همس الإرهاب والفساد عن الثورة التونسية التي تأكل أبناءها

بقلم : توفيق المديني

صدق الثائر الفرنسي الشهير جورج جاك دانتون عندما قال وهو أمام مقصلة الإعدام ” إنَّ الثورة ُتأكلُ أبنائَهَا ” ،مستكملاً المثل الفرنسي القائل ” من السهل أن تبتدئ الثورات ولكنَّ من الصعب أن تنهيها بسلام “.
في الذكرى العاشرة للثورة التونسية ،اكتشف الشعب التونسي طابعها المزيف،فهي ليست استثناء في تاريخ الثورات التي شهدها التاريخ الحديث والقديم .إنَّ نقد الأحزاب السياسية التي تتكلم باسم الثورة التونسية ليس مجرد نقد أفكار وآراء يتفق المرء مع بعضها ويختلف مع بعضها الآخر، بل صار يفترض أن يكون نقدًا للتجربة السياسية والإيديولوجية لهذه الأحزاب لا سيما حزب الإسلام السياسي (حركة النهضة)،الذي يحكم في تونس منذ 2011 ولغاية اليوم ،من خلال التحالفات المتقلبة التي أقامها مع أحزاب الفساد المنتمية إلى الدولة العميقة (النداء، وقلب تونس )والتي أخفقت جميعها في حل مجموعة من المعضلات التي يواجهها الشعب التونسي.
تنامي ظاهرة العنف الإجتماعي و الإرهاب بعد الثورة في تونس
رغم أنَّ “الثورة التونسية” لم تقع في المحظور الذي كانت تنتظره السلطة الديكتاتورية البوليسية منها،أي الانجرار إلى استخدام العنف الثوري المضاد،و لم تتوسل وسائل عنفية في مواجهة آلة القمع البوليسية، بل تمسكت بأسلوبها النضالي السلمي والنظيف،حيث حفظت لمطالبها صورتها الديمقراطية: ليس في نظر العالم الخارجي الذي يراقبها،وإنما أساساً في نظر شعبها.
ورغم أيضًا أنَّ العديد من الباحثين والإعلاميين والسياسيين التونسيين والعرب لا يترددون بتوصيف الشعب التونسي كـ “شعب مسالم لا علاقة له بالعنف والإرهاب”،وأنَّه من “أكثر شعوب العرب مسالمة ونبذا للعنف بالمعنى العصري للسياسة”،فإنَّ ظاهرة العنف السياسي والإرهاب،برزت في تونس بشكل واضح وجلي عندما استلم الإسلام السياسي متمثلًا بحزب النهضة بزعامة الشيخ راشد الغنوشي مقاليد الحكم في تونس بعد انتخابات 23أكتوبر 2011،حيث أفسح في المجال لنمو التنظيمات ذات الطابع العنيف والإرهابي، أي الحركات الجهادية الإرهابية والتكفيرية.
و رغم أنَّ حركة النهضة الإسلامية تمايزت عن نهج الحركات الجهادية العنيف عندما كانت في المعارضة، لكنَّ عندما أصبحت في السلطة التي استخدمت فيهاالديمقراطية كطريق معبدة للوصول إلى الحكم، تحولت إلى القوة الحامية والمدافعة عن الجماعات السلفية المتشددة المرتبطة بتنظيم “القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي”،أوميليشيات ما يسمى “رابطات حماية الثورة” التي باتت تمارس الإرهاب على أوسع نطاق ضد رموز المعارضة التونسية،والاتحاد العام التونسي للشغل ،ومكونات المجتمع المدني الحديث من أساتذة جامعيين،وإعلاميين،منذ تشكلها في عام 2012، والتي تحولت لاحقًاإلى تنظيم سياسي يحمل اسم “ائتلاف الكرامة” الذي أصبح ممثلاً في البرلمان بنحو 18 نائبًا،و أصبح نواب كتلة الكرامة يمارسون العنف داخل البرلمان،ويُحَقِرُّونَ وضع المرأة التونسية.
وكان محمد العفاس، النائب عن “ائتلاف الكرامة “التونسي، قد أدلى مؤخرًابتصريحات عديدة خلال جلسة برلمانية عامة مهاجمًا حقوق المرأة وحرِّيتها التي وصفها بـ”حرية الوصول للمرأة”، مضيفا بأنَّ التحرر”هو أن يكون المرء عبدًا للموضة والشهوات والغرب ولدعوات الانحلال”. وقارن في حديثه، والذي وصفه مغردون بالـ”عنيف والمتطرف”، بين المرأة التونسية والمرأة في الغرب قائلاً: “مكاسب المرأة عندهم هي الأمهات العازبات والإنجاب خارج إطار الزواج والحق في الإجهاض والحريات الجنسية”. واسترسل قائلاً “الأمهات العازبات إما عاهرات أو مغتصبات، الإجهاض هو قتل نفس بغير نفس والحرِّية الجنسية هي عهر”، كما وصف المثلية الجنسية بالـ “شذوذ والفاحشة وعكس الفطرة”.
وأدان الاتحاد الوطني للمرأة التونسية تصريحات العفاس التي تضمنت “تحقيرًا وترذيلاً للمرأة التونسية”، وقرَّر”رفع هذا التعدي إلى أنظار العدالة”، داعيًا بقية نواب مجلس الشعب لإدانة الخطاب وإصدار موقف رسمي لشجبه”. كما عبرت الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات عن استيائها الشديد من خطاب العفاس واصفينه بالـ”خطاب الداعشي والانتهاك الصارخ للدستور والحقوق”، كما رفضوا إدراجه “تحت غطاء حرية التعبير”.
“ائتلاف الكرامة” هو ذراع حركة النهضة الداعشي،وحركة النهضة جزء من موجة حركات الإسلام السياسي القويّة التي اجتاحت العالم العربي بعد”ربيع الثورات العربية”في عام 2011،نتيجة تحالف بين الإخوان المسلمين والسلفيين وأمراء الخليج،وهو تحالف كبير للإسلام السياسي الإخواني السنّي مع الإمبريالية الأمريكية والكيان الصهيوني وتركيا، الذي يضمّ أمراء الخليج وسائر الحركات الإسلامية من أجل فرض نظامٍ دينيّ متشدّد وتطبيق الشريعة، وإجهاض الثورة الديمقراطية الحقيقية التي تقود إلى إعادة بناء الدول الوطنية العربية على أسس مدنية حديثة و ديمقراطية تعددية.
إذا كان الإسلام السياسي الذي ركب موجة الثورة التونسية بشكل انتهازي يتبنى النهج السلمي، فبماذا نفسر العمليات الإرهابية التي شهدتها تونس إبان سيطرته المطلقة على كل دواليب الدولة التونسية بعد سنة 2011،إذ شهدت تونس أزمة سياسية وأمنية حادة من جرّاء اغتيال القائد السياسي اليساري المناضل شكري بلعيد الأمين العام لحزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد، يوم الأربعاء 6 فبراير 2013، وكذلك اغتيال النائب الناصري عن التيار الشعبي محمد البراهمي في يوم عيد الجمهورية 25 تموز/ يوليو 2013.
فقد شكلت عمليات الاغتيال هذه،اغتيالاً للثورة التونسية، ولطموحات و آمال الشعب التونسي في تحقيق أهداف ثورته الديمقراطية،وجريمة دولة بامتياز،وهي سابقة خطيرة في تونس،إذ لأول مرة تشهد البلاد التونسية حالة من هذا الاغتيال السياسي لشخصيتين وطنيتين معارضتين تنتميان إلى اليسار القومي التونسي الراديكالي.
فكيف نفسر وجود أكثر من 8000 إرهابي تونسي تكفيري (كحدّ أدنى) قاتلوا على دفعات وفي فترات مختلفة في العراق وسورية وليبيا… وغيرهم ممن شاركوا في مالي وقبلها في الجزائر وأفغانستان والبوسنة والهرسك والشيشان؟ وكيف نفسر منع وزارة الداخلية لنحو 29 ألف تونسي منذ سنة 2012 من مغادرة أرض الوطن للالتحاق ببؤر الصراع في سورية ؟وبماذا نفسروجود ‬1390 ‬تونسيا (‬1349 ‬من ‬الذكور و‬41 ‬من الإناث)‬مفتّشا ‬عنهم ‬دوليا ‬بتهم ‬تتعلّق ‬بالإرهاب؟
وبماذا نفسر السلوك “الوحشي” لبعض التونسيين تجاه المدنيين أفرادا ومؤسسات في بؤر الصراع: قتل وتمثيل بالجثث وتفجير المباني العامة والخاصة على ساكنيها؟ بل كيف نفسر ما قام به “الدواعش” في تونس تجاه سكان سفوح الجبال التونسية من ذبح وقتل وتمثيل بعشرات من العسكريين ورجال الحرس الوطني والشرطة والمدنيين تونسيين وأجانب؟
وبماذا نفسر حجم النساء التونسيات الناشطات في صفوف المجموعات السلفية التكفيرية في بؤر التوتر،لا سيما سورية،إذ جاء في إحصائية قدمتها وزارة الداخلية التونسية أن عدد التونسيات اللواتي التحقن بالمجموعات المتشددة المسلحة سواء خارج البلاد في صفوف “جبهة النصرة” و”تنظيم الدولة الإسلامية” في سوريا والعراق أو داخل تونس في صفوف “جماعة أنصار الشريعة” أو “كتيبة عقبة بن نافع” التابعة لتنظيم الدولة لا يتجاوز 300 امرأة. كما تحدثت بعض المصادر عن وفاة 18 امرأة تونسية في بؤر التوتر.
سقوط الاستبداد في سنة 2011،وصعود الإسلام السياسي لاعتلاء المشهد السياسي التونسي لا يعني تبخر المسألة الاجتماعية بل يعني قابلية الهشاشة الاجتماعية وتراجع الدّولة للاستتار السياسي في مسار مضاد للبناء الديمقراطي المنشود بعد الثورة ،وهو تراجع اقترن بدخول المجموعات السلفية التكفيرية والعنيفة مع دورها في الحقل الدّعوي والتعليمي إلى الفضاء الاقتصادي والتجاري في مجال التجارة في الملابس الجديدة والمستعملة (الفريب) والنقل العمومي والمحلات التجارية الصغيرة.. هذا النشاط التجاري الموازي وغير المهيكل أحياناً هو المدخل لبناء قاعدة اقتصادية لهذ التيارات السلفية التكفيرية،لأن هذه المشاريع مربحة وتوفر لأصحابها والملتحقين بها المساعدة المالية وحتى الحرفاء والمستهلكين وساعد الجماعات السلفية على احتواء الأشخاص من كلّ الفئات بما في ذلك المنحرفين وأصحاب السوابق العدلية وحسن توظيفهم داخل مجالات التجارة مع العمل على التغيير المرحلي لتصرفاتهم وسلوكهم وقناعاتهم حتى تتقارب مع سلوكيات الجماعية العقدية ذات الطابع الإرهابي.
في ظل الثورة تحولت تونس لدولة فاشلة وتآكل نظامها الصحي مع كورونا
لا شك أنّ العديد من المراقبين يشكل لهم استخدام تعبير “الدولة الفاشلة” لتونس،بمنزلة الصدمة، نظرًا لأنّها البلد العربي الوحيد الذي شهد انتقالآً ديمقراطيًا ناجحًا نسبيًا.غير أنّ هذا لا يشفع من توجيه سهام النقد الموضوعي لطبيعة الدولة التونسية في وضعها الراهن،حين نلمس جوانب فشل قاسية في أدائها،وصلت في النهاية إلى أزمات اقتصادية واجتماعية حادّة أطلقت موجات متتالية من الاحتجاجات الاجتماعية والهجرة غير الشرعية للشباب العاطل عن العمل،وحاصرت التونسيين، فانهارت القدرة الشرائية لديهم،وتعرض الكثيرون منهم للعطش في مختلف المحافظات ،وفُقِدت الأدوية ،وانهارت العديد من المستشفيات.
في ظل اقتصاد ليبرالي هش يتسم بغياب القدرة التنافسية وضعف حركة النمو، تتزايد في تونس جميع الأشكال المتعلقة باللامساواة الاجتماعية، حيث يتآكل النظام التعليمي والنظام الصحي ونظام الخدمات العمومية، مما أدى على مدى سنوات الثورة إلى طحن الطبقات الشعبية،وإضعاف الطبقة الوسطى وانحدارها إلى محيط الفقر، الأمر الذي خلخل “التماسك الاجتماعي”،وأحدث فُتُوقاً في الروابط الاجتماعية، وأنتج أشكالاً جديدة للإقصاء، سواء في المدن أو الأرياف.
انقلاب الأوضاع صار جليا منذ 2011 فمسار الانتقال الديمقراطي كاد يكتفي مرَّة أخرى بإدماج تاريخي صدامي ثم توافقي للإسلامين في الحقل السياسي،واستعصى الأمر على إدماج الطبقات الاجتماعية الفقيرة وغير المعترف بها إما بسبب المحافظة على خيارات اقتصادية واجتماعية لا تزال ليبرالية تدافع عنها معظم الأحزاب السياسية من الإسلام السياسي إلى أحزاب اليمين العلماني،أو بسبب ضعف التمثيل المدني والسياسي لهذه الطبقات الشعبية.
وازداد ضعف الدولة التونسية بسبب جائحة الكورونا ،وعجز ذراعها اليسرى بتعبير عالم الاجتماع الفرنسي بياربورديو أي ذراعها الاجتماعي بعد عقود من التهرئة لقدراتها الاجتماعية ومن التنظير للتقشف وهو ما يعني أنَّ الدولة التونسية رغم تمثيلها الديمقراطي للإرادة العامة عبر الانتخابات الحرَّة والنزيهة لا تملك سياسات اجتماعية واقتصادية عادلة وقادرة على تحقيق التنمية المرتقبة باتجاه التصدي لتحديات العدالة الاجتماعية.
وأخذت تونس منذ الثمانينيات نصيباً وافراً من فك التزام الدولة الاجتماعي ودعم القطاع الخاص،وقد أدّى هذا الأمر إلى انبثاق مشاريع مجتمعية (الحركات الجهادية، وصول الإسلاميين إلى الحكم، انتشار الشعبوية). لكنَّ الأمر لا يتعلق بهذا النطاق وحده بل بـ “تآكل الأنظمة العمومية”(الصحة و التعليم). ففي سياق تونسي تميزه اللامساواة والشعور المتنامي بالإقصاء الاجتماعي، بعد الثورة التونسية،صار للطبقات المرفهة إمكانية التعويل أكثر على قطاع خاص بصددِ التَمَدُّدِ، في حين أنَّ الفئات الضعيفة والهشة بقيتْ تابعةً لِقطَاعٍ عُمُومِيٍّ رثٍّ. فالتعليم والصحة بوصفهما الرمز القوي للسياسات التنموية والاجتماعية، بل ورمز مشروع التحديث الذي قامت به دولة الاستقلال، صارَا جزءاً من استقطاب هو في طور التشكل بين الـ “هُمْ” المحتكرون للرساميل المادية والرمزية، والـ “نحن” هشة ومقصية وموجودة على تخوم المجتمع، تناضل بكل الوسائل المتاحة لافتكاك مكان داخل النظام.
فالصراع المجتمعي في تونس ليس صراعًا طبقياً بالضرورة بل هو “صراع مواقع” حيث لا تطالب الطبقات الشعبية و المهمشون بأن يتم تغييرمنوال التنمية السائد بل “بالعيش مثل الآخرين”، وهو ما يجعل خطاباتهم موسومة بنزعة معيارية تتحدث عن “الحُقْرة” (الاحتقار) و”الكرامة “و”الرغبة في عيش الحياة”. إلّا أن الشعور السائد أنَّ دولة اللاعدالة تتنامى (بحسب الباحثة بياتريس هيبو) وذلك بغياب التناظر الاجتماعي والمجالي (بين الفئات والجهات)، الذي يظهر بوصفه أحد مكونات الدولة ونتاج السياسات العمومية، وما تفعله الخيارات النيوليبرالية المتبناة هو إعادة إنتاج للامساواة على مدى أزمنة متعاقبة وبأدوات متعددة، وهذا ما تكفلت به أغلب الحكومات التي جاءت ما بعد إزاحة بن علي، تحت ضغط شروط التداين الخارجي من جهة، والمطالبات الاجتماعية من جهة أخرى.
ومن ملامح إعادة إنتاج اللامساواة استمرار جعل المناطق الداخلية مجرد خزان لليد العاملة ومنجماً للثروات الطبيعية. بالمقابل تُترك هذه المناطق لتدبير حالها عبر اقتصاد التهريب الذي صار يشكل 52 في المئة من الناتج المحلي. فتلك المناطق صارت خارج سلطة الدولة الاجتماعية(حسب قول الباحث في علم الاجتماع فؤاد غربالي).
إنقاذ تونس لا يتم إلا عبر إسقاط الطبقة السياسية الحاكمة
في تونس التي تعيش وضعًا استثنائيًا، يمكن أن يتِـم الإقرار فيها بوجود فشل ذريع في أداء الدولة التي فقدت هيبتها كثيرًا، وبوجود طبقة سياسية حاكمة وفاسدة ،لكنها تتمتّـع بوجود في ظل انهيار الدولة، وفشل أغلب الحكومات المنبثقةعن الانتخابات الديمقراطية التي جرت في سنتي 2011، و2014،2019،في إصلاح الدولة التونسية، وبناءً دولة المواطنة،لأنها جميعها كانت خاضعة لاستراتيجية الدول الغربية (الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي )، ولشروط وإملاءات المؤسسات الدولية المانحة(صندوق النقد والبنك الدوليين)، ولم تكن نابعة من استراتيجية وطنية في إعادة بناء الدولة.ورغم وجود نظام استبداديي على قمة السلطة في عهد الرئيس السابق بن علي،فإنّه لم يكن من الممكن وصف تونس بالدولة الفاشلة، على نقيض ما تعيشه البلاد منذ سنة 2011 ولغاية الآن،في إطار ما يمكن وصفه بِ”سراب الدولة” وليس الدولة الحقيقية.
في الذكرى العاشرة للثورة التونسية،تهيمن في تونس اليوم طبقة سياسية فاسدة متشكلة من حزب الإسلام السياسي(حركة النهضة) وروافده من”ائتلاف الكرامة”(سلفي)وشبكات التهريب والاقتصاد الموازي،ومن أحزاب اليمين العلماني(الأحزاب المنشقة من حزب نداء تونس )، وهي كلها أحزاب تنتمي إلى الدولة العميقة التي أصبحت مقسمة مناصفة بين اليمين الديني واليمين العلماني،وتدافع هذه الطبقة السياسية الحاكمة عن رجال المال والأعمال النافذين والمحميين والمستقويين بالدولة الفاسدة،ويصعب إقامة مشروع استثماري وإنتاجي خاص في تونس،من دون الشَرَاكَةِ التي يطلبها النافذون و المحميون.
تصادر هذه الطبقة السياسية و المالية المتنفذة أراضي الدولة ، عنوة أو “بالتي هي أحسن”أو”بالتفسير الإستقوائي” للقانون، بعد أن وظفت المؤسسة القضائية لخدمة مصالح العائلات المالكة المهيمنة على معظم دواليب الاقتصاد التونسي، الرسمي و الموازي (وتعدادها حوالي 45 عائلة) ،مادام القضاء فاسدًا، فينتج من ذلك احتكار مالي يحجب الفرص و الثروة عن عموم الشعب التونسي.
لم تكن تونس قبل هذه الثورة العتيدة على هذه الصورة،فالنظام السابق الديكتاتوري في عهد الرئيسين الراحلين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، لم يكن يحتكر كل المال وكل السياسة وكل النفوذ، بل كان يحدد مساحته المالية و السياسية ، ويترك للمتحلقين حوله ولأنصاره،ومريديه،بل-و أيضا-لمن هم خارج دائرة الأنصار و المريدين.
وكان النظام السابق يحيط نفسه بوزراء يمتلكون كفاءات عالية في إدارة وزاراتهم وشؤون الاقتصاد الوطني ، و”يصطاد كبارمثقفي المعارضة الديمقراطية الليبرالية واليسارية والقومية،من ضمن معادلة المكاسب المتبادلة، يعترفون بشرعيته التاريخية، ويعترف هو بكفاءاتهم وطموحاتهم بالوصول والنفوذ.هكذا كان الحال في ظل نظام بورقيبة وبن علي، الذي لم يكن يحتقر الثقافة، ولم يكن يحتكر كل المال.
في زمن ما يسمى “بالثورة التونسية”،تشكلت طبقة سياسية جديدة من الأثرياء الجدد، مطعمة برجال المال و الأعمال النافذين،طبقة “الأوليغارشية” متشكلة من لصوص وحرامية وقطاع طرق،سواء أكانوا وزراء،أونواب، أوقيادات أحزاب سياسية،أو مدراء شركات وإدارات وبنوك،همهم الوحيد هوالسرقة،والنهب،ومص دماء الشعب التونسي، وممارسة سياسة الكذب المفضوح.
غالبية هذه الطبقة السياسية التي أفلست الدولة التونسية، التي كان يضرب بها المثل في الغرب،وأفقرت الشعب التونسي، وجلبت المجاعة لتونس، وقادت إلى الإنهيار المالي والاقتصادي الذي تعيشه الدولة التونسية الفاسدة و الفاشلة،ماذا نسميها؟ وما تعريفها؟وما المصطلح الذي يمكن إطلاقها عليها؟إنها طبقة الفساد و النهب والثورة المضادة!
“الاستثناء التونسي” بكل مسوغاته و المقصود به نجاح الثورة التونسية في تحقيق عملية الانتقال الديمقراطي من دون الدخول في أتون الحروب الأهلية التي شهدتها بلدان عربية أخرى مثل ليبيا وسورية و اليمن،مقولة يتم توظيفها بغير وجه حق للتغطية على طبيعة الدولة التونسية الفاسدة و الفاشلة و المنهارة ماليا و اقتصاديا.
في الذكرى العاشرة للثورة التونسية،أصبح إنقاذ تونس لا يمكن أن يتم إلا عبرإسقاط هذه الطبقة السياسية الفاسدة والانتهازية و المتشكلة من محترفي صنع سياسة النخاسة في صالونات المناطق الراقية من تونس العاصمة، و المرتبطة بالأجهزة الأمنية المتنفذة في الدولة العميقة ، وبلوبيات الفساد و رجال الأعمال المتنفذين ، وبسفارات دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، وبعض الدول الإقليمية(قطر، تركيا ،الإمارات) ، إضافة إلى أنها تخترق معظم الأحزاب التونسية سواء منها الحاكمة أم في المعارضة ،و باتت هي التي ترسم الملامح العامة للمشهد السياسي التونسي، وبالتالي تشكيل المجتمع السياسي التونسي ، وفق ما تتطلبه استراتيجية و أهداف لوبيات الفساد ورجال الأعمال ،وكذلك مصالح الشركاء الغربيين لتونس، والمؤسسات الدولية المانحة، من أجل السيطرة على مقدّرات الدولة التونسية، و التحكم في خياراتها الوطنية،الأمر الذي يقود إلى فقدان تونس لسيادتها الوطنية.
فهذه الفئة من النخب التونسية لم تنتح علما للسياسة أو معرفة بل شاء لها أن تبقى ذات طبيعة محترفة للسمسرة ، وتبرز وتتفرد بالتحكم في المشهد السياسي الوطني العام من خلف الستار ، عبر مسكها بمقدرات مالية فكرية قضائية –عسكرية- صناعية- نقابية-جمعياتية – إعلامية …إنها تقوم بدور حكومة الظل غير المرئية للعامة من التونسيين.وقد ولدت هذه الفئة منذ أن كان الاستعمار الفرنسي جاثما على أرض تونس ، ومع نشوء دولة الاستقلال التي كانت تعتمد تاريخيا على الكوادر المتخرجة من المدارس و الجامعات الغربية، و لا سيما من المدرسة القومية للإدارة في فرنسا ، وبقية المدارس العليا في المجال الاقتصادي و التجاري و التكنولوجي في كل من بلدان أوروبا و أمريكا.
خاتمة :تونس بين خيار عقد اجتماعي جديد أو الخراب و الفوضى
تونس تحتاج إلى عقد اجتماعي جديد يطرح تحقيق انتظارات الشعب التونسي وحقوقه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية أي بتحويلها إلى مطالب تهدف لتغيير السياسات العمومية وفي السّياق التّونسي طرح مطالب الثورة في التنمية العادلة ومقاومة الفقر على محكَ الواقع. عقد اجتماعي جديد يكون الاقتصاد فيه في خدمة المجتمع وليس العكس وتوجيه السياسات الاقتصادية والنقدية والاستثمارية لتحقيق النمو المحقق بدوره للتنمية.
التضحية بالتنمية لفائدة النمو هو مربط الفرس في النقد الذي يوجه لمنوال التنمية السابق والمتواصل الذي وصل إلى مأزقه المحتوم في سنة 2010بشهادة المؤسسات الدولية المانحة، فقد تم التخلي عن استراتيجية استبدال الواردات بالصناعات المحلية التي تم إتباعها منذ الاستقلال والتخلي أيضاً عن السياسات القطاعية والأقطاب التنموية الإقليمية وعن كلّ استراتيجية تنموية والمراهنة وفقاً للعقيدة الليبرالية الجديدة على آليات السوق والانخراط في العولمة وهو انخراط تحقق على مرحلتين الإعلان في 1986 ثم التجسيد الفعلي سنة 1995 وكلّ تقييم جدي لهذا الاندماج في العولمة عبر بوابة الشراكة مع الاتحاد الأوروبي تشير إلى مستفيدين رئيسيين الاتحاد الأوروبي والأوليغارشية المالية التي كانت مرتبطة بمنظومة الفساد وإلى متضرر رئيسي هو الشعب التونسي وخاصة فئاته الهشة التي انتفضت تريد التغيير.
إن العقد الاجتماعي الجديد في تونس يتمثل في تحقيق انتظارات الشعب التونسي عبر ميلاد حكومة وطنية تلتزم ببرنامج وطني ينطلق من الأمور التالية:
الأول: بلورة منوال جديد للتنمية قادر على فك الأواصر مع نهج التبعية للمؤسسات الدولية المانحة ولشركاء تونس من الدول الغربية،و تأسيس تنمية اقتصادية مستدامة في البلاد من نوع آخر ،مكان النظام الاقتصادي المهترء و الفاقد لكل صلاحية وشرعية ، تنطلق من بناء الاقتصاد الاجتماعي التضامني . ومن خلال هذا الخيار ، لا يمكن التعويل على قوى السوق وآلياته في تحقيق هذا الهدف، حيث إن المطلوب هو التحرر من القيود الرأسمالية العالمية، لأن منافعها تعود إلى الطرف الأقوى على حساب الطرف الضعيف، فتزيد القوي قوة، والغني غنى، وتزيد الضعيف ضعفاً، والفقير فقراً. ويصح ذلك على العلاقات داخل الدولة، وفي العلاقات الدولية.
لأن التبعية قادت إلى تعطيل الإرادة الوطنية للدولة التونسية وفقدانها السيطرة على شروط إعادة بنائها من جديد بعد سقوط النظام الديكتاتوري السابق.فسياسات الحكومات التونسية المتعاقبة منذ 2011 و لغاية الآن، توضع انطلاقا من تلبية شروط المؤسسات الدولية المانحة، وليس انطلاقاً من تحقيق انتظارات الشعب التونسي،كما أن السياسات ترسم في ضوء تكريس الاعتماد على المعونات المالية و التكنولجية الغربية ، لا اعتماداً على تعبئة الموارد المحلية و الادخار الوطني.
الثاني:القيام بالإصلاح الاقتصادي والاجتماعي الذي ينطلق من سياسات التنمية الشاملة والمستدامة، وتحقيق هدف زيادة معدلات النمو الاقتصادي مع تحقيق عدالة التوزيع, والعدالة الاجتماعية، وحُسن توزيع الدخل والثروات،و ترشيد كفاءة السياسات الاستثمارية،و التفاعل الإيجابي بين التوجه التنموي للدولة والمشروع الخاص، وتحقيق العلاقة الإيجابية بين فوائد السوق والتدخل الحكومي ،و إدارة عملية التقدم التكنولوجي والمعرفة، بما في ذلك إصلاح التعليم ، والتوجه على نحو عملي وفعال لمعالجة مشكلة الأمية والبطالة في المحافظات الفقيرةالتي عانت من التهميش وغياب مشاريع التنمية،من أجل منع استقطاب الشباب المهمش والعاطل عن العمل من قبل التنظيمات الإرهابية.
الثالث:على الدولة التونسية أن تتدخل لبناء الاقتصاد الاجتماعي التضامني ، القادر وحده على تصحيح التوازنات المفقودة لمنوال تنمية تونسي في أزمة. ومن بين هذه التوازنات المفقودة في تونس، هيمنة نمط (رأسمالي )وحيد على المؤسسة والموجه نحو خلق قيمة لفائدة الطبقة الرأسمالية الطفيلية و رجال الأعمال الفاسدين ،و التوسع الهائل لنطاق السوق والمنافسة لمصلحة أقلية وخصوصًا على حساب الخدمات ذات المصلحة العامة، وتقلص التضامن الجماعي و الديمقراطي مقابل التضامن الإنساني و الخيري(غالبا ما تحكمه شبكات محسوبية ذات طابع ديني ) و لا سيما في تونس خلال فترة حكم الترويكا بقيادة حزب النهضة الإسلامي ، وتفاقم ظواهر الاقصاء الاقتصادي و الاجتماعي و التهميش الثقافي في الولايات التونسية الداخليىة و الواقعة على الحدود مع الجارتين الجزائر و ليبيا، و تفاقم اللامساواة داخل المؤسسة،وبين المواطنين، و بين الجهات ، وبين الولايات الداخلية و الولايات الساحلية المطلة على البحر،والمقاربة الضيقة لمعنى الثروة و الرفاه التي انحصرت في البعد الاقتصادي فحسب، وتجاهلت البعد الاجتماعي و البيئي، إلى جانب رؤية للدولة الاجتماعية مقتصرة على دور الترميم وتخفيف الصدمات متجاهلة دورها في الوقاية و الاستثمار الاجتماعي، علاوة على حرمان المواطنين من المشاركة النشطة في اتخاذ القرارت الاقتصادية المؤثرة في حياتهم وحياة أجيالهم المقبلة، والحفاظ على التنمية المستدامة و احترام توازناتها، وتطوير قاعدة الموارد الطبيعية، وخدمة الصالح العام، وحصر المواطنين في دور المستهلكين أو المنتجين لمجتمع السوق.
الرابع:إقامة منظومة مكافحة الفساد في إطار استراتيجية وطنية عامة ومتكاملة، من خلال العمل على ملائمة القوانين التونسية مع أحكام اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، ولا سيما تجريم “الإثراء غير المشروع “، و إقرار تدابير”حماية الشهود و المبلغين”، وتطوير آليات متابعة نموثروات المسؤولين السياسيين ورجال الأعمال ،كالتصريح بالمكتسبات،ومكافحة التهرب الضريبي في انخفاض الإيرادات العامة للدولة التونسية،خصوصًا أن ثمة عوامل قائمة أدت إلى توسيع درجة اختراق الفسادللنظام الضريبي و تعميقه.فتونس لا تتمتع بمصادر “ريعية”متمثلة في عوائد صادرات النفط و الغاز، وكذلك مواد أولية و معدنية أخرى غالبا،لهذا السبب تصبح الضرائب تشكل أهم مصدر تمويل ميزانياتها العامة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى