مغامرة أوكرانيا الخطيرة لاستدراج مواجهة محتملة مع روسيا
د. منذر سليمان وجعفر الجعفري/ واشنطن
يجدد البنتاغون وحلف الناتو قرع طبول الحرب ضد الصين، بحجة نيتها لغزو تايوان، وضدّ روسيا بمحاذاة حدودها مع أوكرانيا، ومحافظة واشنطن على إدامة اشتعال بؤر التوتر التقليدية في “الشرق الأوسط” والتحذير من انزلاقها نحو حرب مفتوحة.
إنّ تصدّر مجموعة من صقور الحرب مفاصل السياسة الأميركية هو إحدى أبرز ميزات ولاية الرئيس جو بايدن وتصعيده عدوانية الخطاب السياسي الرسمي، بالتزامن مع إجراء تنقلات كبيرة في القوى والمعدات العسكرية ونشرها علانية “لمواجهة الصين وروسيا”، والتي جسّدتها المناورة الأميركية مع حلف الناتو تحت عنوان “دفاعاً عن أوروبا 21″، وهي تنطوي على “نشر فرقة عسكرية أميركية من الولايات المتحدة إلى ساحة معارك محتملة في أوروبا” في فترة السلم. كما أرسلت الولايات المتحدة طائراتها القاذفة العملاقة من طراز “بي-52” للتموضع في أراضي النرويج “لأول مرة”.
ورفعت قيادة سلاح الجيش الأميركي مستوى التهديد بين صفوفها في أوروبا من “نزاع محتمل” إلى “أزمة وشيكة محتملة”، ما يعادل أعلى درجات التأهب. وأوضح البنتاغون مغزى تحركاته، على لسان الناطق الرسمي جون كيربي، قائلاً: “نجري محادثات بشأن المخاوف (الإقليمية) حول ارتفاع معدلات التوتر وانتهاكات (روسيا) لوقف إطلاق النار والتوترات الإقليمية مع حلفائنا في حلف الناتو” (31 آذار/مارس 2021).
كما أعلن البنتاغون تسليمه “350 طناً من الأسلحة للقوات العسكرية الأوكرانية”، تتضمّن عربات مدرّعة على متنها أسلحة رشاشة ثقيلة وقذائف مضادة للدبابات ومدافع سريعة الطلقات. كلّ ذلك بحجة تحركات وحشود عسكرية روسية وإجراء موسكو مناورات حربية بمحاذاة حدودها مع أوكرانيا.
رصدت وسائل الإعلام العالمية في 2 نيسان/إبريل تصريحاً لمستشار الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي يطالب حلف الناتو بزيادة حضوره العسكري في بلاده، وذلك يتضمّن “نشاطات مشتركة ومناورات عسكرية بين أوكرانيا وحلف الناتو، بمشاركة أسلحة البحر والجو”. وقد سبقتها مزاعم متتالية بدعم موسكو لحلفائها في منطقة دونباس.
واستكمل البرلمان الأوكراني رسائل التصعيد ضد روسيا بإصداره بياناً مطلعهُ “تخلّي (العاصمة) كييف عن الوفاء بالتزاماتها المنصوص عليها في اتفاقيات مينسك”، مشيراً إلى “ارتفاع كبير في عمليات القصف والتحرشات المسلحة من قبل القوات العسكرية للاتحاد الروسي”، ومطالباً الدول الغربية “باستمرارها في تصعيد إجراءات الضغط على روسيا” (29 آذار/مارس 2021).
وأكّد رئيس هيئة الأركان الأوكراني، رسلان خومشاك، تحركات قواته العسكرية “الدفاعية” وزيادة أعدادها وعتادها في منطقتي “دونيتسك ولوهانسك اوبلاستس، وكذلك باتجاه (شبه جزيرة) القرم”. ووجّهت روسيا تحذيرات متتالية إلى أوكرانيا بأنها تعد العدة لتصعيد الموقف في شرقي أوكرانيا والقرم أيضاً، وبأنها لن تقف مكتوفة اليدين.
لعل أبرز مناحي قلق قيادة حلف الناتو تتمثل في زيادة موسكو معدلات اختراق مقاتلاتها لأجواء دول حلف الناتو، وخصوصاً في بحر البلطيق وبحري الشمال والأسود، إضافة إلى تحليق القاذفة النووية الروسية توبوليف “تي يو-95” الضخمة قرب سواحل النرويج، ما استدعى اعتراضها من قبل مقاتلات نرويجية من طراز “أف-16″، وأخرى تابعة لسلاحي الجو البريطاني والبلجيكي.
يُشار في هذا الصدد إلى إجراء وحدات عسكرية روسية مناورات وتدريبات عسكرية قرب الحدود المشتركة مع أوكرانيا، رصدها حلف الناتو بدقّة، زاعماً أنها لم تعدْ إلى قواعدها بعد انتهاء مهمتها هناك. وقد ردت روسيا بتأكيدها على سيادة أراضيها، وأن “الاتحاد الروسي ينشر قواته العسكرية في أراضيه كما يريد، ولا ينبغي أن يكون ذلك من شأن أي طرف، كما أن القوات لا تشكل تهديداً لأيٍ كان”.
على المستوى الديبلوماسي الأميركي، سارع وزير الخارجية انتوني بلينكن إلى الإدلاء بتصريحات نارية عقب مشاركته في لقاء حلف الناتو على مستوى وزراء الخارجية في بروكسيل، موجهاً حديثه إلى روسيا قائلاً: “أنشئت تحالفاتنا للدفاع عن قيمنا المشتركة”، مستكملاً باستعادة الهدف الأميركي على الصعيد الدولي المبني على أساس “نظام دولي يستند إلى حكم القانون”، متعمداً تجاهل المتغيرات الدولية التي تنادي بنظام عالمي متعدد الأقطاب يعكس حقيقة المتغيرات في مطلع العقد الثاني من القرن 21.
رؤية الرئيس بايدن، بحسب مذكرة رسمية، تركّز على ضرورة “إحياء الولايات المتحدة منابع ميزاتها للتعامل مع التحديات الراهنة من منطلق القوة”، مشدداً على “تحديث القدرات العسكرية الأميركية”، على الرغم من انتهاء الحرب الباردة رسمياً قبل 3 عقود، والهدف الحقيقي هو بسط هيمنة أميركا على نطاق العالم أجمع الذي يدرك أنها تمر في مرحلة تراجع تدريجي، رغم شراسة قوتها العسكرية ونفوذها الطاغي.
وفي ضوء نشر واشنطن قوات وموارد ومعدات عسكرية إضافية بمحاذاة الحدود الروسية، يمكن للمرء التوقف على أبرز السيناريوهات الأميركية المحتملة لتصادم عسكري، منها:
1 – تعزيز جهود الحراسة والمراقبة للمقرات القيادية ومراكز الاتصالات، وإلغاء فرص الإجازات والأعياد، وخصوصاً أعياد القيامة الراهنة.
2 – رفع درجة تأهب القوات الجوية، وبأعداد أعلى من المعدلات السابقة، وسحب بعض موارد القوات الجوية إلى مناطق خلفية أكثر أمناً، وربما تعديل نوعية حمولة القاذفات والمقاتلات وحجمها.
3 – انتشار القوات البرية في رقعة جغرافية أوسع، وخصوصاً تلك التي ترابط قرب القوات الروسية والمواقع الاستراتيجية للحدّ من موجة هجمات مفاجئة. وتعد دول بحر البلطيق أهم ساحات الاشتباك المحتمل.
4 – تفعيل نظم الدفاعات الجوية على طول الحدود المشتركة مع روسيا.
5 – رفع وتيرة المراقبة والتجسس عبر الأقمار الاصطناعية، وكذلك معدلات الطلعات الجوية.
6 – رفع درجة التأهب بين صفوف قوات التدخل السريع المتواجدة في الأراضي الأوروبية، والاستناد أيضاً إلى القوات المحمولة جواً التابعة للكتيبة 82 في قواعدها الأميركية والتي ستكون رأس حربة التدخل في أي مواجهة مرتقبة.
أمام تلك المروحة من الخيارات ولهجة التصعيد المتواترة من الجانب الأميركي تحديداً، وخصوصاً بعد محادثة هاتفية لوزير الدفاع الأميركي لويد أوستن مع نظيره الأوكراني، شدد فيها على “الدعم الأميركي الثابت لأوكرانيا وسيادتها على أراضيها”، والكشف عن مخططات ومناورات عسكرية مشتركة مع دول مناوئة لروسيا، هل أضحى العالم أقرب مسافة إلى أزمة جديدة يلوح بها الطرفان بأسلحة نووية وأخرى غير معلومة؟
الثابت في تلك المقدمات أنّ الساحة أضحت ناضجة بالنسبة إلى حلف الناتو “لاستفزاز” موسكو وإجراء مناورات بحرية في مياه البحر الأسود في الأسابيع القليلة المقبلة، والتي قد تكون تمريناً حياً على بدء أوكرانيا تحرشها العسكري بالقوات الروسية، وتلك المدعومة منها في شرق أوكرانيا، والجائزة الكبرى هي اقتطاع شبه جزيرة القرم من السيادة الروسية، ولكن ليس كل ما يشتهيه المرء قابلاً للتحقيق.
من ناحية أخرى، يعاني تماسك حلف الناتو هذه الأيام حدثين منفصلين من شأنهما تقويض مصداقيته لدى حلفائه وخصومه على السواء؛ الأول يخص ألمانيا التي تئنّ بفعل اكتشاف فضيحة اعتماد سلاح الغواصات البحرية الألمانية على أجهزة روسية الصنع، عقب نشر صحيفتها “بيلد آم سونتاغ” تقريراً يشير إلى “استخدام الغواصات الألمانية معدات الكترونية (نافي سيلور 4100) في نظم بيانات الخرائط البحرية تصنعها شركة “ترانساس” الروسية”، ما استدعى من برلمانها البدء بتحقيق شامل في هذه المسألة. القيادة العسكرية الأميركية اعتبرت المسألة شديدة الخطورة وعدّتها بمثابة “كعب أخيل” في تنفيذ المهام والعمليات العسكرية (نشرة “ديفينس نيوز”، 1 نيسان/ابريل 2021).
الحادث الآخر يخصّ إيطاليا التي أقدمت على اعتقال “ضابط في البحرية” لتورطه في التجسس لصالح روسيا مقابل المال. الضابط الذي يدعى وولتر بيوت يعمل في هيئة الأركان الدفاعية بصفة ربّان فرقاطة، وقد أعّد لقاءً سرياً مع “مشغليه” مساء الثلاثاء 30 آذار/مارس الماضي تسلّم فيه مبلغاً زهيداً وقدره 5،000 يورو (نحو 5،860 دولاراً) لقاء تسليمه وثائق رسمية. وبحكم موقعه المتقدّم، فإنّ من ضمن مهامه القيام بتصنيف درجات السرية في الوثائق الرسمية، “ومن ضمنها وثائق حلف الناتو” (موقع “ذي آفياشينست”، 31آذار / مارس 2021).
سيسمع العالم تكراراً في تصريحات المسؤولين الأميركيين حول “نظام القانون بقيادة الولايات المتحدة”، والذي أشار إليه البيت الأبيض بالتفصيل في مذكرة حديثة بعنوان “دليل مرحلي لاستراتيجية الأمن القومي”، تطرح آلية تفكير الرئيس بايدن ورؤيته “لانخراط الولايات المتحدة مع دول العالم” لإرساء “نظام دولي ليبرالي” (آذار/مارس 2021).
وبحسب الخبراء العسكريين الذين اطلعوا على تلك المذكرة – بحجم 24 صفحة – فإن الفرضيات الأميركية عن فراديتها وترجيح لغة الحرب الباردة لا تأخذ بعين الاعتبار حقيقة التدهور الأميركي سياسياً واقتصادياً وامتداداً عسكرياً، منذ دخول واشنطن مستنقعي أفغانستان والعراق، ولاحقاً سوريا، في ظلّ إعلانها عن نياتها بمواجهة متوازية مع كل من الصين وروسيا، فيما الخاسر الأكبر هو الشعوب وتطلّعاتها إلى التحرر والتنمية المستقلة.