأطراف على قراراته.
وتحتاج الحكومة التونسية إلى ما بين 1.6 و1.8 مليار دينار (أي حوالي 600مليون دولار ) شهريًا لصرف رواتب العاملين في القطاع العمومي ، غير أنَّ تراجع الإيرادات في حساب الخزينة وتأخر توقيع الاتفاق مع صندوق النقد الدولي جعلا حساب الخزينة في عجزٍ متواصلٍ، ما يجعل التزام الدولة بتعهداتها المالية في مَهَبِّ التَأْخِيرِ.
ومؤخرًا، أقرَّتْ الحكومة التونسية ميزانية عام 2022 بنسبة عجز 6.7%،والتي تُقَدِّرُ بنحو57291 مليون دينار (20 مليار دولار)، أي بزيادة بـ 3.2 بالمئة مقارنة بقانون المالية التكميلي لسنة 2021، وتقدر كتلة الأجور في تونس بـ20,345 مليون دينار بزيادة قدرها 1228 مليون دينار مقارنة بـ2021. وتفاوض تونس صندوق النقد من أجل اتفاقٍ ماليٍّ جديدٍ للحصول على ما لا يقل عن 4 مليارات دولار، لتوفير تمويلات لموازنة العام الجاري 2022، فيما بلغت ديون تونس 102.1 مليار دينار (35.5 مليار دولار)، وهو رقم قياسي لم تسجله البلاد من قبل.
وتوقّع وزير المالية السابق والخبير المالي سليم بسباس، أنْ تَظَّلَ الضغوط على المالية العمومية قائمةً إذا لم تَتَمَكَّنْ تونس من تعبئةِ المواردِ اللازمة المرسمة بالموازنة.وأفاد الوزير السابق بسباس أنَّ صَرْفَ الرواتب من أهم الالتزامات المالية للدولة بكلفة أكثر من 20 مليار دينار سنويا(حوالي 6.89مليار دولار)، مشيرًا إلى أنَّ الحكومة تلجأ إلى الحلول الداخلية لتوفير السيولة الكافية، سواء عبر التدخل المباشر للبنك المركزي بضخ السيولة أو إعادة تمويل البنوك بشراء أذون الخزينة قصيرة ومتوسطة المدى التي تطرحها الحكومة.
وتحدث الخبراء مؤخرًا في تصريحات إعلامية أنَّ البنك المركزي التونسي حَوَّلَ خلال شهر جانفي/كانون الثاني 2022القرض الجزائري الذي حصلتْ عليه تونس،عقب زيارة الرئيس الجزائري الأخيرة للبلاد (300مليون ودلار) إلى الدينار، مما وفَّرَ زهاء 300 مليون دينار وتوظيف جزء من إيداعات الادخار بالبريد صلب الخزينة، حيث كشف المكلف بالإعلام في الاتحاد العام التونسي للشغل غسان القصيبي، أنَّ البريد التونسي قام بتقديم مدخراته للدولة بقيمة 700 مليارمن أجل دفع رواتب العاملين في القطاع العمومي.
هناك إجماعٌ في تونس،أنَّ الوضعَ الماليَّ للدولة التونسية مُخِيفٌ ،إذْ تُحَذِّرُالتقارير الدولية من الانهيار والاحتقان الاجتماعي، بينما باتتْ الدولة فعليًا عاجزة ًعن تسديد ديونها.وتعيش تونس في الوقت الراهن أزمة مركبة، يختلط فيها الاقتصادي بالسياسي بالاجتماعي بالوبائي،لكنَّ الأزمة المالية تَتًصَدَّرالعنوان الأبرز للوضع الاقتصادي عامة، حيث بلغت الأزمة المالية ذروتها في عدم القدرة على الالتزام بصرف رواتب الموظفين والأجراء في تاريخها المعتاد، إضافة إلى تراجع الإيرادات العامة، وتعثر الحكومة في إعادة الحيوية للأنشطة الاقتصادية المركزية مثل السياحة والفوسفات في ظل تزايد مخاطر إفلاس الدولة التونسية والتعثر في سداد التزاماتها، بات يتسع يوما بعد يوم عن تفاقم تلك المخاطر،وفقدان السوق لبعض المواد الغذائية الأساسية كالسميد والدقيق والزيت النباتي والأرز والبيض ،وتراجع الإنتاج المحلي من جهة، واضطراب في سلاسل التوريد من جراء تداعيات الأزمة الوبائية الجديدة من جهة ثانية، وتفاقم الاحتكار والتلاعب بالأسعار لمعظم هذه المواد التي سجلت ارتفاعا ملحوظا في الأشهر القليلة الماضية، بلغ في بعض الأحيان إلى عدة أضعاف كالدواجن والبيض على سبيل المثال.
مجموعة الأزمات الدولية تصنف تونس ضمن الدول المهددة بـ”صراعات مميتة”
كَشَفَتْ مَجْمُوعَةُ الْأَزْمَاتِ الدَّوْلِيَّةِ عَنْ قَائِمَةِ الْمُرَاقِبَةِ لِسَنَةِ 2022، وَهِي قَائِمَةٌ تَضُمُّ 10 بُلْدَانَ تَوَاجُهِ صِرَاعَاتٍ مُمِيتَةٍ أَوْ حَالَاتِ طوارىء إِنْسَانِيَّةٍ أَوْ أَزْمَاتٍ أُخْرَى تَرَى الْمَجْمُوعَةُ أَنَّهُ يَمْكِنُ لِلْاِتِّحَادِ الاوروبيِّ الْمُسَاعَدَةَ عَلَى إنقاذِهَا وَإعَادَةِ الْاِسْتِقْرَارِ فِيهَا، وَمِنْ بَيْنَهَا تُونِس.
وَأَكَّدَتْ الْمَجْمُوعَةُ فِي تَقْريرٍ تَرْجَمَهُ مَوْقِعُ ” الشَّارِعَ الْمَغَارِبِيَّ ” حَوْلَ قَائِمَةِ الْمُرَاقِبَةِ لِسَنَةِ 2022 أَنَّ الْاِقْتِصَادَ الْمُتَعَثِّرَ فِي تُونِسِ بَدَأَ يُقَوِّضُ الثِّقَةُ فِي السُّلْطَةِ السِّيَاسِيَّةِ، مُشِيرَةً إِلَى تَقَلُّصِ النَّاتِجِ الْمَحَلِّيِّ الْإِجْمَالِيِّ لِلْبِلَادِ بِنِسْبَةِ 9.18%سَنَةَ 2020، مُبَرَّزَةً أَنَّ ذَلِكَ يُعْزَى جُزْئِيًّا إِلَى الْقُيُودِ الْمُرْتَبِطَةِ ب كوفيد 19 عَلَى السِّيَاحَةِ وَالْحَرَكَةِ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ.
وَأَوْضَحَ التَّقْريرُ أَنَّ الْخَزِينَةَ تَسْتَطِيعُ بِالْكَادِ تَغْطِيَةِ الرَّوَاتِبِ الْمُسْتَحِقَّةِ لِلْعَامِلِينَ فِي الْقِطَاعِ الْعُمُومِيِّ وَأَنَّ ذَلِكَ يَحُولُ دُونَ إِمْكَانِيَّةُ الإيفاء بِاِلْتِزَامَاتِ سَدَادِ الْقُرُوضِ الْخَارِجِيَّةِ وَسَطَ اِرْتِفَاعِ الدَّيْنِ الْعَامِّ، مُعْتَبَرَةً أَنَّ ذَلِكَ مؤشرًاعلى خَطِ حُدوثِ أَزْمَةٍ مَالِيَّةٍ وَمَصْرِفِيَّةٍ خَطِيرَةٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ قَدْ تُؤَدِّي إِلَى اِنْخِفَاضِ مُسْتَوَيَاتِ الْمَعِيشَةِ لِلْعَدِيدِ مِنَ التّونِسِيِّينَ.
وَأَشَارَتِ الْمَجْمُوعَةُ إِلَى أَنَّ تُونِسَ قَدْ تَضْطَرُّ عَلَى الْمَدَّيْنِ الْقَصِيرِ وَالْمُتَوَسِّطِ إِمَّا إِلَى إِعَادَةِ هَيْكَلَةِ دُيونِهَا الْعَامَّةِ وَالتَّوَجُّهِ لنادي باريس لِلْقِيَامِ بِذَلِكَ أَوْ إعْلَاَنِ إفْلَاَسٍ مُعْتَبِرَةٍ أَنَّهُ سَتَكُونُ لِذَلِكَ فِي كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ تَدَاعيَاتٍ اِجْتِمَاعِيَّةٍ وَاِقْتِصَادِيَّةٍ مُؤْلِمَةٍ.
وأضافت أنَّه سيكون لإعادة هيكلة الديون تأثيرٌ خطيرٌ على التونسيين على الرغم من أنَّها تبدو أقلَّ صعوبةٍ من الخيار الثاني مؤكدةً أنَّ الآثارَ قد تشمل انخفاض قيمة العملة وخَوْصَصَةِ الشركاتِ العموميةِ وتجميدِ رواتب القطاع العمومي والتقاعد المبكر القسري وانخفاض الواردات بشكل كبير (ربما يؤدِّي إلى نقصٍ مزمنٍ في المواد الأساسية) وارتفاعٍ كبيرٍ في البطالة وفي نسبةِ التضخمِ.
وذكرت المجموعة بأنَّه في غضون ذلك يدور حديثٌ في الكونغرس الأمريكي حول ربط المساعدات المالية والعسكرية لتونس بما تتوصل إليه وزارة الخارجية الأمريكية في ما يتعلق بدور الجيش في ما وصفته بانتهاكات بعد 25 جويلية وبأنَّه لم يتم الاجابة بعد عن هذا السؤال منبهةً إلى أنَّه في صورة تمرير تشريعٍ بهذا المعنى وقطعتْ واشنطن المساعدة قد يكون بالفعل هناك اضطرابٌ داخل القوات المسلحة بالإضافة إلى مزيدٍ من الاضطراباتِ في الشارع.
واعتبرتْ أنَّه يُمْكِنُ أَنْ يكون لكلِ هذه العواملِ تأثيرُ كُرةِ الثلجِ وأن يدفع ذلك بالرئيس قيس سعيَّدْ إلى التمادي في ما اسمته بالخطابِ الشعبويِّ لتوجيه إِحباطِ مُؤَيِدِّيهِ الذين يَتوَّقَّعونَ مِنْهُ “تطهير” مؤسساتِ الدولة .
وَنَبَّهَتْ مِنْ أنَّ تَرْفِيعَ الرَّئِيسِ قِيْسَ سَعِيَّدْ مِنَ الْخِطَابِ الشعبويِّ لِصَرْفِ الْاِنْتِبَاهِ عَنِ الْقَضَايَا الْاِقْتِصَادِيَّةِ وَالْاِجْتِمَاعِيَّةِ قَدْ يُثِيرُ رُدُودَ فِعْلٍ لَا يُمْكِنُ السَّيْطَرَةَ عَلَيْهَا بَيْنَ السُّكَّانِ مِثْلَ الْمُظَاهَرَاتِ أمام السِّفَارَاتِ وَالْوُفُودِ الْأَجْنَبِيَّةِ لِلْبِلَادِ وَ أَعْمَالِ عُنْفٍ أُخْرَى لَا سِيَمَا إِذَا أَزْعَجَ سَعِيَّدْ مَوَازِينَ الْقُوَى الْمَحَلِّيَّةِ بِاِسْمِ مُحَارَبَةِ الْفَسَادِ وَبِهَدَفِ تَعْزِيزِ نُفُوذِ أَنْصَارِهِ فِي مَنَاطِقَ مُعَيَّنَةٍ.
وَ أَبْرَزَتْ الْمَجْمُوعَةُ أنَّ مِثْلَ هَذِهِ التَّدَابِيرِ الَّتِي اِعْتُبِرَتْ ِ أنَّها مُصَمِّمَةٌ لِلْاِسْتِفَادَةِ مِنَ الْاِسْتِيَاءِ بَيْنَ الْفِئَاتِ الْمَحْرُومَةِ فِي الْمُجْتَمَعِ قَدْ تُسَاعِدُ عَلَى تأْجِيجِ الْاِضْطِرَابَاتِ الَّتِي يَنْفُثُ فِيهَا الْعَاطِلُونَ عَنِ الْعَمَلِ أَوْ غَيْرَهُمْ غَضَبَهُمْ مُحَذِّرَةً مِنْ أنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْاِحْتِجَاجَاتِ يُمْكِنُ أَنْ تَتَحَوَّلَ إِلَى عُنْفٍ خَاصَّةِ إِذَا اِسْتَخْدَمَتْ الشُّرْطَةَ الْقُوَّةَ الْمُفْرِطَةَ لِإِعَادَةِ الْهُدُوءِ.
وأشارتْ إلى أنَّ كَبَاَرَ السِّيَاسِيِّينَ وَرِجَالَ الْأَعْمَالِ قَدْ يَجِدُونَ أَنَفْسُهُمْ أَكْثَرَ عَرْضَةٍ لِلْاِعْتِقَالِ لِيَتِمَّ عَرْضُهُمْ أَمَامَ الْجُمْهُورِ كَرُموزٍ لِلْفَسَادِ،مُؤَكِّدَةً أنَّ مِثْلَ هَذِهِ التَّحَرُّكَاتِ قَدْ تُخَاطِرُ بِإلْحَاقِّ الضَّرَرِ بالأَعمالِ بَدَلَ إِفادةِ الْاِقْتِصَادِ.
وحذرتْ من أنَّ الضغطَ الأجنبيَّ والنزعةَ الشعبويةَ قد يؤديان إلى تفاقمِ الاستقطابِ بين القوى المؤيدة لسعيَّدْ والقوى المناهضة له وأنَّ ذلك قد يدفع سعيَّدْ نحو مزيدٍ من القمعِ  مُبَيِّنَةً أنَّ هذا التطورَ قدْ يُفْضِيَ بدورهِ إلى إثارةِ التوتراتِ والعنفِ بما يزيد من مخاطرِ الاضطراباتِ السياسيةِ.
هل يمتلك الرئيس سعيَّدْ مشروعًا وطنيًا لحلِّ الأزمة الاقتصادية ؟
لمْ يَطْرَحْ الرئيس قيس سعيَّدْ استراتيجية جديدة للدولة التونسية تتبنَّى فيها مشروعاً مجتمعيًا جديدًا ،أي خريطة الطريق للمرحلة المقبلة ،وفي القلب منها تحديد السياسة الاقتصادية الاجتماعية للمرحلة الجديدة التي يقودها سعيَّدْ،والتي يجب أن تأخذ بعين الاعتبار الأولويات الوطنية والانتظارات الاستراتيجية للشعب التونسي،خاصة في مجال معالجة الأزمة الاقتصادية و المالية، ومعضلة البطالة،بعيدة عن وصفات صندوق النقد الدولي التي تزيد من الضغوط على الطبقات الضعيفة.
فقدْ أسهمتْ جائحة كورونا،في الكشف بأكثرِ وضوحٍ ،عن حدَّة وخطورة الهشاشة الهيكلية التي عليها الاقتصاد التونسي خاصة مع تنامي البطالة ،والفقر،وارتفاع نسق الإصابات بالكورونا، في ظل الهشاشة الحادة للمنظومة الصحية، وتفاقم الهشاشة الاقتصادية (غلق المؤسسات وتسريح جزئي أو نهائي للعمال و ارتفاع تكلفة دعم المؤسسات المتضررة نتيجة الحجر الصحي) و الهشاشة المالية (الارتفاع المهول لنسبة عجز المالية العمومية لسنة 2021)، والهشاشة المؤسساتية (تنامي عجز الدولة ومؤسساتها ،واستمرار الصراعات السياسية والمناكفات و النزاعات الحزبية المخجلة العاكسة لعدم النضج السياسي و لغياب المشاريع التنموية و الطموح للنهوض بالبلاد و العباد).
ارتفاع نسبة البطالة
وبلغت نسبة البطالة في تونس %13 سنة 2010 ،وبقيت تتراوح بين 15% و 16% في الفترة 2019- 2015،وتجاوزت نسبة 16% منذ الثلاثي الأول من سنة 2020 ،لتبلغَ 18% أثناء الموجة الأولى للجائحة أي الثلاثي الثاني وتسجل تراجعًا طفيفًا بعد التخلي عن الحجر الشامل وفتح الحدود منذ أواخرجوان 2020..
وتمثل البطالة أقصى أوضاع الإقصاء والتهميش إضافة للإحباط ،لاسيما لدى حاملي الشهائد الجامعية الذين يبلغ عددهم 281000 في الثلاثي الثالث ونسبة بطالتهم 30.1% مقابل معدل عام للبطالة ب 16.2% في نفس الفترة .علما أنَّ أعلى نسب البطالة تسجل لدى الشباب (من 15 الى 24 سنة ) بنسبة 7 35.% ولدى الإناث بنسبة 22.8 % (مقابل 13.5% لدى الذكور) خاصة صاحبات الشهائد العليا بنسبة 42% في الثلاثي الثاني.
صعود الدين العام
من الإسقاطات المدمرة لهذه الأزمة الاقتصادية والمالية في تونس،تصاعد نسق الدين العام منذ سنوات ما بعد الثورة، فبعدما كان حجمه لا يتجاوز 43 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي في 2009، ارتفع إلى 90 بالمائة في 2020.ففي 2020، بلغت قيمة الدين العام 93.04 مليار دينار (32.08 مليار دولار)، منها 61.29 مليار دينار (21.1 مليار دولار) دينا خارجيا.وبلغ الدين العام في 2019، ما قيمته 83.33 مليار دينار (28.7 مليار دولار)، منها 58.60 مليار دينار (20.2 مليار دولار) دينا خارجيا.
عجز الميزانية
تعاني تونس من عجزٍ كبيرٍ في الميزانية، في ضوء فشل الدولة في تعبئةِ مواردٍ من الخارجِ ، ما أجبر الحكومة التونسية على مراجعة توقعاتها ليس فقط للنمو، بل أيضا للعجز في الميزانية.
ووفقا لقانون المالية التعديلي لعام 2021، رفعت الحكومة قيمة العجز إلى 9.79 مليارات دينار (3.37 مليارات دولار)، صعودًا من 7.094 مليارات دينار (2.44 مليار دولار)، في قانون المالية الأصلي. وتسعى الحكومة إلى تغطية هذا العجز باللجوء إلى الاقتراض الداخلي.
وسعت تونس في 2021 إلى تجاوز الأزمة الاقتصادية التي تعيشها منذ سنوات ما بعد الثورة، والتي فاقمتها الأزمة الصحية، من خلال دخولها منذ مايو2021 في مفاوضاتٍ جديدةٍ مع صندوق النقد الدولي بهدف الحصول على قرض جديد قيمته 4 مليارات دولار،لكنَّ الأخير كان يشترط توفر الاستقرار السياسي وتوافقاً بين جميع الأطراف السياسية والمنظمات الوطنية، إلى جانب الالتزام بتنفيذ جملة من الإصلاحات المتأخرة.هذه المفاوضات توقفت تزامنا مع قرارات 25 يوليو/تموزالماضي، نتيجة عدم الوضوح السياسي، لتستأنف في بداية نوفمبر.
ورغم التصريحات المتكررة بشأن مواصلة صندوق النقد تقديم الدعم إلى تونس، فإنَّه لم يتم التوصل إلى أي اتفاق مبدئي بين الطرفين.
استرداد الأموال المنهوبة وتطبيق العدالة الجبائية
لا مصداقية للإجراءات الاستثنائية التي اتخذها الرئيس قيس سعيَّدْ ،إذا لم يطرح استراتيجية وطنية لخوض الحرب ضد الفساد المالي والاقتصادي، وفتح ملف رجال الأعمال التونسيين (127)، وكل الفاسدين في عهد حكم الترويكا، حيث يقدر الخبراء المبلغ في ذمتهم بين 10 آلاف و13 ألف مليار ونصف، أي حوالي نصف ميزانية تونس، تمثلت في قروض حصلوا عليها بطرق غير قانونية، وسط صمتٍ رهيبٍ،وعدم تدخل الدولة لاسترجاع ما نهبوه.
إنَّ التحركَ سريعًا لاسترداد هذه الأموال،ومحاربة المافيات الكبيرة التي تسيطر على التهريب، والاقتصاد الموازي الذي أصبح يحتل 75% ويَحْرُمُ الدولة من مداخيلٍ تقدر بنحو 25مليار دينارًا سنويًا(8.5مليار دولار)، والتجارة الموازية ،والتي راكمت ثروات طائلة، مستغلة “ضعف أجهزة الدولة الرقابية”، حيث أنَّ هذا الاقتصاد الموازي يَنْخُرُ الاقتصاد الرسمي، إضافة إلى أنَّهُ يُوَلِّدُ الإرهاب والتهريب، ويُفْضِي إلى تَبْيِيضِ الأموال،والقيام بإصلاحات تشريعية وقانونية لإصلاح الجباية المحلية، حيث تَخْسِرُ الدولة التونسية نحو 15 ألف مليون دينارًا،أي ما يعادل 10.34 مليارات دولار سنويًا (وفقا لسعر صرف الدولار أمام الدينار التونسي في 2012)، بسبب التَهَرُّبِ الضريبي، وهو ما يمثل 50% من جملة دخل الجباية، والتي تعتمد أساساً على الجمارك والقيمة المضافة، وعلى دخل الأشخاص الطبيعيين، وعلى الشركات، ورسوم التسجيل والطابع الجبائي، ورسوم أخرى على بعض المنتجات والنقل،كل هذه العناصر تشكل قوام الاستراتيجية الوطنية التي يجب على الرئيس سعيَّدْ تطبيقها من أجل ملءخزينة الدولة بالأموال، وبعث المشاريع التنموية في الولايات الفقيرة والمهمشة تاريخيًا.
فعن طريق جباية الضرائب وإيقاف نزيف السوق الموازية للعملة الصعبة، ونزيف التهريب، وإرجاع الأموال المنهوبة من رجال الأعمال، والكشف و المراجعة للثروات التي وقع تكوينها بطرق مشبوهة و على حساب القوانين الجاري بها العمل في تونس، من قبل الأثرياء التونسيين الجدد ما بعد 2011و لغاية الآن،الذين استغلوا السلطة و النفوذ، ومصادرة أملاكهم الكلية أو الجزئية بالنسبة للمتهمين في صورة إدانتهم من القضاء الاسثنائي بتهمة الإثراء غير الشرعي.
يتعافى الاقتصاد التونسي، وتنجز المشاريع الفلاحية والاقتصادية في الولايات الفقيرة والمحرومة، ويتم توظيف المعطلين عن العمل من الشباب، ويرتفع الدينار في قيمته، وتنخفض الأسعار، وتتحسن القدرة الشرائية للمواطن.
إنَّ برامج الإصلاح الاقتصادي المرتبطة بتحقيق الأولويات الوطنية وحلِّ المسألة الاجتماعية، وتسمح بتعبئة الموارد المالية لخزينة الدولة،تتطلب توافر الإرادة السياسية من أجل مكافحة التهرب الضريبي والاقتصاد الموازي وتفكيك شبكات الفساد المتغلغلة في كل مفاصل الدولة(الوزارات، الإدارات، البنوك، الموانىء والجمارق،المؤسسة القضائية،الخ)،واستخدام سلطة الدولة لمصلحة الأغلبية الاجتماعية من الشعب التونسي،والعمل على تبني نموذج جديد للتنمية يحقق الاستقلال الاقتصادي تجاه دول الاتحاد الأوروبي والمؤسسات الدولة المانحة، وتأمين شروط التنمية المستقلة القائمة على مواكبة الثورة الصناعية والتكنولوجية والرقمية في عالمنا المعاصر،أي شروط بناء الاستقلال الاقتصادي والغذائي والدوائي .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى