جمال عبد الناصر.. خمسون رحيلاً وما زال عرينه شاغراً ودوره قيد الانتظار

                       قد تطولُ الاعمارُ لا مجدَ فيها    ويضمُّ الامجادَ عمرٌ قصيرُ

                                                                                         بدوي الجبل

من براري الاحزان نقطف حروف الرثاء، ومن شهقات هذا الزمان نذرف دمع الكبرياء، وفي مثل هذا الوقت من كل عام نتقبل سيل العزاء تلو العزاء، في رجل تشرّفت الرجولة بالانتساب اليه، وبطل ترعرعت البطولة بين يديه، وزعيم اشتاقت الزعامة الى امثاله، بعد ان لم تعد تجد في وطن العروبة غير الحكام الجرابيع.
٢٨ ايلول/ سبتمبر، يوم للحزن النبيل والحسرات الحارقة لقلوب احرار العرب، ففي مسائه عام ١٩٧٠ حُمّ القضاء، وعَمّ البلاء، وزلزلت الارض زلزالها، وقذفت الفجيعة اهوالها، وعقدت المفاجأة لسان لغة الضاد، فتاهت الكلمات عن معانيها، وضاقت العبارات عن مراميها، وعجز الناعي عن صياغة نعي يليق بعملاق، واحتار الصدق كيف يجد من يُصدّق ان الموت قد اختطف بغتة مارداً في حجم جمال عبد الناصر ، وهو يُعد ويستعد لخوض “ام المعارك” مع العدو الصهيوني.
الحزن يولّد الحزن، والكرب يورث الكرب، فالمشهد العربي الراهن طاعن في الاسى، وجنائزي حد الجزع، ومأتمي في كل جوانب الحياة.. الاجواء ملبدة بالسواد، والقلوب تنبض بدقات الحداد، وفلسطين – قضية العرب المركزية!!! – معروضة للبيع في المزاد، والتطبيع بالجملة وعلى عينك يا تاجر، والشعوب ممزقة بين نائم عن واجبه او هائم على وجهه، والانظمة موزعة بين غارق في همومه او مارق عن امته، والايام – ايامنا – ثقيلة في خطوها، وغريبة عن ذاتها.. فليلها بلا نهار، وصبحها بلا مساء، وحاضرها بلا غد يمكن الرهان عليه والركون اليه.
في ذكرى رحيله، ماذا نقول “لابي خالد” عن حال امته التي امضى عمره كله في خدمتها، وبذل كامل حياته في سبيل عزتها وسيادتها، وقضى وقوفاً وهو يلم شملها ويقيل عثارها ويستنهض روحها ويجهد لتحقيق وحدتها؟؟
هل نقول له ان امته، التي كانت ماجدة، باتت منكوبة ومنهوبة ومعطوبة تخون نفسها كل يوم، وتسعى الى حتفها بظلفها، وتنقاد لنواطير النفط والرمال، وتنبذ الحرية لتشتري التبعية والعبودية، وتبحث عمّن يُحقّرها ويصادر سيادتها ويغتصب خيراتها ويبصق على راياتها؟؟
هل نقول له ان الخيانة باتت بديهية لا تستحق الادانة، وان الصهينة اصبحت شرطاً لزومياً لبقاء حكامنا في مناصبهم، وان المبادئ الوطنية والقومية صارت بضاعة قديمة ومنتهية الصلاحية، وان خط السير العربي الحالي امسى معاكساً تمام التعاكس للمناهج والبرامج الناصرية.. فقد كان “ابو خالد” يجاهد لتحرير فلسطين، ولكن اهل اوسلو باعوها، وكان يسعى لتحقيق الوحدة العربية، ولكن سفلة الرجعية اضاعوها، وكان يكافح لاشاعة العدالة الاجتماعية، ولكن دهاقنة الرأسمالية استفظعوها، وكان يحضّ  بني قومه على التحرر من هيمنة واشنطن، ولكنهم سجدوا لها واطاعوها.. ثم اطاعوها واطاعوها !!
عموماً، لسنا اليوم في مقام السياسة، بل في مهجع الذكريات الحزينة والفقد المؤلم، ولكن ما يجري في بلادنا هذا الاوان من صنوف الذل والهوان، وبما يناقض العقل السياسي السليم، ويخالف الصالح العربي العام، ويعاكس المشروع القومي الناصري على طول الخط.. يعيد الى اذهاننا حقبة الخمسينات من القرن الماضي، نظراً لتشابه وقائعها بدرجة كبيرة مع احداث اليوم، مع الفارق الهائل في النتائج والمحصلات بين حضور عبد الناصر آنذاك وغيابه في الوقت الحالي.
ففي عقد الخمسينات، وبعد ان خرجت اوروبا من الحرب العالمية الثانية مثخنة بالجراح، ومثقلة بالخسائر والاعباء.. تخلت عن موقع القيادة في القاطرة الاستعمارية اللعينة، واورثته للولايات المتحدة القادمة من خلف الاطلسي مدججة بالثروة والقوة، ومؤهلة لمواجهة البعبع الاحمر، او الدب السوفيتي الذي رقص على اطلال المستشارية الهتلرية، وغادر ساحات الحرب منتصراً، ومسلحاً بترسانة نووية، ومسيطراً على الشطر الشرقي من الجغرافيا والديموغرافيا الاوروبية.
بحكم وجود النفط واسرائيل، كان من الطبيعي ان يتصدر الوطن العربي تحديداً، والشرق الاوسط عموماً، ميادين الصراع في خضم “الحرب الباردة” بين القطب السوفياتي الصاعد، والوريث الامريكي الوافد، الذي امطر بلادنا بوابل من المشاريع والمخططات الامبريالية الهادفة لكبح جماح القيامة القومية العربية.. بدءاً بحلف بغداد، ومروراً بحلف السنتو، وليس انتهاءً بنظرية “ملء الفراغ” التي ابتدعها الرئيس دوايت ايزنهاور.
ولكن ليثاً هصوراً من وزن عبد الناصر كان لهم بالمرصاد، وكال لهم الصاع صاعين، واجهض خططهم واحبط مؤامراتهم، وقاد بكل اقتدار حركات التحرر الوطني، ليس العربية فقط، بل الافريقية والآسيوية وفي امريكا اللاتينية التي تشكلت لدى بعض جيوشها خلايا بعنوان “الضباط الناصريين الاحرار”.. ولا ضرورة للتذكير بتأميم القنال، وبناء السد العالي، واحباط عدوان السويس، واسقاط حلف بغداد، وارسال نوري السعيد وعدنان مندريس الى جهنم، وتتويج ختام الخمسينات بتشييد دولة الوحدة المصرية – السورية.
وعليه، فقد دارت الايام دورة تاريخية واسعة يبلغ قطرها نحو سبعين عاماً (١٩٥٠-٢٠٢٠) وافاقت امريكا من غرورها وفجورها لتجد نفسها مرزوءة بحكم ترامب، وموبوءة بفيروس كورونا، ومملوءة بافاعي التمييز العنصري، ومدينة للصين بارقام ترليونية، وفاقدة للكثير من وزنها النوعي ومكانتها العالمية، ومثقلة باعباء انتشارها العسكري في معظم ارجاء المعمورة.. الامر الذي دفع “الدولة العميقة” فيها لمراجعة حساباتها السياسية المركزية والاستراتيجية، وحتّم عليها التهيؤ لانسحابات عسكرية تدريجية وبعيدة المدى من جملة مواقع وقواعد وجبهات مُكلفة.
واضح جداً حتى للاعمى سياسياً، ان امريكا الحزب الجمهوري “الفاشي” تجهد كل الجهد لاستخلاف اسرائيل على قيادة العالم العربي، وتوريثها عملاءها (امريكا) واتباعها واشياعها من الحكام والنخب ورجال المال والاعمال العرب، وتسليمها مفاتيح النفط وملفات الامن ومقاليد الامور.. وما هذه الهجمة التطبيعية الشرسة التي تشنها ادارة ترامب “اليهودية/ الكوشنيرية” حالياً على المؤلفة قلوبهم من المحسوبين عرباً، الا حلقة من حلقات التوريث والاستخلاف والتسليم والاستلام.
هذا المخطط ليس وليد الساعة ولا ابن اليوم، حتى وان تولت ادارة ترامب تسريع آلياته وتظهير مسوداته وتنفيذ الجزء الاوقح من مكوناته، وانما كان قيد الانتاج والاخراج منذ عهد بوش الابن والمحافظين الجدد وشعارات “الفوضى الخلّاقة” و”الشرق الاوسط الكبير”، وكل ما سبق ولحق غزو العراق واحتلاله واسقاط نظامه وتفكيك جيشه.. ثم اغتيال الحريري وتحميل التبعة لسوريا بقصد فك ارتباطها العضوي بلبنان وسحب جيشها من ارضه.. ثم هجمة تموز الصهيونية التي كان مُقرراً لها ابادة حزب الله عن بكرة ابيه، لولا تضحياته الجسام وشجاعته الاسطورية وحكمة قيادته الملهمة.. ثم كارثة الجحيم- وليس الربيع – العربي الذي اكل الاخضر واليابس، وفتك بمراكز الثقل وعواصم القرار العربي باكثر من قصفها بالقنابل النووية، واتاح للهوامش الصحراوية والمشيخات البدوانية التافهة التفلت من عروبتها، والاستجابة السريعة لاوامر كوشنير بالارتماء في احضان العدو الصهيوني المتربص بهذا السقوط الجماعي، والمتحفز لالتقاط منتجاته، منذ عشرين عاماً.
غير ان حسابات الحقل الاسرامريكي لن تتطابق مع حسابات البيدر الشرق اوسطي.. ذلك لان عملية التسلم والتسليم اياها لن تتم بسهولة ويسر، بل دونها خرط القتاد، وتلاطم الاضداد، وتفجّر الاحقاد، وانفلات الامن الاقليمي، وانهمار الغضب الدامي، واتساع دائرة الرافضين للهيمنة الاسرائيلية على المنطقة.. بدءاً بايران وتركيا، وليس انتهاءً بروسيا والصين. واوروبا التي باتت تحنّ الى ماضيها الاستعماري، وتتلمس طريق العودة الى مرابع سيطرتها القديمة، بدلالة زيارات ماكرون الاخيرة وانخراطه في الشؤون الليبية واللبنانية.
تذكروا – اخواني القرّاء – ان القائد الذي اسقط رموز الاستعمار الاوروبي، وطرد بريطانيا وفرنسا وبلجيكا من العالم العربي والقارة الافريقية، هو جمال عبد الناصر الذي اتسعت همته لآمال امته، رغم ان عمره لم يتسع لاكثر من ٥٢ عاماً، وها نحن نتقبل اليوم العزاء في رحيله الخمسين.. رحمه الله.

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. مقال بديع لا يقدر عليه آلا قلم مبدع و كاتب شريف.
    بعد خمسين عاماً من رحيل أبو خالد نجد أن أكثر العرب الآن أجدر بالرثاء من زعيمهم الخالد رحمه الله

زر الذهاب إلى الأعلى