تيارُ المقاومةِ ومسارُ التسويةِ.. الاتفاقُ والافتراقُ
بقلم: د. مصطفى يوسف اللداوي
كلا التيارين يدعي أنه على الحق، وأنه يخدم الشعب الفلسطيني ويعمل لصالحه، ويتفانى في سبيله ويضحي من أجله، وأن الطريق الذي يسلكه، هو السبيل الأفضل والأسرع لتحقيق أهداف الشعب الفلسطيني، في استعادة أرضه وبناء دولته وتحقيق سيادته وعودة أهله، وبغير منهجه فإن الشعب الفلسطيني يفقد الفرصة ويخسر أكثر، ولن يتمكن من تعويض ما فاته، واستدراك ما كان يمكن تحقيقه، ولهذا فإن كلاً منهما يدعو إلى التمسك بخياره الأصيل، والإصرار على منهجه السليم، والتمسك به وعدم التخلي عنه أو الانشغال بسواه، وقد أثبتت التجربة لكليهما من وجهة نظرهما، عقم الخيار الآخر وعدم جدواه على كل المستويات، وسجَّلَ كل منهما أسباب معارضته للنهج الآخر، وعيوبه ومثالبه، والأضرار التي لحقت بالقضية الفلسطينية وأثرت على حياة الشعب وحقوقه، وكانت سبباً في تدهور أوضاعه السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
يعتقد أصحاب تيار التسوية أنهم الأقدر على تحسين صورة الشعب الفلسطيني، وعرض قضيتهم على المجتمع الدولي، وإبراز مدى عدالتها ومشروعيتها، إذ آمنوا بخيار التسوية والعمل السياسي، واعتمدوا المقاومة الشعبية سبيلاً للوصول إلى الغايات وتحقيق الأهداف، فرأوا أنهم استطاعوا أن يكسبوا الرأي العام الدولي، وأن يكشفوا حقيقة إسرائيل ويفضحوا سياساتها، ويسلطوا الضوء على ممارساتها وانتهاكاتها، وتمكنوا من إدخال “دولة فلسطين” في مختلف المحافل الدولية والمنظمات الأممية، حتى أنها غدت عضواً رسمياً كامل العضوية في العديد من المنظمات الدولية، الأمر الذي جعلها قادرة على الإدعاء على الإسرائيليين ومحاكمتهم.
يعتقد رواد التسوية من الفلسطينيين الذين يشكلون قيادة السلطة الفلسطينية السياسية والأمنية، أن المقاومة والعمل العسكري ضد “إسرائيل” والعنف الموجه المنظم والتلقائي الفردي، لم يعد مجدياً وفاعلاً، ولا يقوى على إحداث تغييرٍ حقيقي إيجابي في مسار الصراع مع إسرائيل، إذ لا يضر بها ولا يؤثر عليها، ويدفعها إلى الرد على عمليات المقاومة بعنفٍ أشد، وبقوةٍ مفرطةٍ تدمر وتخرب وتقتل، وتلحق أضراراً فادحة بالشعب الفلسطيني ومؤسساته، وتساهم في استمرار سياسة الحصار التي يفرضها على المناطق الفلسطينية، فضلاً عن أن العمليات العسكرية الفلسطينية التي يسلط الإسرائيليون الضوء عليها، تضر بسمعة الفلسطينيين دولياً، وتحرض المجتمع الدولي والدول الكبرى ضدهم، وتدفع بعضه إلى قبول الرواية الإسرائيلية وتصديقها، وتكذيب الرواية الفلسطينية ورفضها.
أما قوى محور المقاومة فلا ترى جدوى من مسار التسوية، الذي قاد إلى الاعتراف بدولة “إسرائيل”، ومنحها الشرعية التي كانت تبحث عنها وتتطلع إليها، والقبول بها شريكاً والتنسيق الأمني معها، بما يلحق الضرر بالشعب ومقاومته، كون التنسيق الأمني من طرفٍ واحدٍ لحماية المستوطنين الإسرائيليين، بينما لا يشكل حماية للفلسطينيين ومصالحهم، بل إنه أورد الشعب الفلسطيني موارد التهلكة، وأضر بالقضية الفلسطينية كثيراً، وعرض ما تبقي من الأرض للنهب والسرقة، إذ زادت في ظل مسيرة التسوية عمليات الاستيطان وقضم الأراضي أضعاف ما كانت عليه قبل توقيع اتفاقية أوسلو للسلام، وزادت عمليات القتل والاعتقال والطرد وسحب الهويات وهدم المباني ونسف البيوت.
يصر تيار المقاومة على أن العمل العسكري هو رأس سنام المقاومة الوطنية، ومنهجها العام الأصيل ودربها القويم، وهو سنة الأمم ومسار الشعوب الحرة، التي عانت ومن ويلات الاستعمار وتحررت بفعل مقاومتها ونتيجة تضحياتها، وهي تدرك أن المقاومة المسلحة مكلفة ومرهقة، ولكنها رغم الجراح والآلام، والأسرى والشهداء، والحرب والعدوان، والغارات والمداهمات، إلا أنها تصنع العزة والكرامة، وتبني الشخصية وتحمي الوطن، وتفرض بقوتها معادلاتٍ جديدةٍ يفهمها العدو ويضطر إلى الاعتراف بها واحترامها، وما التزامه مع قوى المقاومة، وعجزه عن اجتياح غزة وكسر إرادتها وجمع سلاحها، إلا خوفاً من سيفها البتار، وذراعها القوي، ورميها البعيد، وإصابتها الدقيقة، وقرارها المستقل وإرادتها الصلبة، ويقينها بأن النصر لها مهما طال، والعودة إلى الوطن أكيدة مهما تأخرت.
ربما أن كلا الطرفين يتطلع إلى استعادة الحقوق الوطنية الفلسطينية المشروعة، وإقامة الدولة الوطنية الحرة المستقلة وعاصمتها القدس، ويريد أن ينعتق شعبه من الاحتلال وينعم بالحرية والاستقلال، ولكنهما يختلفان في شكل الدولة وحدودها، فبينما يقبل فريق التسوية بدولةٍ فلسطينيةٍ على حدود الرابع من حزيران، أو بدويلةٍ أصغر على مساحةٍ أقل، وبصلاحياتٍ بسيطة على جزرٍ أمنية مقطعة الأوصال، ضمن تبادلٍ للأراضي وإزاحةٍ للحدود، وبعاصمة مقدسيةٍ رمزيةٍ شعفاط كانت أو أبو ديس.
فإن تيار المقاومة لا يقبل شعاراتياً بغير الدولة الفلسطينية العتيدة على أرضها التاريخية من البحر إلى النهر، والقدس عاصمتها الوطنية التي كانت، لكنه يوافق في خطابه السياسي وبيانه العام على دولةٍ فلسطينيةٍ على حدود الرابع من حزيران، ضمن شروطٍ يعلم أنها مستحيلة بالتفاوض والحوار ما لم تفرض بالقوة والمقاومة، وهي أنه يقبل بإعلان دولته المستقلة دون الاعتراف بدولة إسرائيل والتسليم بشرعيتها.
بين التيارين الكبيرين المقاومة والتسوية، حيث يجب أن نعترف أنهما تياران كبيران، ولهما أتباع ومؤيدون، مقتنعون ومستفيدون، مؤمنون وموظفون، وإن كنت أعتقد أن تيار المقاومة هو الأقوى والأكبر، والأكثر انتشاراً والأعمق امتداداً، وهو التيار الأكثر تضحيةً وصدقاً، والأخلص عملاً وخدمةً، يقف الشعب الفلسطيني يدفع من حياته وأمنه، ومستقبله وحقوقه، ثمن عدم وفاقهما وضريبة اختلافهما، ويعاني من حرب النكاية بينهما وسياسة الكيد التي تحكمهما، علماً أنه الأقوى بينهما والأكثر ثباتاً فيهما، إذ لولا الشعب الذي هو الحاضنة والبيئة، بصبره وتجرده وعدم ثورته وانقلابه عليهما، ما كان لهما أن يبقيا في الشارع ويسيطران في الميدان.
ينبغي على قادة التيارين حباً في شعبهم، وحرصاً على قضيتهم، وإخلاصاً معهم ووفاءً لهم، أن يتعاونوا فيما بينهم، وأن يتكاملوا في عملهم، ولا يتصادموا في حراكهم، وألا يكونوا سوطاً على شعبهم، وناراً تكوي أجسادهم، فلا يجحد المقاومون جهود غيرهم، ولا يستخفوا بالمقاومة الشعبية والعمل السياسي والجهد الدبلوماسي، وبالمقابل لا يحارب تيار التسوية المقاومة ولا يحتقر دورها ويستهين بأثرها، ولا يقوم بملاحقة أبنائها واعتقال رجالها والإساءة إلى رموزها، وإنما يقوما معاً بالتنسيق والتشاور، والتوافق والتكامل، وتبادل الأدوار والتعاور، حتى نتمكن من تحقيق أهدافنا معاً، والوصول إلى غاياتنا سويةً.
بيروت في 16/3/2021
[email protected]