جولة لافروف الخليجية.. محاولة مستحيلة لتسويق الدب الروسي على حساب الحمار الامريكي
تواصل روسيا مساعيها للدفع بعلاقاتها مع دول الخليج إلى مستويات أعلى، زيارة وزير الخارجية سيرجي لافروف للسعودية والإمارات وقطر تأتي في هذا الإطار، فيما تبدو حقيبته مليئة بالملفات التي تزاوج بين الاقتصاد والسياسة والأمن، هذا في الوقت الذي وصفت فيه الخارجية الروسية الهدف من الزيارة “الضبط المفصل للملفات الرئيسية المطروحة على الأجندة العالمية والإقليمية”.
الجولة التي بدأها لافروف في الـ8 من مارس/آذار الحاليّ ومقرر لها أن تستمر حتى 12 من الشهر ذاته، التقى خلالها قادة وزعماء الدول الخليجية الثلاثة، في وقت تشهد فيه العلاقات الخليجية الأمريكية حالة من الضبابية على خلفية تباين الآراء بشأن حرب اليمن وملف حقوق الإنسان.
موسكو تحاول الاستفادة من الفراغ الذي تتركه المراجعات التي تقوم بها إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن بشأن أسس العلاقات مع الحلفاء الخليجيين، التي كان لها تأثيرها الواضح على توتير الأجواء بينهما، فيما تحاول الدول الخليجية لا سيما السعودية والإمارات إظهار وجود بدائل من الحلفاء بعيدًا عن واشنطن.
أبعاد أخرى ربما تحملها تلك الجولة التي لم تكن الأولى خلال السنوات الماضية، لكن توقيتها ربما العلامة الأكثر حضورًا في تقييم الزيارة التي يبدو أن عنوانها الرئيسي: هل تنجح موسكو في استثمار الجفاء الأمريكي الخليجي في تعزيز نفوذها في الشرق الأوسط؟
تفعيل التعاون الاقتصادي
الزيارة وفق بيان الخارجية الروسية تأتي في إطار مساعي الرئيس فلاديمير بوتين تعزيز الثقة مع زعماء المنطقة العربية من خلال توطيد أواصر الصداقة وتشعيب مجالات التعاون المشترك، استغلالًا لحالة التواصل المستمر بين موسكو والدول الخليجية الثلاثة على مستوى وزارات الخارجية.
الملف الاقتصادي يأتي على رأس أجندة لافروف خلال جولته الحاليّة، حيث تسعى موسكو لتعميق التعاون التجاري والاقتصادي مع الدول النفطية، مع التشديد على ضرورة تطبيق الاتفاقات المبرمة خلال الفترة الماضية التي لم تدخل حيز التنفيذ حتى اليوم.
البيان أشار إلى نمو التبادل التجاري بين الطرفين رغم جائحة كورونا وتداعياتها على الخريطة الاقتصادية العالمية، مستشهدًا بزيادة التبادل التجاري بين روسيا والإمارات خلال عام 2020 بمقدار 78% وبلغ 3.27 مليار دولار، ما يمثل مستوى قياسيًا غير مسبوق خلال السنوات الأخيرة.
يهدف الروس إلى تنويع استثماراتهم الشرق أوسطية لا سيما في الدول النفطية من خلال الصندوق الروسي للاستثمارات المباشرة، فيما يتوقع خبراء أن تسفر الزيارة عن إبرام عدد من المشروعات في مجالات مختلفة أبرزها الطاقة والصناعة والزراعة والبنى التحتية والاستعمال السلمي للمجال الفضائي.
تعزيز الدور الشرق أوسطي
تحاول روسيا عبر تلك الجولة تعزيز دورها وحضورها في العديد من القضايا والملفات الإقليمية التي تسعى من خلالها لتعميق نفوذها الشرق أوسطي، بعدما نجحت إدارة بايدن منذ إمساكها بزمام الأمور في خطف الأضواء من موسكو بشأن تلك الملفات وعلى رأسها الحرب في اليمن والاتفاق النووي.
الانخراط الأمريكي الإيراني في مسار التفاوض لإعادة الاتفاق النووي ودخول العديد من القوى الإقليمية والدولية – ليس من بينها روسيا – على خط الأزمة كان مثار قلق كبير للدب الروسي الذي فقد جزءًا كبيرًا من نفوذه الخليجي خلال ولاية الرئيس السابق دونالد ترامب.
حمل لافروف في حقيبته رؤية بلاده لتسوية الأوضاع في سوريا وليبيا واليمن، بالإضافة إلى التسوية العربية الإسرائيلية، هذا بخلاف العزف على وتر حماية الأمن القومي الخليجي، وهي المسألة التي تندرج تحت حزمة الاقتراحات التي قدمتها موسكو قبل ذلك من أجل التسوية المستدامة في منطقة الخليج.
البيان الروسي اعتمد لغة خطاب ودية، أميل للمغازلة منها لاتخاذ مواقف واضحة، فيما يتعلق بالقضايا والمسائل الخلافية في المنطقة، معربًا عن تمسك موسكو بموقفها الداعي إلى التخلي عن خطاب المواجهة ومناقشة المسائل الخلافية المتراكمة حول طاولة حوار ومشاركة جميع الدول الإقليمية في مساعي إنشاء منظومة أمن جماعي ورد مشترك على التحديات والتهديدات القائمة.
استغلال الفراغ الأمريكي
الوضعية الضبابية الغامضة بين واشنطن وحلفائها التقليديين في الخليج ربما تغري موسكو لمضاعفة الجهود للاستفادة من تلك الأجواء، حيث تقدم نفسها لتلك الدول كبديل في ظل الموقف الملتبس لإدارة بايدن من ولي العهد السعودي والملف الحقوقي والحرب في اليمن، وهو ما كان له أثره على توتير الأجواء بين المملكة والبيت الأبيض.
فشلت روسيا على مدار سنوات عدة في اختراق جدار العلاقات الأمريكية الخليجية الصلب، الأمر الذي أضعف نفوذها في المنطقة رغم الاستفاقة التي شهدتها خلال الأعوام الخمس الأخيرة تحديدًا، مكتفية بتعزيز التعاون الاقتصادي، فيما كان الاقتراب من الملفات التي تتقاطع مع واشنطن على استحياء.
وفي الجهة الأخرى ربما يجد الخليجيون في الرغبة الروسية لأداء دور البديل الجاهز لأمريكا فرصةً لتقديم رسالة لبايدن بأن لديهم خيارات عدة بشان البدائل المحتملة للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، لا سيما أن وضعهم الاقتصادي كدول نفطية غنية ربما يسمح لهم بتصويب علاقاتهم الخارجية لتكون أقرب إلى التوازن والتكافؤ وتبادل المصالح مع مختلف الشركاء.
أستاذ الإعلام السياسي بجامعة الإمام السعودية، عبد الله العساف، يرى أن ما أسماه “الدور الرخو” الأمريكي في المنطقة هو السبب في لجوء الخليج للبحث عن بدائل، مضيفًا خلال مشاركة له في برنامج مسائية DW “التناقضات الكثيرة التي تخدرنا بها أمريكا بدءًا من مسؤوليها في البيت الأبيض وصولًا إلى الرئيس ووزير الخارجية بشأن التقارب مع إيران هي رسالة واضحة لدول الخليج بتراجع مكانتها لدى الأجندة الأمريكية”.
وكشف العساف أن زيارة وزير الخارجية الروسي للخليج ستكون رسالة قوية لـ”أصدقائنا المنافقين في الغرب بتنويع تحالفات دول المنطقة، سواء على المستوى السياسي أم الاقتصادي”، لافتًا إلى أن روسيا تمتلك القدرة على أداء هذا الدور مقارنة بأمريكا، فهي ذات علاقة بأطراف الصراع في المنطقة، حيث ترتبط بالنظام الإيراني بصورة كبيرة، ومن ثم ستصبح أكثر فاعلية.
الرأي ذاته ذهب إليه سياسيون خليجيون يرون أن زيارة لافروف ستكون ورقة ضغط بيد السعودية لإجبار إدارة بايدن إما على تعديل إستراتيجيتها تجاه الرياض وإعادة النظر في استهداف طموحها الإقليمي وإما خسارة الكثير من الفرص الاستثمارية التي من الممكن أن تذهب للخصم الروسي كما ذهبت قبل ذلك للصين.
طموح روسي في دور البديل
لم تملك روسيا المقومات اللازمة لأداء دور البديل الأمريكي في الشرق الأوسط، هذا ما ذهب إليه أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في الجامعة الأردنية، حسن البراري، الذي قال إن برود العلاقات بين واشنطن والخليج، لا سيما السعودية، لا يعني القطيعة بين الطرفين، كما أنه لا يمكن لأحد أن يقوم مقام واشنطن في هذا الملف تحديدًا.
وأشار البراري أن الملف الخليجي ملف أمريكي من الدرجة الأولى، فالعلاقة الإستراتيجية القائمة بين دول الخليج وأمريكا راسخة منذ 1945 حينما التقى الملك المؤسس عبد العزيز بالرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت في بارجة بحرية بمياه قناة السويس، حينها تم التوصل إلى اتفاق عُرف بـ”اتفاق كوينسي” وذلك بأن توفر أمريكا الحماية غير المشروطة للمملكة بشكل عام مقابل ضمان السعودية لإمدادات الطاقة التي تستحقها الولايات المتحدة.
ويذهب أستاذ العلوم السياسية إلى أن روسيا لا تستطيع توفير ما توفره أمريكا من حماية للخليج ولا الضغط على إيران، متسائلًا: هل يمكن أن تضغط موسكو على طهران لتهذيب سياستها وفق الرؤية السعودية؟ مجيبًا: أستبعد ذلك، لافتًا في الوقت ذاته إلى أن زيارة لافروف تأتي في سياق الاستثمار الروسي بحالة الجفاء السياسي بين واشنطن والسعودية على وجه التحديد.
وفي المقابل تنفي المحللة المتخصصة في الشأن الروسي، إيلينا سوبونينا، رغبة موسكو في الاصطياد بالماء العكر بشأن العلاقات الخليجية الأمريكية المتوترة، لافتة إلى أن هناك خطةً روسيةً مسبقةً لتعزيز التعاون مع دول الخليج، وكانت زيارة بوتين منذ عامين للرياض وأبو ظبي جزءًا من تلك الخطة.
وأشارت أن روسيا تحاول بناء معادلات معقدة مع دول الشرق الأوسط مقارنة بسياسة الاستقطاب الأمريكية، فالروس على علاقة جيدة مع السعودية والإمارات و”إسرائيل”، كذلك مع قطر وتركيا، وليس لديها أزمة مع أي من تلك القوى، مقارنة بالأمريكان الذين يسعون لتشكيل معسكرات وتحالفات معينة، تحقيقًا لأجندات خاصة.
في المجمل لا بد من الإشارة إلى أن السعودية تعلم يقينًا أن أمنها وأمن الخليج مرتبط بصورة أو بأخرى بترمومتر العلاقات مع الولايات المتحدة، إيمانًا بأن واشنطن وحدها من تستطيع مناهضة النفوذ الإيراني في المنطقة عبر حزمة الضغوط الممارسة على طهران والمستمرة منذ 1979.
التقارب الواضح بين موسكو وطهران في أكثر من ملف أحد بواعث القلق لدى دول الخليج ولعل هذا هو السبب الأبرز وراء تباطؤ خطوات الولوج في تحالف عسكري سياسي بين الطرفين، رغم المساعي الروسية الحثيثة للإسراع للوصول إلى تلك المرحلة.
السعودية ومعها الإمارات يرغبان في إيصال رسالة لبايدن عبر ورقة الضغط الروسية، لكن لا يمكنهما بأي حال من الأحوال الخروج عن العباءة الأمريكية التي تمثل مظلة الحماية للعديد من الأنظمة الحاكمة في دول المنطقة، وهو ما عبر عنه ترامب أكثر من مرة خلال خطابات سابقة له.
إعلان إدارة بايدن إعادة ضبط وتقييم العلاقات مع السعودية كان صدمة كبيرة للرياض، التي سعت عبر حملات علاقات عامة مكثفة داخل الولايات المتحدة إلى التأثير على قيادات الكونغرس والرأي العام الأمريكي للضغط على الإدارة الجديدة لتصويب علاقتها مع المملكة.
وفي الأخير.. رغم حالة الجفاء السياسي بين أمريكا والخليج والضغوط التي تمارسها الإدارة الديمقراطية تجاه بعض حكومات المنطقة وما تحمله زيارة لافروف من دلالات وتبعث به من رسائل، فإن الدول النفطية تميل إلى مواجهة الرياح العاتية في البيت الأبيض والكونغرس وتحمّل المزيد من الضغوط أكثر من الارتماء في أحضان موسكو، الأمر الذي يجعل تلك الجولة لا تبارح إطارها الاقتصادي على أقصى تقدير.