في مواجهة الوصاية الهاشمية.. اردوغان يتسلل بهدوء لتأكيد الحضور التركي/ العثماني في القدس
تغض إسرائيل النظر عن تنامي نشاط المنظمات التركية في القدس، إضافة إلى التشجيع التركي الرسمي للسياحة الدينية إلى القدس، وآخر ذلك القرار الصادر مؤخراً بتغيير اسم دائرة خدمات العمرة التركية إلى “دائرة العمرة وزيارات القدس”.
يحدث ذلك في ظل ترقب لمطالبة تركية متوقعة بتولي مسؤولية إدارية في الحرم القدسي، فقد بات هذا الملف يشكّل تحدياً أمام تنامي العلاقات التركية ـ الإسرائيلية؛ فما أبرز أشكال وأبعاد الحضور التركي المتزايد في المدينة؟
سياحة دينية
في 27 شباط (فبراير) 2021، أمر رئيس مديرية الشؤون الدينية التركية علي أرباش بتغيير اسم دائرة خدمات العمرة إلى “دائرة العمرة وزيارات القدس”، ما حمل دلالة صريحة على الاهتمام والارتباط التركي المتزايد بالمدينة والتوجّه والتخطيط الرسمي لتعزيزه. وكانت المديرية قد أصدرت في العام 2015 قراراً بإدراج زيارة القدس ضمن برنامج المعتمرين، وتنظيم زيارات للمدينة قبل التوجه إلى زيارة المدينة المنورة ومكة المكرمة.
وفي العام ذاته، أعلنت الخطوط الجوية التركية عن تخفيض أسعار تذاكر السفر إلى مطار بن غوريون، بهدف تشجيع الرحلات لزيارة القدس، كل ذلك انعكس على تزايد أعداد السيّاح الأتراك المتوجهين لزيارة القدس، وبحسب إحصاءات إسرائيلية فقد تعاقدت شركات سياحة إسرائيلية مع شركات تركية خلال العام 2015 على نقل ما يناهز 100 ألف سائح تركي لزيارة القدس.
ترميم التراث العثماني
في عام 2008 تأسّست في إسطنبول جمعية باسم “ميراثنا”، لتكون جمعية قائمة بشكل أساسي على الاهتمام بالتراث العثماني في القدس، وتقديم كافة الأعمال والخدمات التي تسهم في الحفاظ عليه، وبما يسهم في إحياء الوجه والهوية العثمانية للمدينة.
جاءت أنشطة هذه الجمعية لتتضافر مع أنشطة الوكالة التركية “تيكا”، التي تنشط في المدن التي توجد فيها الآثار العثمانية كـ”يافا، وعكا، والقدس”. ووفقاً لمعطيات يوردها تحقيق لصحيفة “إسرائيل هيوم” صدر عام 2017، فإنّ “تيكا” قامت بدعم (63) مشروعاً في القدس منذ العام 2004، في حين أنّ جمعية “ميراثنا” استثمرت نحو 40 مليون دولار في البلدة القديمة بالقدس منذ العام 2008.
ومن المشاريع التي قامت بها “تيكا” في القدس: ترميم المقبرة اليوسفية الإسلامية، وطلاء هلال قبة مسجد الصخرة المشرّفة بالذهب، وتجديد دورات المياه في المسجد الأقصى، وتجديد سجاد مسجد قبة الصخرة، وترميم مبنى الزاوية النقشبندية الذي يعود إلى العصر العثماني، وأسّست برنامجاً للأرشفة الإلكترونية لحفظ وتوثيق التراث العثماني.
خطابات سياسية باستحضارات تاريخية
ترافق تزايد الاهتمام التركي بمدينة القدس مع زيادة في وتيرة ومستوى حضور المدينة في خطابات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وهو ما كان قد برز بداية إثر إعلان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب نقل السفارة الأمريكية إلى القدس في كانون الأول (ديسمبر) 2017، فقد أعقب ذلك مباشرة عقد مؤتمر دولي في تركيا، وبدعوة من الرئيس أردوغان، هدّد فيه بقطع العلاقات مع إسرائيل، وصرّح بأنّ هذه الخطوة تُعدّ “تجاوزاً للخط الأحمر بالنسبة إلى المسلمين”.
وقد ارتبط حضور وذكر القدس في خطابات أردوغان باعتبارها مدينة ذات هوية وتاريخ عثماني، ويتحدث أردوغان عن استعادة دور تركي فيها استناداً إلى هذا السند والمرجعية التاريخية، ففي أيلول (سبتمبر) 2019 صرّح أردوغان، في كلمته أمام فعاليات الدورة الـ73 للجمعية العامة للأمم المتحدة، بأنّ “بلاده ستظل مدافعة عن الوضع القانوني والتاريخي لمدينة القدس”.
وفي مطلع تشرين الأول (أكتوبر) 2021، في كلمته بافتتاح الدورة التشريعية للبرلمان التركي، اعتبر أردوغان أنّ “القدس مدينتنا”؛ أي مدينة عثمانية – تركية. وأضاف موضحاً أنّ “قضية القدس بالنسبة إلينا ليست كأيّ قضية جيوسياسية، والبلدة القديمة التي هي قلب القدس بمظهرها وأسوارها وأسواقها ومبانيها الحالية إنّما بُنيت على يد السلطان سليمان القانوني. لقد أولى أجدادنا لهذه المدينة اهتماماً خاصاً وعمّروها واحترموها على مرّ العصور. يمكن العثور حتى الآن على آثار المقاومة العثمانية في هذه المدينة التي اضطررنا إلى مغادرتها بعيون دامعة إبّان الحرب العالمية الأولى، يعني أنّ القدس مدينتنا، ومدينة منّا”. فهو بذلك يؤكد على استحضارها، في مجلس الأمّة التركي، وتأكيد الاهتمام بها والتركيز عليها، وذلك باعتبارها مدينة تنتمي إلى الميراث العثماني – التركي.
زيارات متبادلة
وكان من ضمن وسائل تثبيت هذا الترابط والحضور أيضاً وسيلة الزيارات المتبادلة، والتي تأتي على صعد مختلفة. ففي عام 2005 كانت الزيارات على أعلى مستوى رسمي، كما حصل عندما زار رئيس الوزراء التركي في حينه، رجب طيب أردوغان، المسجد الأقصى، ضمن زيارة رسمية أجراها حينها إلى الجانب الإسرائيلي، إلّا أنّ تلك الزيارة كانت بعيدة عن الطابع الجماهيري الدافئ، فقد دخل أردوغان عندها الحرم القدسي تحت الحراسة الإسرائيلية المشددة. لاحقاً اختلف شكل الزيارات التركية – المقدسية، وأخذ طابعاً أكثر دفئاً وجماهيرية، وإن كان قد أخذ أشكالاً جديدة، ليس بالضرورة على المستوى الرسمي المباشر. ففي كانون الأول (ديسمبر) 2020 زار خطيب المسجد الأقصى، ورئيس الهيئة الإسلامية العليا في القدس الشيخ عكرمة صبري تركيا، وأمّ الصلاة في آيا صوفيا، بعد تحويلها إلى مسجد، وبحضور الرئيس أردوغان، الذي كان في استقباله، ما حمل رسالة على حرص وتأكيد على التواصل مع المدينة وقياداتها.
وعلى الصعيد ذاته أيضاً، وقبل ذلك بنحو العام، كان الممثل التركي ملكشاه أوزَن، أحد أبطال مسلسل “قيامة أرطغرل”، قد زار القدس والمسجد الأقصى، وحظي باستقبال وترحيب كبير من قبل المصلين، الذين التفوا حوله وأخذوا يلتقطون الصور معه. إذ يُعتبر مسلسل “قيامة أرطغرل” من المسلسلات التاريخية التي تخدم توظيفات السياسة التركية الناعمة، وذلك عبر دعم وترويج تصوّرات إسلامية بطولية عن التاريخ التركي – العثماني بين الشعوب المسلمة، بما يعزز ارتباطها وجدانياً ومعنوياً بتركيا المعاصرة وسياساتها، ويعزز من ولاء هذه الشعوب وانحيازها لتركيا وقيادتها الإسلامية.
دلالات وأهداف
تؤدّي خطابات أردوغان عن القدس وفلسطين أغراضاً عدّة، فهي من جهة ترضي وتشبع (معنوياً) قاعدة حزبه الانتخابية من الأتراك المتديّنين، ومن ثمّ تسهم في تشكيل وتعزيز الصورة والرأي العام الإيجابي والمؤيّد تجاه تركيا وأردوغان خارج تركيا، وخصوصاً بين الشعوب العربية والمسلمة (السنّة منهم على وجه الخصوص)، وهو ما يُكسِب تركيا القوة وأدوات التأثير والنفوذ الناعم، وهو ما يتمّ عبر إظهار تركيا ورئيسها باعتبارها صاحبة زعامة إسلامية، وبأنها تدافع عن المسلمين ومقدساتهم في كلّ مكان.
ومن جهة أخرى، يتواكب ويتوافق هذا التوجه التركي لزيادة الترابط بالقدس وفلسطين مع التوجهات الاستراتيجية التركية التي تسعى لزيادة حضور تركيا في منطقة شرق حوض البحر الأبيض المتوسط، من فلسطين، إلى لبنان، وحتى ليبيا، وذلك بغية اكتساب المزيد من الموارد لتركيا وشعبها، وفي مقدمتها زيادة الحصّة في حقول الغاز بالمتوسط، حيث يُعتبر النفوذ والثقل التركي في القدس وفلسطين، في أحد وجوهه، ورقة وعامل ضغط، ضمن هذا الإطار الجيوسياسي.