هكذا كان المسلمون يحتفلون بالاعياد عند انتشار الكوليرا والطاعون والملاريا

يستقبل المسلمون عيد الفطر هذا العام في ظروف استثنائية حرجة، حيث تفشي فيروس كورونا المستجد الذي يتطلب لمواجهته إجراءات احترازية أجبرت الجميع على البقاء في المنازل، لتغيب عنه كل الطقوس والمظاهر الاحتفالية التي اعتادها الجميع وكانت تُدخل الفرحة على بيوت المسلمين.
من منظور شرعي فإن فرحة العيد شريعة إسلامية، إذ ينبغي على كل مسلم أن يجاهد لإدخال الفرحة والبهجة على نفوس أهله وأبنائه، وهو ما حثنا عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، غير أن الأجواء الراهنة ليست مهيأة لتحقيق هذا المقصد الشرعي، فكل مصادر الفرحة شبه مغلقة أو معطلة، هذا بخلاف حالة القلق التي تخيم على الأجواء وتلعب دورًا كبيرًا في إفساد فرحة العيد كما كان الحال في رمضان.
وفي ظل التزام المسلمين بإجراءات الحظر داخل المنازل وإغلاق الحكومات والأنظمة للمتنزهات ودور السينما والحدائق العامة ونوافذ الترفيه التقليدية التي كان يقصدها الجميع في مثل هذه المناسبات، يبقى السؤال: هل من الممكن الاحتفال بالعيد في ظل تلك الأجواء القاتمة؟ وإذا كانت الإجابة نعم، فكيف يتم ذلك؟ هذا ما نسعى للإجابة عنه في هذه الإطلالة السريعة.
التاريخ يعيد نفسه
عرف المسلمون عبر تاريخهم الطويل العديد من التجارب المشابهة للوضعية الحاليّة، حيث شهدوا عبر محطات تاريخية عدة عددًا من الأوبئة التي تصادفت وأعيادهم، غير أن تعاملهم مع تلك الأوبئة يختلف إلى حد كبير مع الممارس اليوم، ويرجع ذلك لمستوى الوعي والثقافة العامة وحملات التوعية والإرشاد مقارنة بما كان عليه الوضع قبل ذلك.
ومن أشهر الأوبئة التي عرفها المسلمون أوقات الأعياد وشهر رمضان، الطاعون والكوليرا والجدري والجذام والملاريا وغيرها، إلا أن الطاعون كان أكثرها شراسة، لأنه انتشر عبر موجات متلاحقة على مر قرون عدة، وأودى بحياة مئات الآلاف من مصر إلى الشام والعراق والحجاز.
أستاذة التاريخ في جامعتي روتجرز وساوث كارولاينا الأمريكيتين، نكهت فارليك، استعرضت طقوس المسلمين في المناسبات الدينية التي شهدت انتشار الأوبئة، على رأسها الطاعون الأسود الذي انتشر في سوريا ومصر، بين شهري نوفمبر/تشرين الثاني وديسمبر/كانون الأول من عام 1348، وهي الفترة التي شهدت شهر رمضان وعيد الفطر.
تقول المؤرخة المتخصصة في تاريخ الإمبراطورية العثمانية إن المسلمين في تلك الأوقات كثفوا من ممارسة شعائرهم الدينية، فخرجوا للمساجد وعقدوا الاجتماعات، وقد نقلت عن الرحالة الشهير ابن بطوطة تدوينه لما رآه خلال مروره بالشام في هذه الأزمة، حيث دوّن رؤيته لشعائر الصوم والمواكب الدينية التي كانت تهدف لدرء الطاعون.
الوضع تكرر عام 1420 حين تفشى الطاعون في بعض البلدان الإسلامية، لكن هذه المرة كانت القيود أكثر إحكامًا، فمنعت الصلاة في المساجد والتزم المسلمون بيوتهم وتجنبوا الخروج في العيد، هذا بخلاف منعهم من زيارة المقابر التي كانت أحد أبرز الطقوس في الأعياد.
وفي عام 1579 اضطر المسلمون لقضاء عيد الأضحى في المنازل بسبب وباء الطاعون الذي أودى بحياة الآلاف، الأمر الذي دفع إلى تأجيل مواكب الحج الخارجة من مصر في هذا العام، بجانب تعليق أنشطة حركة التجارة في البصرة وغيرها من بلدان الشام، فيما مكث المسلمون أيام العيد كاملة والفترة التي سبقتها ولحقتها داخل البيوت.
الوضع اختلف حين ضرب الطاعون إسطنبول عام 1592، حيث استمر لعدة أشهر، تضمنها العيدين، فأمر السلطان حينها بالصلوات الجماعية وبتنظيم المواكب وذبح الأضحية وتوزيعها على المحتاجين وأفرج عن السجناء ومارس المسلمون وقتها كل طقوس الاحتفالات بالعيد.
وتتشابه الأجواء الحاليّة مع ما شهدته بعض المجتمعات المسلمة أواخر القرن التاسع عشر، حين قطعت الكوليرا الطريق أمام الحج هذا العام، خاصة بعد افتتاح قناة السويس، ما سهل من عملية انتشار الوباء عبر السكك الحديدية والبواخر، كما أجبر الحجاج على البقاء في الحجر الصحي لأسبوعين تقريبًا في منطقة البحر الأحمر، في ظل أوضاع متدنية للأماكن المخصصة للحجر.
الأمر لم يقتصر على المسلمين فحسب، حيث أجبرت الأوبئة العديد من أتباع الديانات الأخرى على تغيير طقوس احتفالاتهم بأعيادهم، كما حدث حين ضربت “الإنفلونزا الإسبانية” العالم عام 1917، حيث تصادف ذلك مع عيد الفصح، وكان الأمريكان يمارسون في هذا العيد بعض العادات والتقاليد أبرزها تقليد يهودي قديم يسمى “حفلات الزفاف الأسود”.
في هذا التقليد يتم زواج شخصين لا يعرفان بعضهما البعض، داخل مقبرة مظلمة، ويرجع هذا الطقس إلى الاعتقاد بأنه من وسائل طلب المغفرة الإلهية، غير أن مثل هذه الممارسات لم يقبلها سكان العاصمة الأمريكية واشنطن، ما دفع مسؤولي الصحة بالمدينة إلى قمع التجمعات الدينية بعد اعتبارها مصادر لنشر وتفشي الوباء.
الاحتفال رغم الحظر
رغم خضوع الغالبية للإجراءات الاحترازية وبقائهم داخل البيوت، فإن هناك عددًا من المقترحات للتحايل على تلك الأجواء القاتمة وتلمس فرحة العيد داخل البيت، لعل أبرزها ما يتعلق بالأطفال، كونهم الأكثر تأثرًا على المستوى النفسي بغياب طقوس الاحتفال بالعيد، وهو ما يستدعي التعامل معهم بإستراتيجية مختلفة.
خبراء الإرشاد النفسي يعتبرون أن الآباء أمام مهمة استثنائية لتهيئة أطفالهم بالمستجدات التي فرضت نفسها هذا العيد، حتى يتكيفوا مع الوضع الجديد، كضرورة تهيئتهم نفسيًا لتلك التطورات والتعامل معها بذكاء شديد، هذا بجانب فتح باب النقاش مع الأطفال عن أفكار ومقترحات كيفية قضاء العيد داخل البيت.
ومن ضمن المقترحات التي من الممكن أن تحقق الحد الأدنى من إحساس الاحتفال بالعيد رغم الحظر، تلبية احتياجاتهم من الطعام والشراب المحبب لديهم، كذلك توفير الألعاب الشيقة، مع الحرص على الاحتفاظ بعادة شراء لبس العيد وارتدائه والإشادة به، إضافة إلى مراعاة منحهم نقود العيد “العيدية” حتى إن لم ينفقوها هذه الأيام.
ومن مظاهر الاحتفال كذلك إقامة صلاة العيد داخل المنزل، حيث أجاز العلماء أداءها فرادى أو جماعات، وذلك عبر بث شعائرها عن طريق التلفاز أو المذياع، ويجلس الآباء والأمهات والأبناء في صفوف متسقة داخل البيت وكأنهم في العراء، يرددون التكبيرات ويبتهلون لله، حتى موعد إقامة الصلاة ويؤمهم فيها رب الأسرة.
وما إن ينتهوا من الصلاة يجلسوا جميعًا على مائدة إفطار واحدة، يتبادلون أشهى الطعام المخصص للعيد، مع الوضع في الاعتبار ضرورة التزام الأمهات بطعام العيد التقليدي الذي يختلف من بلدة لأخرى، حتى تتنفس الأسرة فيه روائح العيد وعبقه الجميل الذي يخيم على المنزل بأسره.
أجواء البهجة لا بد أن تخيم على البيت كذلك، حيث تزيين كل أرجاء المكان بصورة أكثر كثافة من الظروف العادية، مع وضع بعض الديكورات المميزة وتعطيره بشكل كبير والاستماع للأغاني والأناشيد المخصصة للعيد، هذا بالإضافة إلى توزيع الهدايا والألعاب في جوانب البيت بصورة تحوله إلى متنزه عائلي لافت للأنظار.
ومن وسائل التشجيع والتشويق للأطفال للتكيف مع الوضع الجديد إجراء المسابقات بينهم، سواء كانت مسابقات تقنية عن طريق الألعاب الإلكترونية أم مسابقات خاصة بالذكاء عن طريق الرسائل الشفهية، والفائز تمنح له جائزة مادية قيمة، تظلل سحائب الفرحة على سماء البيت وأرضه.
وفي ظل التباعد الاجتماعي وعدم القدرة على التزاور بين الأسر والعائلات، يمكن توظيف مواقع التواصل الاجتماعي في تعويض هذا النقص، وذلك من خلال إجراء المكالمات (فيديو) للتواصل وتبادل التهاني والتبريكات بين أفراد العائلة والأصدقاء، ويتساوى في ذلك من هم داخل البلدة الواحدة ومن هم خارجها، بل يمكن إجراء مكالمات مجمعة لأكثر من أسرة بما يشبه تجمعات الأندية والمراكز الاجتماعية.
الدفء الأسرى هو الآخر حاضر بقوة في مظاهر الاحتفال، فرب ضارة نافعة، فمن الممكن أن يجتمع أفراد الأسرة على أريكة واحدة لمشاهدة أحد الأعمال السينمائية أو المسرحية، وذلك بعد الاستفتاء عليها من الجميع، والعمل الذي يحصل على أكبر قدر من التصويت يتم مشاهدته، في جو عائلي بهيج يتخلله استراحات لتناول بعض المشروبات أو المأكولات في أجواء تشبه إلى حد ما أجواء السينما والمسرح.
قد لا تحقق تلك الممارسات الأهداف المنشودة بصورة كاملة، لكنها في أقل تقديراتها ستلبي الغرض وتوفر الحد الأدنى من الاحتفال بالعيد في ظل تلك الظروف الاستثنائية التي يشهدها العالم، انطلاقًا من القاعدة الفقهية التي تقول ما لا يدرك كله لا يترك جله، وذلك لحين تجاوز تلك الأزمة وعودة الحياة لطبيعتها مرة أخرى.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى