الجيش العربي السوري في مواجهة الاحتلال التركي

فيمَا تَرْسُمُ انتصارات الجيش العربي السوري في معاركه التحريرية لريف حلب الجنوبي الغربي، وريف إدلب الشرقي باتجاه الأطراف الغربية لمحور العيس وذلك عبر السيطرة على الطريق (الاوتستراد) الدولي الذي يربط بين حلب ودمشق ، مشهداً جديداً، تنقلب معه كل الحسابات الإقليمية والدولية لمصلحة الدولة الوطنية السورية، ومحور المقاومة في المنطقة.
تعالت أصوات الرؤوس الحامية الداعمة لدى النظام التركي للتنظيمات الإرهابية ،ولا سيماالرئيس رجب طيب أردوغان،الذي أعطى الأوامرلدخول الجيش التركي في الحرب الدائرة،عبر الدفع بمئات الآليات العسكرية والجنود لاحتلال الأراضي السورية الواقعة شمال البلاد، في سعيه المحموم لمنع انهيار المجموعات الإرهابية المسلحة،وعرقلة تقدم الجيش العربي السوري من تحرير مدينة إدلب والوصول إلى تطبيق كامل اتفاقات سوتشي وآستانة.
ويأتي تصاعد العدوان التركي ،الداعم لإرهابيي”جبهة النصرة”،ليزيل كل الشكوك التي ساورت البعض بأنَّ رئيس النظام التركي أردوغان ،لم يكن شريكاً للضامنين الروسي والإيراني بالعمل على إيجاد حلول للأزمة عبر”آستانة وسوتشي”،وإنَّما كان الناطق والمتحدث الرسمي باسم التنظيمات الإرهابية التي يرعاها،والتي تُعَدُّ جُزْءًا أســــــاسيًامن تشكيلاتها العسكرية التي تقاتل تحت راية “الـبــــــاب العالي”، لإعادة إحياء الامبراطورية العثمــــــانية البائدة.‏
كما أنَّ هذا العدوان التركي الجديد المدعوم من قبل الإمبريالية الأمريكية ،وحلف “الناتو” يندرج في إطار العداء الأمريكي -الأطلسي المتصاعد ضد روسيا ،وحماية ما تبقى من فلول الجماعات الإرهابية التي لا تزال موجودة في ريفي حلب و إدلب،كي يفوزأردوغانعلى نصيبه البائس من الكعكعة الأميركية والصهيونية، أوالاحتفاظ على أقل تقدير بمساحة نفوذ على طاولات التسوية السياسية للأزمة السورية بعد انتهاء الحرب.
معركة السيطرة على الطريق الدولي حلب-دمشق “إم5”
تمكَّنت وحدات الجيش العربي السوري المدعومة من الحلفاء من تحرير منطقة خان العسل وحي الراشدين 4 بعد عمليات مكثفة ضد تجمعات إرهابيي تنظيم “جبهة النصرة “والمجموعات المرتبطة به في الاطراف الغربية لمدينة حلب ومقراتهم والقضاء على آخر تجمعاتهم، وبذلك تكون قد استكملت تحرير الجانب الشرقي من الطريق الدولي حلب دمشق بالكامل.‏ فقد سيطر الجيش العربي السوري بشكل كامل على القسم الذي يربط مدينة حلب بمدينة حماة من الطريق، مع استكمال قواته في السيطرة على المناطق في ريف إدلب الشمالي الشرقي المتاخم لريف إدلب الجنوبي الشرقي، وبعد استكمال السيطرة على منطقة الراشدين الرابعة بضواحي مدينة حلب الغربية. وبالتوازي تواصل وحدات من الجيش تعزيز انتشارها في محيط الطريق الدولي حلب دمشق في قرى وبلدات الزربة وايكاردا بعد تحريرها من الإرهاب.‏
وفي ظل هذه الانتصارات العسكرية، أصبح الجيش العربي السوري مسيطرًا منذ الثلاثاء الماضي على القسم الأكبر من طريق دمشق- حلب الدولي الذي يربط جنوب البلاد بشمالها، والمعروف باسم “إم 5″،والذي يُعَدُّ أهم الطرق الدولية في سورية،إذ دارت معارك طاحنة للسيطرة عليه خلال العامين الماضيين ، بين الجيش العربي السوري والتنظيمات الإرهابية المسلحة .
وتكمن أهمية الطريق الدولي “إم 5” ، من كونه ينطلق من أقصى جنوب سورية وصولاً إلى أقصى شمالها ،ماراً بالعديد من المدن السورية الكبرى في محافظات عدة.
إذْيبدأ هذا الطريق من الحدودية السورية الأردنية، حيث يقطع محافظة درعا، وصولاً إلى العاصمة دمشق، ومنها يخرج من شمالها الشرقي بمحاذاة غوطة دمشق الشرقية من شمالها الغربي. ومن ثم يمر بمدن وبلدات منطقة القلمون في ريف دمشق، أو على تخومها، ومنها مدن النبك ودير عطية، وقارة وحسياء، وصولاً إلى ريف حمص الجنوبي، ثم إلى قلب حمص في وسط سورية، ليخرج من شمالها باتجاه مدينة الرستن الشهيرة، بمحاذاة مدينة تلبيسة من الجهة الغربية. ومن بعد مدينة الرستن، يدخل الطريق إلى ريف حماة الجنوبي، ومن ثم يقطع حماة إلى ريفها الشمالي، حيث يقطع مدناً وبلدات عدة منها قمحانة، وطيبة الإمام، ومعردس، وصوران، ومن ثم إلى ريفَي إدلب الجنوبي والشرقي، مخترقاً مدن شيخون، ومعرة النعمان، وسراقب(تم تحريرهما مؤخرًا من قبل الجيش السوري )، ليدخل بعد ذلك ريف حلب الجنوبي، حيث يمرّ بالقرب من أو بمحاذاة بلدات ومناطق عدة، منها إيكاردا، والزربة، وخان طومان، والعيس، وصولاً إلى حلب، كبرى مدن الشمال السوري، ليخرج منها إلى مدينة أعزاز إلى الشمال منها بأكثر من 50 كيلومتراً، حيث يشكل ما يُعرف بطريق حلب- غازي عينتاب التركية.
وكانت فصائل المعارضة السورية المسلحة والتنظيمات الإرهابية قد سيطرت على أجزاء كبيرة من هذا الطريق في سنة 2012،الأمر الذي عقد حركة التنقل للأفراد و السلع بين دمشق وحلب ، فبعد أن كانت الطريق “إم 5” لا تتستغرق الـ 5 ساعات بين دمشق وحلب،أصبحت الرحلة تستمرّ أكثر من 15 ساعة أحياناً في ظروف بالغة الصعوبة، وخصوصاً على المدنيين.
بدأت معارك التحرير لهذا الطريق الدولي منذ سنة 2018،حين حرّر الجيش العربي السوري محافظة درعا بالكامل في جنوب سورية ، بما فيها معبر نصيب الحدودي مع الأردن، إذ يبدأ هذا الطريق من جنوب سورية، ثم استمرت رحلة التحرير، حين سيطر الجيش العربي السوري على مدينة خان شيخون في أغسطس/آب 2019،إِذْ شكّلت عملية تحريرها منعرجًا حاسمًا في السيطرة على هذا الطريق الدولي من جهة ريف حماة الشمالي.ولكنّ التحريرالأكبر حصل حين سيطر الجيش العربي السوري على مدينة سراقب في ريف إدلب الشرقي، والتي تُعدّ عقدة هامة، حيث يجتمع عندها الطريقان “إم 5” و دمشق-اللاذقية “إم 4″، الذي لا يقل أهمية عن سابقه.
وبعد سيطرة الجيش العربي السوري على الأقسام الأساسية و المدن الرئيسية التي يمر منها الطريق الدولي “إم5″، من جنوب سورية إلى شمالها، لم يبق من الطريق خارج سيطرة قوات الجيش العربي السوري ، سوى القسم الذي يربط حلب بالحدود السورية التركية، والمعروف بطريق حلب عينتاب، بدءاً من مدينة أعزاز، وصولاً إلى الحدود مع تركياحيث معبر باب السلامة،الذي تسيطر عليه التنظيمات الإرهابية التي تتلق الدعم العسكري و اللوجستي و المالي من تركيا و أمريكا .
فالتحول الحقيقي في الحرب التحريرية، تبدأ من خلال السيطرة على هذه الطريق الدولية “إم5″،
باعتباره من أهم طرق الترانزيت من تركيا إلى سورية، ومن ثم الأردن، وصولاً إلى دول الخليج العربي، لذلك فهو يشكل أهمية كبيرة للدولة الوطنية السورية الساعية إلى إلىإنعاش الاقتصاد السوري الذي يعاني من أزمة الحصار و العقوبات الدولية .
لماذا يواصل أردوغان إرسال جنوده إلى شمال غربي سورية؟
بعد سيطرة الجيش العربي السوري بشكل كامل على الطريق الدولي “إم 5″، بوعد سيطرته على كافة المناطق في ريف حلب الجنوبي الغربي المتاخم لريف إدلب الشمالي الشرقي، جنّ جنون رئيس النظام التركي رجب طيب أردوغان،الذي أعلن يوم الأربعاء12فبراير/شباط 2020، عن خطوات بلاده المنتظرة في إدلب، ردًّا على سقوط قتلى وجرحىمن الجنود الأتراك ، خلال الأيام القليلة الماضية.
فقد أكَّد أردوغان في كلمة أمام نواب حزبه، العدالة والتنمية، في البرلمان التركي، أن طيران النظام لن يحلق بحرية بعد الآن في أجواء إدلب.ولفت الرئيس التركي إلى أن حصيلة ضحايا بلاده في إدلب بلغت 14 قتيلًا و45 جريحًا من الجنود الأتراك ، مُشَدِّدًا على أنَّ الرَدَّ سيطال النظام في كافة أماكن تواجده.
كما جدَّدَ التأكيد على مهلته التي منحها سابقا للنظام السوري ، قائلا: “مصرون على خروج النظام السوري إلى ما بعد نقاط المراقبة حتى نهاية شباط (فبراير)، ولن نتراجع عن ذلك وسنقوم بكل ما يلزم على الأرض وفي الجو دون تردد”.وقال: “تركيا لن تظل صامتة حيال ما يجري في إدلب، رغم تجاهل الجميع للمأساة الحاصلة هناك”.
وتواصل تركيا إرسال الحشود العسكرية والأسلحة الثقيلة إلى شمال غرب سورية، دخول حوالي خمسة آلاف جندي تركي إلى شمال غرب سورية، بينهم وحدات من القوات الخاصة، ووصول أكثر من 1240 شاحنة وآلية عسكرية تركية إلى الأراضي السورية، مصحوبة برادارات متنقلة وأجهزة تشويش، ما يعني أنَّ أنقرة تستعد لعملية تمدّد وانتشار عسكري جديد، بهدف قطع الطريق على تقدّم قوات الجيش العربي السوري ، وتشكيل منطقة آمنة لحماية المدنيين، وإبقائهم في هذه المنطقة، تمهيدا للتعامل مع الإنذار الموجّه إلى دمشق، بسحب قواتها من المناطق المجاورة لأبراج المراقبة التركية قبل نهاية شهر فبراير/ شباط الحالي.
الردّ السوري على تصعيد الرئيس أردوغان ، لم يتأخر، إِذْقال مصدر في وزارة الخارجية والمغتربين السورية في تصريح لوكالة سانا يوم الإربعاء الماضي: بعد انهيار تنظيماته الإرهابية التي يدعمها ويسلحها ويدربها تحت ضربات الجيش العربي السوري وبعد انكشاف أمره ودوره كأداة للإرهاب الدولي ودمية بيد سيده الأمريكي، يخرج علينا رأس النظام التركي بتصريحات جوفاء فارغة وممجوجة لا تصدر إلا عن شخص منفصل عن الواقع غير فاهم لمجريات الأوضاع والأمور ولا تنم إلا عن جهل ليهدد بضرب جنود الجيش العربي السوري بعد أن تلقى ضربات موجعة لجيشه من جهة ،ولإرهابييه من جهة أخرى.
وأضاف المصدر إنَّ الجمهورية العربية السورية تؤكد مجدداً الإصرار على الاستمرار في واجباتها الوطنية والدستورية في مكافحة التنظيمات الإرهابية على كامل الجغرافيا السورية وتخليص أهلنا من نيرها بما في ذلك فتح معابر إنسانية آمنة والتي أعاقت المجموعات الإرهابية المدعومة من رأس النظام التركي خروج المدنيين عبرها لاستعمالهم دروعاً بشرية لها.
وختم المصدر تصريحه بالقول: إنَّ الجمهورية العربية السورية تؤكد مجدداً أن أي وجود للقوات التركية على أراضيها هو وجود غير مشروع وهو خرق فاضح للقانون الدولي وتحمل النظام التركي المسؤولية الكاملة عن تداعيات هذا الوجود.
هناك عوامل أشعلت فتيل التصعيد التركي، يمكن تحديدها على النحو التالي:بداية انهيار المجموعات الإرهابية المسلحة وانكسارها العسكري،وفشل المفاوضات بين الوفدين الروسي والتركي والتي جرت يوم 8شباط/فبراير2020،وقد عزا المراقبون هذا الفشل إلى أنَّ كل الظروف السياسية والميدانية لم تكن ناضجة للخروج باتفاق،والانتصارات الكبيرة التي حققها الجيش العربي السوري مؤخرًا، حين تمكّن من السيطرة على التل المرتفع الحاكم المسيطر، في زواية هامة جدا داخل سياق العمليات العسكرية التي يشنها الجيش لتنفيذ اتفاقات استانا وسوتشي بالنار، وفتح الطرق الدولية الواصلة بين حلب ودمشق وحلب واللاذقية، ما سمح لالتقاء وحدات الجيش المتقدمة من ريف إدلب الشرقي مع القوات المتقدمة من الريف الجنوبي لحلب في محيط تل العيس بريف حلب الجنوبي.
هذه التلة لتي تعتبر خط الدفاع الاكثر تحصينًا وارتفاعًا كانت تتمركزفيها “جبهة النصرة “وحلفائها، ما يعكس حجم الخلل الذي باتت تعيشه “جبهة النصرة”الإرهابية عسكريًا وتنظيميًا في ريفي حلب وإدلب، إضافة إلى الأثر النفسي على المسلحين والانهيارات المتتالية أمام تقدم الجيش العربي السوري ، حيث تتيح جغرافية المنطقة لوحدات الجيش المسيطرة على تل العيس إشرافاً ناريّاً على مساحات واسعة في محيطه. بالذات في اتجاه مركز البحوث الزراعية إيكاردا وأجزاء واسعة من الاوتوستراد الدولي حلب دمشق، وستفتح مسارإاضافي باتجاه بلدة الزربة الواقعة على بعد 20 كيلو مترا عن مدينة حلب في الريف الجنوبي الغربي، حيث تعتبر الزربة منقطة حيوية على الطريق الدولي.
كل هذه العوامل مجتمعة دفعت برئيس النظام التركي أردوغان إلى محاولة تحصين إدلب، وبناء خط دفاعي جديد في داخلها عبر الدفع بمئات الآليات العسكرية والجنود لعرقلة تقدم الجيش السوري،والزَجِّ بالقوات العسكرية إلى داخل مدينة إدلب ومحيطها وريفها القريب، ما جعل النظام التركي وجيشه في حالة اصطفافٍ واضحٍ مع جماعاتٍ إرهابيةٍ تابعةٍلتنظيم “القاعدة”،إضافة إلى جبهة النصرة والحزب التركستاني والقوقاز،في مواجهة الجيش العربي السوري وحلفائه،عبر هجمات متتالية استهدفت على الأخص محور بلدة النير.
يشكل الاحتلال التركي الجديد لأراضٍ تقع في شمال غرب سورية خرقًا واضحًا للقانون الدولي والشرعية الدولية،وأنَّ للدولة الوطنية السورية الحق الكامل في تنفيذ مهامها الدستورية في تحرير أراضيها المحتلة ،والوصول إلى تطبيقٍ كاملٍ لاتفاقات سوتشي واستانا ،وإجبارأردوغان على سحب قواته وإيقاف دعمه للمجموعات المسلحة،وإنهاءمخططاتها للاحتلال المباشر للأراضي السورية في شمال البلاد.
أمام هزيمة المخطط التركي-الأمريكي على المستوى السياسي والعسكري في هذه الجغرافية التي تشمل ريفي حلب الغربي و إدلب الشرقي الجنوبي ، يسعى رئيس النظام التركي إلى تصعيد الأجواء في مناطق ريف الحسكة والقامشلي للتعويض عن خسارته في مناطق ريفي حلب وإدلب،وإعادة فتح ملف عملية نبع السلام.
العلاقات الروسية -التركية:حدود الإلتقاء و التعارض
يتحدث المحللون المتابعون لأوضاع المنطقة ،أن هناك أزمة واضحة في العلاقات الروسية-التركية،بسبب عدم رضى الرئيس فلاديمير بوتين عن سياسة المماطلة والتأجيل التي يمارسها رئيس النظام التركي بشأن قضايا الطرق الدولية والجماعات الإرهابية وضرورة عودة قوات الجيش العربي السوري إلى المناطق التي خرجت منها في إدلب. فقد شكّلتْ معركة إدلب ومسارها ونتائجها اختبارًا حقيقيًا لمسار العلاقات التركية الروسية، وعلاقات تركيا بالتنظيمات الإرهابية ، وموقف كل طرف من الآخر. هل تقود هذه المؤشرات و الدلائلإلى حدوث أزمة كبيرة بين روسيا وتركيا، تكون نتيجتها القطيعة بين الطرفين؟
علىى صعيد العلاقات بين روسيا وتركيا، تقول الأرقام إنَّها شهدت تطورًا كبيرًا خلال الأزمة السورية، يشهد على ذلك حصول 17 لقاء قمة بين الرئيسين، التركي رجب طيب أردوغان، والروسي فلاديمير بوتين، بين عام 2016 ومطلع العام 2020، بحثا ملفات ثنائية وإقليمية كثيرة، انتهت إلى تفاهمات ووعود ترجمت عمليا، بينها الابتعاد التركي عن أميركا والتنسيق المشترك في ليبيا وشرق المتوسط وخطوط الطاقة الاستراتيجية.
أمّا في الأزمة السورية،فقد كانت روسيا مصرة على تطبيق اتفاق سوتشي الموقع بين الرئيسين فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان في 17 سبتمبر 2018، القاضي بإبعاد “هيئة تحرير الشام” مسافة 15 – 20 كم في عمق إدلب، بتداء من 15 أكتوبر/تشرين الأول 2018،حمايةً للقواعد والمنشآت العسكرية الروسية التي كانت تُستهدَف بصواريخ وطائرات مسيّرة، والسيطرة على المناطق الواقعة على الطرق الدولية الرابطة بين دمشق وحلب، وبين حلب واللاذقية…
أولا:الموقف من تأهيل “هيئة تحرير الشام”
تعمقت الأزمة الروسية-التركية مؤخرًا، بسبب الموقف من “جبهة النصرة “الإرهابية، إذ تبدو موسكو منزعجة جدَا من التوافق الأمريكي التركي بشأن “هيئة تحرير الشام”(جبهة النصرة الإرهابية) في الشمال السوري، حيث يعمل كل من الرئيسين التركي أردوغان ،والأمريكي ترامب على “إعادة تأهيل” الفصيل الإرهابي المسلح الذي كان يسيطر على غالبية مناطق إدلب السورية، وتتهمه موسكو فصيلاً إرهابيًا.
وسبق أن نقلت قناة “روسيا اليوم”، عن لافروف، اتهامه لأمريكا بالرغبة في الحفاظ على “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقا)، وجعلها طرفا في التسوية السياسية.والاتهامالروسي، لا يتعارض مع ما أكدته عدة أوساط عربية ،فضلت عدم الكشف عن هويتها، أن هناك توافقا أمريكيا تركيا بشأن الحفاظ على”هيئة تحرير الشام”، وعدم إنهائه كفصيل إرهابي مسلح بارز حاليا في إدلب،لا سيما مع رجوع أمريكا إلى الملف السوري، وتحديدا في الشمال.
إنَّ أمريكا تتعامل مع التنظيمات و الجماعات الإرهابية وفق مخططها،و بما يحقق مصالحها في سورية. ففي ظل عودة الولايات المتحدة الأمريكية إلى الملف السوري ، تعمل إدارة ترامب على إعادة تأهيل “تحرير الشام”، بقدر ما أن هذه الجماعات الإرهابية تخدم مخطط الإمبريالية الأمريكية من خلال إعادة ترتيب المنطقة في الشمال السوري، وسط الخلاف مع روسيا، لا سيما بعد فشل قمة القدس الأمنية، وعدم حصول الكيان الصهيوني وأمريكا على ضمانات روسية بإخراج إيران من سورية.
وتسعى الإمبريالية الأمريكية ، من خلال التوافق مع نظام أردوغان بالحفاظ على “تحرير الشام”، وإعادة هيكلتها بطريقة لا تعطي لها شرعية، ولا تقطع التعامل معها كقوة عسكرية موجودة، فإنهاؤها يعني تسهيل إدخال النظام وروسيا إلى إدلب، ما يعني فقدان ورقة مهمة للضغط على روسيا.ومن الواضح أن أمريكا تريد الاستفادة من وجود “تحرير الشام” في الشمال السوري ضمن شروط معينة وليس إنهاء الفصيل الإرهابي هذا.
ومن التحديات التي تقف أمام تركيا وأمريكا، مطالبة روسيا المتكررة بإنهاء ملف تحرير الشام، لكن أنقرة لم تقم بالأمر، لأنه في حال القضاء على تحرير الشام فسيثار تساؤل تركي كبير: “من البديل؟”وبالنسبة لتركيا، فإنَّ بديل “تحرير الشام” في إدلب إما دخول االجيش العربي السوري إليها، أو إعلان منطقة وقف إطلاق نار نهائي، لذلك، فإنَّ كان المقابل إنهاء “تحرير الشام” التي تشكل مشكلة لروسيا والدولة الوطنية السورية ، ويكون البديل بسط الدولة الوطنية السورية سيادتها على كامل الشمال الغربي السوري ،فلا مصلحة تركية في ذلك.
إلا أن أمريكا توافقت مع تركيا ضد الرغبة الروسية، ما دفع موسكو الأسبوع الماضي، إلى اتهام واشنطن بأنها تحاول إفشال اتفاق سوتشي المتعلق بإدلب السورية، الذي وقعته روسيا مع تركيا، من أجل خفض التصعيد في شمال سوريا.وجاء ذلك على لسان وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، قائلًا :إنَّ الولايات المتحدة وحلفاءها يرغبون في إفشال اتفاق بلاده مع تركيا، بشأن محافظة إدلب، معبرا عن القلق إزاء محاولتها هذه من الالتفاف على الاتفاق مع أنقرة.
وفضلاً عن ذلك، ترى روسيا في محاولات إعادة تأهيل “تحرير ” ودخول أمريكا على الخط مع تركيا،مشكلة توجب الحل.فتركيا لها دور أساس باعتبارها الجهة التي تحاول إعادة تأهيل “تحرير الشام”، ويبدو أن هناك نوعا من الرؤية المشتركة بينها وبين أمريكا بهذا الخصوص.وما دفع “تحرير الشام” وسط هذا كله، للتعبير عن التزامها ببعض المتطلبات الإقليمية والدولية هو اعتبارها حركة سياسية،والتعاطي مع محاولات إعادة التأهيل.
فقد صدرت عن الولايات المتحدة، خلال الأيام القليلة الماضية، تصريحات بنبرة جديدة، بشأن الأوضاع في إدلب السورية، بالتزامن مع ازدياد سخونتها، إذ شدَّدت على الوقوف إلى جانب تركيا، التي باتت على أعتاب مواجهة مفتوحة مع الجيش العربي السوري ،وسط تساؤلات عن شكل التدخل الأمريكي المحتمل.
وبرز من بين تلك التصريحات “دفاع” المبعوث الأمريكي الخاص إلى سورية، جميس جيفري، قبل أيام، عن “هيئة تحرير الشام”، التي تصنفها واشنطن “إرهابية”،فقد أكد “جيفري” أنَّ “الهيئة”، الفصيل المعارض الأقوى في شمال غرب سورية، “يركز على محاربة الأسد”، ويحاول إثبات أنَّه “وطني لا إرهابيا”، موضحًا أنَّ واشنطن لم تقتنع بذلك “حتى الآن”، في إشارة واضحة إلى إمكانية رفعه من القائمة الأمريكية، أو ربما التعامل مع عناصره تحت مظلة أخرى تجمع قوى سورية أخرى.
وفي هذا السياق، كان لافتا إسقاط “معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى”، في تقريره الأخير بشأن الأوضاع في إدلب، تهمه السابقة لـ”تحرير الشام”، بالحفاظ على ارتباطها القديم بتنظيم القاعدة، معتبرا أنَّ انفصالها تم “بشكل حقيقي وكامل” مطلع عام 2017، عندما تبنت الاسم الجديد، مع إشارة عابرة إلى تصنيفها “إرهابية” لدى الولايات المتحدة.
تجدر الإشارة إلى أنَّ “جبهة النصرة”، التي تشكلت في سورية كامتداد لـتنظيم “القاعدة” بعد اندلاع احتجاجات عام 2011، غيرت اسمها لأول مرة منتصف عام 2016، إلى “جبهة فتح الشام”، مؤكدة أنه لم يعد لها أي ارتباط خارجي، ثم مرَّة أخرى في كانون الثاني/ يناير 2017، ما رافقه اندماج مع فصائل أخرى محلية، بهدف تأكيد “فك الارتباط” عن التنظيم الجهادي الدولي.وأعلنت واشنطن بعد ذلك أنها “لم تقتنع” بتلك الخطوات، وأن “المكون الأساسي” للتشكيل الجديد لا يزال “إرهابيا”، معلنة عن مكافأة تصل إلى 10 ملايين دولار لمن يساهم بالقبض على زعيمه “أبي محمد الجولاني”.
ثانيًا: تعمق الخلاف الروسي- التركي بشأن الأزمة الليبية
تنظر موسكو إلى الدعم العسكري و اللوجستي و السياسي لحكومة الوفاق الليبية بزعامة فايز السراج ، وطموح السلطان العثماني الجديد رجب طيب أردوغان في أن يلعب دورًا إقليميا كبيرًافي البحر المتوسط و إفريقيا عمومًا التي كانت ساحة للتقاسم الاستعماري ، نظرًا لحاجيات تركيا المتزايدة للسيطرة على الغاز الموجود بكثرة في الساحل الشرقي للمتوسط،تنظر موسكوعلى أنّهُ بداية خروج أردوغان عن التفاهمات الروسية-التركية ،والقاضية بضرورة “تكامل” الطرفين فيما يخص “حصار أوروبا” غازيًا وكسر “استراتيجية الاحتواء” التي يسعى حلف الشمال الأطلسي للعمل عليها منذ أن سقط الاتحاد السوفياتي ،إذ تحاول موسكو تلافيها من خلال استراتيجية “الشعاع الاوراسي” والتي تلزم الأخيرة بالعمل على توسيع حضورها الإقليمي والدولي والدخول في “تكتيك المقايضة” بالملفات أو الاشتراك في تحديد مصير بعضها بما يكفل مصالحها.
لقد أسقط الجيش العربي السوري بتحريره أجزاء كبيرة من الريف الغربي الجنوبي لحلب والريف الشرق لأدلب، و السيطرة على الطريق الدولي الرابط بين حلب و دمشق، مشروع أردوغان القاضي بخلق “منطقة آمنة” في الشمال الغربي لسورية تشكل مجالاً حيويًا لتركيا، وتحوي الإرهابيين ،الذين يمكن أن يستخدمهم أردوغان ك”جيش من المرتزقة”فيمغامرته العسكرية خارج الحدود كما هو الحال في ليبيا حيث بات يرتع أكثر من 2000 إرهابي مرتزق أتت بهم تركيا من هذه الكنتونات الأمنية التي يطلق عليها اصطلاحًا حسب الاتفاقيات الأمنية التركية الروسية بمناطق “خفض التصعيد”، لخوض الحرب في طرابلس الغرب ضد جيش حفتر، دفاعًا عن حكومة الوفاق بقيادة فايز السراج، المدعومة من الإخوان المسلمين .
وكانت تركيا استعانت بهذه المجموعات الإرهابية عند هجومها على شمالي شرق سورية، وتستعين بها حاليا لتحقيق استراتيجيتها في ليبيا من أجل الهيمنة على مصادر الطاقة و الغاز في البحر المتوسط، وهي النقطة التي لم ترق على ما يبدو لروسيا، في علاقتها بقائد قوات شرق ليبيا خليفة حفتر، ومواصلة تركيا في جلب المقاتلين من شمال سورية إدخالهم مباشرة في الحرب على الجبهات الحربية الليبية سواء في طرابلس أو قرب منطقة بوقرين جنوب شرقي مصراتة.
لقد أدرك بوتين أنَّ أردوغان يسعى من خلال مغامرته في ليبيا أن يعمل على نفس النقاط في الصراع بين روسيا وحلف الشمال الأطلسي والذي يترجم تركيّا في صراع أنقرة والاتحاد الاوروبي، فكان أن قامت تركيا بعسكرة ليبيا لتكون حاضرة في قطع الطريق أمام أي إمداد للغاز من جنوب المتوسط نحو أوروبا انطلاقًا من اليونان، وهو نفس الهدف الذي يسعى إليه بوتين(من التحليل الإخباري لصحيفة الصباح التونسية بتاريخ 13 فبراير 2020).
ثالثًا: المصالح الاقتصادية الضخمة بين روسيا وتركيا
المتابع لتطور العلاقات الاقتصادية بين روسيا وتركيا خلال السنوات القليلة الماضية، يستبعد أن تقود الأزمة الحالية بين تركيا وروسيا ، و التهديدات التي أطلقها أردوغان، بأن تركيا قد تكون هذه المرّة مستعدة للدخول في مواجهة مباشرة مع روسيا، لحماية مصالحها والذود عن حلفائها في إدلب. ففي السنوات الثلاث الأخيرة، تعمقت العلاقات الروسية – التركية، من دون أن يعني ذلك تنامي الثقة بين طرفيها، وباتت مرتبطةً بشبكة متداخلة من المصالح، إلى درجةٍ يصعب معها تصور استعدادهما للتضحية بها، والدخول في مواجهةٍ بسبب إدلب.
فروسيا هي اليوم شريكٌ تجاري رئيس لتركيا، وقد بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين في عام 2019 نحو 30 مليار دولار، مع وجود خطط لرفعه الى مائة مليار خلال السنوات المقبلة. وتعتمد تركيا كثيراً على إمدادات الغاز الروسية (60% من احتياجاتها) وقد زاد اعتمادها أكثر عليها بسبب العقوبات الأميركية على طهران (كانت تزود تركيا بنحو 20% من احتياجاتها من الغاز). وأصبحت تركيا بلد عبور رئيساً لإمدادات الغاز الروسية إلى أوروبا منذ مطلع العام الحالي (2020)، بعد افتتاح خط “السيل التركي” الذي يمرّ تحت البحر الأسود (بطول 910 كم). وتبني روسيا حالياً أول محطة توليد طاقة نووية في تركيا، بمعنى أنها باتت تسيطر على جزء كبير من قطاع الطاقة التركي بأنواعه. فوق ذلك، أصبحت تركيا تعتمد، في دفاعاتها الجوية، على منظومات صواريخ إس 400 التي ابتاعتها من روسيا العام الماضي، بعدما سحبت واشنطن بطاريات صواريخ باتريوت من تركيا عام 2016، ورفضت طلباً من أنقرة لشراء عدد منها. وفي ظل تنامي العلاقات العسكرية بين واشنطن وأثينا، وتوجّس تركيا من أن إدارة ترامب أخذت تنحاز إلى اليونان في الصراع على الحدود البحرية وحقوق التنقيب عن النفط في شرق المتوسط، ستسعى تركيا، على الأرجح، إلى استمالة روسيا إليها في هذا النزاع، وقد بدا ذلك ممكناً في ضوء الاتفاق الذي توصل إليه البلدان بشأن ليبيا.( نقلاً عن صحيفة العربي الجديد بتاريخ 9فبراير 2020 ).
خاتمة:
لا يزال رئيس النظام التركي أردوغان يلعب على حبال الوقت والمراوغة لنسف كل التفاهمات والمخرجات الناتجة عن ” آستنة وسوتشي”، ويحاول استثمار دوره الوظيفي في دعمه للجماعات الإرهابية ،للتضحية بكل علاقاته مع الجانب الروسي متسلحا بالدعم الأمريكي والأطلسي، لا سيما في ظل رفع أمريكا ومعها الحلف الأطلسي منسوب عدائهما لروسيا، ووضعها في قائمة التهديدات،لكن ماهو مؤكد أنَّ الدولة الوطنية السورية ،وعمودها الفقري الجيش العربي السوري ، مُصَمِّمَانِ على تحرير مدينة إدلب، وكامل الشمال السوري ،الغربي والشرقي، من الاحتلالين التركي والأمريكي.
ويعلم رئيس النظام التركي أردوغان أنَّ تحرير مدينة إدلب، سيشكل حافزًا قويًا للجيش العربي السوري لتحرير المناطق الأخرى التي استولت عليها تركيا خلال السنوات الماضية انطلاقا من ادلب حتى الحدود العراقية.كما أنَّ تحرير إدلب ، سيدفع بالأكراد المنضوينفي إطار قوات سورية الديمقراطية “قسد” بالعودة إلى حاضنة الدولة الوطنية السورية، لا سيما أن إدارة ترامب التي تخلت عن الأكراد ، وتناور في الوقت الحاضر بشأن مسألة انسحابها من الشمال الشرقي السوري، تعلم جيدًّاأنَّ الهدف القادم للجيش العربي السوري هو تحرير حقول النفط والغاز التي تسيطر عليهم القوات الأمريكية الموجودة هناك.
لا شك أنَّ تحقيق مطالب الأكراد في حقوق المواطنة ، واندماجهم في العيش تحت سقف الدولة الوطنية السورية، و تخليهم عن حلم الحكم الذاتي، سوف يسهم في إسقاط المشروع التركي الذي يريد إعادة رسم الخارطة الديمغرافية في شمال شرق سورية، من خلال تغليب التركمان والعرب على العنصر الكردي ، و إعادة توطين اللاجئين السوريين في الشمال الشرقي المحاذي للحدود التركية،والذين يبلغ عددهم 3.7 مليون لاجئ أغلبهم من العرب السنة والتركمان .
وهكذا، فإنَّ أردوغان ليس أمامه من مخرج، سوى العودة إلى تفعيل اتفاق أضنا الموقع بين سورية وتركية عام 1998.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى