صورٌ ومشاهدٌ من معركة سيف القدس (1+2+3+4)
بقلم: د. مصطفى يوسف اللداوي
1- شرارةُ البدءِ وصاعقُ التفجيرِ
إنها الحرب الإسرائيلية الكبرى الرابعة على قطاع غزة، بعد حروبها العدوانية الهمجية عليه في الأعوام 2008/2009، و2012، و2014، التي اندلعت شرارتها نتيجة الانتهاكات الإسرائيلية لحرمة المسجد الأقصى، وقيام سلطاتهم الاحتلالية بمنع المصلين من الوصول إلى مدينة القدس والصلاة في المسجد الأقصى، وحرمانهم من إحياء ليلة القدر والاعتكاف في المسجد والرباط فيه، لصد قطعان المستوطنين ومنع مسيرة الأعلام من انتهاك حرمة المسجد والاحتفال بيوم القدس اليهودي في باحاته.
وسبق الانتهاكات الإسرائيلية لحرمة المسجد الأقصى، عدوانٌ على الفلسطينيين في باب العامود، وإعلان الحرب عليهم والتنكيل بهم، ومحاولات الاعتداء على سكان حي الشيخ جراح، وطردهم من بيوتهم واقتلاعهم من أرضهم، وحرمانهم من ممتلكاتهم، والاستعانة بالمحكمة العليا للمصادقة على قرارات الجيش وبلدية القدس، بإخراج أهل حي الشيخ جراح من منازلهم عنوةً وبالقوة، بذرائع مختلفةٍ وحججٍ مختلقة.
لكن العرب الفلسطينيين المرابطين في مدينة القدس، ومن تمكن من الوصول إليهم من سكان الضفة الغربية، ومعهم آلافٌ من أهلنا المرابطين الصامدين في قراهم وبلداتهم في الأرض المحتلة عام 1948، قرروا مواجهة العدو الإسرائيلي والتصدي له، والوقوف في وجهه ومنعه من تنفيذ سياسته وتحقيق أهدافه، وأظهروا استعدادهم للتضحية من أجل القدس، ودفاعاً عن المسجد الأقصى المبارك، ورسموا بتضامنهم وصمودهم، صورةً ناصعةً للفلسطيني الثابت، الصادق المقاومة، الوفي المخلص، الذي ينافح عن الأمة ويذود عن حياضها، ويتقدم صفوفها مضحياً في سبيلها، ومدافعاً عن كرامتها، وغير مبالٍ بحجم التضحيات وعِظَمِ المعاناة، وعمق الجرح وغزارة الدم، فالقدس أغلى وأعزُ، والمسجدُ الأقصى أطهرُ وأشرفُ.
هددت فصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة العدو الإسرائيلي من مغبة الضي في سياسته، والاستمرار في عدوانه، والإصرار على عناده، وأمهلته ساعاتٍ للتراجع عن قراره، والتوقف عن ممارساته، وتمكين الفلسطينيين من حرية الزيارة والصلاة، ومن حق العبادة والاعتكاف، والتوقف عن تهديد سكان حي الشيخ جراح وترويعهم، والكف عن استفزازهم والاعتداء عليهم.
لكن العدو الإسرائيلي الموصوف الصلف والكبرياء، والعنجهية والخيلاء، والعدوان والغباء، أصم أذنيه وأغمض عينيه، ولم يصغِ إلى تهديدات المقاومة، ومضى في سياسته الرعناء، فضيق على المصلين واعتدى على من دخل المسجد منهم، واقتحم عليهم مسجدهم، وأطلق عليهم قنابل الغاز المسيلة للدموع، والطلقات المطاطية، ومضى يعتدي عليهم ضرباً بالهراوات، وركلاً بالأقدام، ودوساً بأقدام الخيول، وفتح عليهم خراطيم المياه العادمة النجسة، ذات الرائحة الكريهة العفنة، وفرق بالقوة جموع الراغبين بالدخول إلى المسجد، وشردهم وطاردهم، في الوقت الذي سهل فيه للمتطرفين مسيرتهم، ونظم جموعهم، وهيأ الظروف لاقتحامهم.
أخطأ العدو فهم المقاومة، ولم يعِ دروسها القديمة، ولم يصغِ إلى تهديداتها الحازمة ووعودها الصادقة، فتجاوز المهلة التي منحته إياها، وأصر على مواقفه وعاند، فاستحق الرد والقصف، والتأديب والصفع، كما استحق المقدسيون العون والنصرة، والمد والنجدة، فكانت بداية “معركة سيف القدس”، التي توالت فصولها تباعاً، وتعددت مشاهدها ظهوراً، ورسمت صورها كثيراً، وهم ما سأميط اللثام عنه في حلقاتٍ متسلسلة ومقالاتٍ قصيرةٍ متوالية، حتى تنتهي المعركة، وتضع الحرب أوزارها، وتنتصر المقاومة لأهلها، وتصدق في وعودها، وتثبت معادلاتها الذهبية الجديدة.
2- الكيانُ يستدعي احتياطَه وينقلُ إلى الجبهاتِ جنودَه
فيما يبدو أنها تتهيأ لخوض عملية برية، يجتاح فيها جيشها قطاع غزة، فقد أوصى مجلس الوزراء الأمني الإسرائيلي المصغر، في جلسته الأمنية التي عقدت مساء رابع أيام العدوان على قطاع غزة، باستدعاء ستة عشر ألف جندي وضابط من احتياطي الجيش، منهم سبعة آلاف جندي وضابط لدعم وإسناد طواقم منظومة القبة الحديدية، بعد أن أظهرت المنظومة فشلها في التصدي لصواريخ المقاومة الفلسطينية المنطلقة من قطاع غزة، حيث أطلقت فصائل المقاومة حتى الساعة، أكثر من 1150 صاروخاً، لم تتمكن القبة الحديدية من اعتراض أغلبها، التي سقطت على القدس وتل أبيب وهرتسيليا وأسدود وعسقلان ومحيط مطار بن غوريون، فضلاً عن مئات الصواريخ الأخرى التي سقطت على مستوطنات غلاف قطاع غزة، بالإضافة إلى استهداف مطار رامون في النقب بصاروخ عياش، الذي يبلغ مداه 250 كيلو متراً.
كما أوصت باستدعاء تسعة آلاف جندي وضابط آخرين، من المتمرنين على القتال في الجبهات، ومن الخبراء في عمليات القتال البري في سلاح المدفعية والدبابات، وممن شاركوا في مناوراتٍ بريةٍ تحاكي حرباً في غزة، ولديهم الخبرة في خوض معارك برية مع المجموعات العسكرية الفلسطينية، وذلك في أكبر حشدٍ عسكري على الجبهة الجنوبية للكيان، في مواجهة فصائل المقاومة الفلسطينية على حدود قطاع غزة، التي أظهرت أنها قادرة على إلحاق الأذى بهم، ومواصلة قصف مدنها بالصواريخ الدقيقة، المتعددة المديات، والمختلفة القدرات، الأمر الذي كبد الإسرائيليين خسائر بشرية ومادية، وسبب لهم حرجاً داخلياً وخارجياً، مس هيبة الجيش وسيادة الدولة وقوتها.
كما بدأت قيادة جيش الكيان الصهيوني بسحب وحداتٍ كبيرةٍ من قوات حرس الحدود، العاملين في الضفة الغربية، ونقلت بعضاً منهم إلى البلدات الفلسطينية المختلطة في الأرض المحتلة عام 1948، كاللد والرملة وعكا وحيفا، وذلك إثر الأحداث التي شهدتها هذه المدن، حيث وقعت اشتباكات عنيفة بين سكانها العرب والمستوطنين الإسرائيليين، نتج عنها إصاباتٌ خطيرة، أدت إلى إحراج الحكومة الإسرائيلية واهتزاز صورتها داخلياً وعلى المستوى الدولي، علما أن وزارة الحرب الإسرائيلية تصر على عدم دخول وحدات الجيش النظامية إلى البلدات المختلطة، والاكتفاء بتعزيز القوى الشرطية فيها، وإسنادها بوحداتٍ إضافية من المدن والبلدات الإسرائيلية الأخرى.
مما لا شك فيه أن الكيان الصهيوني مضطربٌ يتخبط، وخائفٌ يترقب، فهو يتردد كثيراً في المصادقة على أي عملية عسكرية برية مع قطاع غزة، سواء كانت عملية محدودة أو موسعة، حيث يوجد معارضون كبارٌ لها على المستويات الأمنية والعسكرية والسياسية، ولا يستطيع رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو أن يأمر بتنفيذها بقرارٍ منه، بل هو في حاجةٍ إلى موافقة أولية من المجلس الوزاري المصغر، ثم إلى مصادقة من المجلس الوزاري الموسع، حيث أن هكذا عملية من شأنها أن تلحق بالكيان الصهيوني خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات.
إذا كان الكيان الصهيوني يخشى من حربٍ ميدانيةٍ بريةٍ محدودةٍ مع قوى المقاومة في قطاع غزة، وهو القطاع الصغير المساحة والمحدود الامتداد، والأقل منه قدرةً عسكريةً وأسلحة هجومية، فكيف سيكون حاله لو أن جيشه انشغل بكل الجبهات، في القدس المحتلة والضفة الغربية، وفي شمال فلسطين وفي جبهة الجولان وعلى الحدود مع سوريا، واضطر إلى المحافظة على وحداته العسكرية المقاتلة على كل هذه الجبهات فقط، فلا أعتقد أنه كان سيستطيع المواجهة أو الصمود، أو يستطيع القتال والاجتياح، إذ لا قدرة لديه ولا عديد عنده، ولا يحتمل مجتمعه ولا يصمد جيشه، ولا تقوى حكومته ولا تنجو قيادته.
فيا أيها الشرفاء المخلصون، الشركاء المقاومون، لا تتركوا قطاع غزة وحده يقاتل، ولا تتخلوا عنه وهو يقاوم، ولا تكتفوا بالإشادة بصموده ومدح قوته، والتغني بجرأته وتعظيم شجاعته، بل هبوا لنجدته، وأسرعوا لإغاثته، وبادروا لنصرته، وسخنوا الجبهات تخفيفاً عنه، فهو الذي انبرى لنصرة القدس وحماية الأقصى، فلم يوقفه بطش العدو ولا تفوقه العسكري، بل مضى على الله عز وجل متوكلاً، ووجهه سبحانه وتعالى قاصداً، فاستحق بذلك النصر المبين، واستأهل العزة والكرامة والتمكين.
3- ليلةُ القصفِ المسعورِ والغاراتُ الوحشيةُ
شهدت ساعات الليل المتأخرة من يوم الخميس، وهو اليوم الرابع للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، تصعيداً عسكرياً مجنوناً، وقصفاً جوياً وبرياً وبحرياً مسعوراً، شاركت فيه المقاتلات الحربية والبوارج البحرية، والدبابات الثقيلة ومدافع الميدان، نفذت خلاله قوات الاحتلال قصفاً عنيفاً للغاية، وصف بأنه الأكثر شدة والأوسع انتشاراً، والأطول فترةً والأكثر تواصلاً، حيث شمل كل مناطق القطاع، لكنه تركز بصورةٍ لافتةٍ على شمال وجنوب القطاع في وقتٍ واحدٍ.
وذكر ناطقٌ رسمي باسم جيش العدو، أن 160 طائرة حربية نفذت على مدى ساعاتٍ متوالية، ليل الخميس وفجر الجمعة، غاراتٍ مركزة على أكثر من 150 هدفاً في شمال قطاع غزة، استخدم خلالها الجيش أسلحة حديثةً ذات قدراتٍ تفجيرية عالية، وادَّعَى الناطق الرسمي باسم الجيش أن العملية كانت تستهدف تدمير مقرات عمل حماس في الأنفاق، ومراكز إدارة ومنصات إطلاق الصواريخ.
بدا نتنياهو في هذه الليلة كالثور الهائج المطعون، يتخبط وجيشه، ويترنح وقيادته، يدور حول نفسه كجاموس تدور حول الساقية، يكاد يسقط إعياءً وينهار فشلاً، إذ يريد أن يحقق إنجازا، وأن يسجل نصراً، ويتطلع إلى استهداف رموز المقاومة وقادتها، وتحقيق بعض أهدافه التي أعلن عنها، فذهب بنفسه إلى الجبهات، يزور جنوده ويتفقد مواقعه، ويطلق من بينهم بابتسامةٍ صفراء، ووجهٍ كالحٍ أسود لا يخفي قلقه وخوفه، تصريحاتٍ ناريةٍ، وتهديداتٍ جوفاء، أن جيشه سيواصل القصف، وسيجني من حماس أثماناً باهظة، وأن الآتي أعظم، وأن العملية ستستمر حتى يستقر الهدوء على “حدود كيانه” مع قطاع غزة.
لكن فصائل المقاومة كذبت نتنياهو وصدمته، ولطمته وصفعته، إذ ردت على القصف الإسرائيلي المسعور بأكثر من 190 صاروخاً، أطلقتها على مدن عسقلان وأسدود ومدن غلاف قطاع غزة، أصابت العشرات منها أهدافها، وألحقت أضراراً فادحة بالمباني السكنية، وتسببت في حدوث عددٍ من الإصابات بين المستوطنين، وادَّعَى جيش الاحتلال أن ثلاثين صاروخاً منها سقطت في قطاع غزة، بينما أسقطت قبته الحديدية أغلب ما وصل منها إلى أجوائهم، لكن مصادر إسرائيلية إعلامية مستقلة تؤكد أن المدن الإسرائيلية التي استهدفتها صواريخ المقاومة الفلسطينية قد لحقت بها أضرارٌ كبيرة، وأن سكانها ما عرفوا النوم، إذ نزلوا جميعاً إلى الملاجئ، واستمر بقاؤهم فيها ساعات الصباح الأولى من يوم الجمعة.
حرث جيش العدو أرض قطاع غزة، ولكن النتيجة أظهرت أنه كان يحرث في بحر، وأن أياً من أهدافه التي خطط لها لم تتحقق، رغم أن الغارات العنيفة تسببت في تدمير العديد من المباني، واستشهاد وإصابة العشرات من المواطنين الفلسطينيين، إذ أن أغلب الغارات استهدفت المناطق السكنية المدنية المأهولة بالسكان، إلا أن رد المقاومة السريع والناجز، الذي طال العديد من المدن الإسرائيلية، خيب آمال الإسرائيليين وأغضبهم، وأثبت لهم أنها قادرة على امتصاص الضربات وتحدي الغارات، وأنها قد راكمت من القوة والخبرة ما يمكنها من الصمود وتحدي الأخطار، مما دفع بمسؤولين إسرائيليين إلى الإعلان كذباً عن نجاح جيشهم في تحقيق الأهداف التي وضعها وخطط لها.
لا تستغربوا أن تشهد الساعات القادمة أصواتاً إسرائيلية تعلو بصخبٍ، تطالب حكومتها بوضوحٍ وصراحةٍ، بوقف العمليات الحربية على قطاع غزة، والعمل على التوصل إلى تهدئة سريعة مع الفلسطينيين، فقد بات الإسرائيليون جميعاً في مرمى نيران المقاومة، التي لا تنفك تفاجئهم بالجديد الدقيق، وتداهمهم بالقوي الفتاك، وتقصفهم بالصواريخ بعيدة المدى وبالمسيرات الذكية المحملة بالمتفجرات الثقيلة، وما زال في جعبتها الكثير مما يمكن لها ويثبتها، وبما يسر شعبنا ويسعدنا، وبما يرفع رأس أمتنا ويشرفها، وبما يخزي العدو ويذله، ويضعف إرادته ويكسر شوكته، ويرهق جيشه ويفشله.
4- العدوانُ على غزةَ بين القصفِ الجوي والتهديدِ البري
تتقدم إسرائيل خطوةً إلى الأمام، وتتراجع ألف خطوةٍ إلى الوراء، كلما فكرت في تنفيذ عملية برية ضد قطاع غزة، فهي تحشد قواتها البرية، وتعيد تموضع دباباتها الحديثة، وتنشر مدفعيتها الميدانية، وتجوب بوارجها الحربية شواطئ قطاع غزة، الذي تحاصره وتغلقه، وتغطي طائراتها الحربية والمسيرة سماء قطاع غزة على مدى الساعة فلا تغيب ولا تتوقف، وتعلن من حينٍ إلى آخر عزمها تأديب المقاومة، ونزع سلاحها، وإرغامها على دفع أثمانٍ باهظة، وتتهيأ لدخولٍ بريٍ، وعملياتٍ حربيةٍ على الأرض، لكنها سرعان ما تتراجع وتنكفئ، وتعلن مؤسساتها العسكرية الرسمية أن خبر البدء بعمليةٍ بريةٍ هو خبرٌ خاطئ، وأنه وقع نتيجة ترجمة خاطئة، إذ لا نية لدى الجيش لتنفيذ عمليةٍ بريةٍ الآن، رغم جاهزيته واستعداده، وقدرته على تنفيذها إذا لزم الأمر.
تقفز فجأة أمام رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، وقادة أركان جيشه، صورة عدوانهم على قطاع غزة عام 2014، ويستعيدون صورة جنودهم الفارين، وحجم خسائرهم بينهم، والحالة النفسية التي كانوا فيها، والإصابات المباشرة التي طالت قادتهم الميدانيين، الذين قضوا في المستشفيات شهوراً يتعالجون، وما زال بعضهم يعاني مما واجه، ويشكو مما لاقى، وتظهر لهم النتائج الوخيمة التي وصلوا إليها، والحصاد المر الذي جناه جيشهم، إذ لم يحققوا شيئاً مما حلموا به وخططوا له، حيث بقيت المقاومة صامدة، وحافظ الشعب على رباطة جأشه وصبره، فأيد مقاومته وصبر معها، وساعدها وتحمل الصعاب من أجلها، وضحى بالكثير من أجلها.
كما يستعيدون صورة جنودهم الذين فُقدوا في المعركة، وسُحبوا من الميدان جثتاً أو أحياءً، وما زال مكانهم بالنسبة لهم مجهولاً، ومصيرهم غير معلوم، وهو الأمر الذي أقلقهم على مدى سنوات، وأزعجهم حتى الآن، إذ أظهر عجزهم عن استعادتهم، وكشف عن عدم قدرتهم على تطمين أهلهم واسترضائهم، وأجبرهم على التفكير جدياً في التوصل إلى اتفاقية تبادل أسرى جديدةٍ مع حركة حماس، يكونون فيها على استعداد لدفع أثمانٍ كبيرة، والتراجع عن أخطاء كثيرة، والإفراج عن مئاتِ الأسرى والمعتقلين ثمناً لحرية جنودهم أو استعادة رفاتهم.
ذاك كان في العام 2014، يوم أن كانت صواريخ المقاومة قصيرة المدى غير دقيقة الإصابة، وأسلحتها قليلة، وخبرتها محدودة، أما اليوم في العام 2012، فإن قدرات المقاومة قد تضاعفت كثيراً، ومستودعاتها قد غصت بالصواريخ الحديثة بعيدة المدى دقيقة الإصابة، وأنفاقها غدت مجهزة ومهيأة لحربٍ طويلةٍ ومواجهةٍ دامية، وبات مقاتلوها أكثر خبرةً وأعمق تجربةً، وأكثر تسليحاً وأشد عزيمةً، وهم يتطلعون لمواجهةٍ ميدانيةٍ وقتالٍ بري، يظهرون فيه حماستهم، ويبرزون فيه قوتهم، ويفضحون خلاله زيف عدوهم وضعفه، وجبن جنوده وخوفهم، وترددهم وفرارهم من أرض المعركة خوفاً من القتل أو الأسر، حيث يعلمون أن عين المقاومة على أسر جنودهم، أكثر من سعيها لقتلهم الذي قد يتحقق بسهولةٍ ويسرٍ.
هذه الحقائق كلها تظهر أمام صناع القرار العسكري والسياسي الإسرائيلي، فيجدون أنهم غير قادرين على أن يخوضوا ذات التجربة التي خاضوها من قبل أكثر من مرةٍ، ثم يأملون منها أن تأتي بنتائج مختلفة وثمار أخرى غير تلك الثمار المرة التي جنوها، فلهذا تراهم يقدمون خطوة ويتراجعون ألفاً، ويهددون ويجبنون، ويصرحون ويعتذرون، فالأمر بالنسبة لهم مغامرة كبيرة، وحربٌ طويلة، ومعركة مفتوحة، وعداد الخسائر سيبقى يعمل ضدهم، وصواريخ المقاومة ستستمر في السقوط عليهم، وفي الميدان سينشط المقاومون الفلسطينيون، فهم على الأرض التي خبروها، وفي المناطق التي يعرفونها، وبالقرب من الأنفاق التي حفروها، ومستودعات السلاح التي عمروها، وربما فوق الأرض التي لغموها وهيأوها.
لا ينكر الفلسطينيون أن الحرب البرية ستكون موجعة بالنسبة لهم أيضاً، وستكون مؤلمة وقاسية، وقد يدفعون فيها أثماناً كبيرة، ويقدمون خلالها شهداء ومصابين أكثر، وسيتعرض قطاعهم للتدمير والتخريب نتيجة القصف المدفعي الأهوج، إلا أنهم يدركون في الوقت نفسه أنهم إن كانوا يألمون فإن العدو سيتألم أكثر منهم، وسيدفع ضريبةً تفوق ضريبتهم، وأن المعركة البرية معه ستؤسس لمرحلةٍ جديدةٍ واستراتيجية مختلفة، تقوم على قاعدة أن إعادة احتلال ما تحرر من أرضنا مستحيل، وإخضاع مقاومتنا دون ثمنٍ غير ممكنٍ، وأن القتال البري قد لا يقتصر حصراً على قطاع غزة، بل قد يتطور نحو بلدات الغلاف استعادةً وتحريراً.
يتبع….
بيروت في 14/5/2021
[email protected]