خواطر عروبية منسية نستذكرها في عيد ميلاد جمال عبد الناصر 

شكراً للمناسبات الناصرية التي تثير اشواقي للكتابة، وتفتح شهيتي على معاودة التعامل مع الاقلام والاوراق، وتشجعني على مغازلة الافكار والمعاني والتعابير الرشيقة التي هجرتها وهجرتني منذ ادركت- او لعلي توهمت- ان الكتابة باتت صناعة قديمة لا طائل تحتها ولا فائدة منها ولا لزوم لها، شأنها في ذلك شأن صناعة الطرابيش والقباقيب وبوابير الكاز.
عندي، وفي عمق قناعتي، ان الكتابة في المناسبات الناصرية فرض عين، ورسالة عمر، واداء واجب، ومسؤولية شخصية، الى آخر نبضة قلب وخفقة روح وذبالة حياة.. ذلك لان الناصرية، في حسباني ووجداني، ضرورة عيش، واكسير وجود، واكسجين حياة.. بل هي عندي حالة نفسية رومانسية حالمة، بقدر ما هي عقيدة قومية مبدئية، وانطلاقة ثورية تاريخية سطعت شمسها منذ بواكير عقد الخمسينات، وما زالت مفتوحة على آفاق المستقبل، وقابلة للتجدد والانبعاث في كل حين.
لقد سبق لي القول غير مرة، ان الناصرية ليست بنت الماضي، ولا نزيلة دفاتر التاريخ، ولا رهينة جداول المواريث والسلفيات والتراثيات.. بل هي ضمير اليوم والغد وبعد الغد، وهي خارطة طريق الاجيال العربية المقبلة والمناضلة، وهي حركة وحدوية عروبية قد تخبو يوماً لتنطلق في يوم آخر.. نظراً لانها حركة الامة لدى وعيها لذاتها، وتطلعها الى خلاصها، وجهادها لتبوء المكانة اللائقة بها تحت الشمس.
لا عزة ولا كرامة ولا سيادة حقيقية لامتنا العربية الطاعنة حالياً في العجز، والفاقدة للارادة الحرة، والغائبة عن الوعي، والمرتهنة لمشيئة الاجانب، الا بالقيادة الكاريزمية الباسلة، والاستراتيجية القومية الجامعة، والعمل على احياء المشروع الناصري المؤسَس على الوحدة والحرية والعدالة الاجتماعية.. وهو ذات المشروع الذي انتصر به الخليفة الفاروق على كسرى وقيصر بعدما وحّد الجزيرة العربية ووادي النيل والهلال الخصيب، كما انه ذات المشروع الذي انتصر به صلاح الدين الايوبي على جحافل الصليبيين، ثم انتصر به محمد علي باشا على السلطنة العثمانية واوشك ان يحتل اسطنبول.
بمنظور تاريخي والهام عبقري ادرك عبد الناصر ان العروبة قَدَر وقدرة.. فالوحدة قدر هذه الامة الحتمي الذي لا محيص عنه ولا فرار منه مهما طال الزمان، وقدرة اهلها التي لا بديل لها ولا غنى عنها لبناء الذات القوية، واستعادة الارض السليبة، وتحقيق النهضة الشاملة.. ولولا توافق الشرق الشيوعي، والغرب الامبريالي، والاخطبوط اليهودي، والرجعية الوهابية والاخوانية على الوقوف الصارم في وجه مشروع عبد الناصر الوحدوي النهضوي، لكان الحال العربي الآن غير هذا الحال الضالع في البؤس.
في غياب فكر “ابي خالد” ونهجه ورؤاه العروبية، اندلعت في مصر ثورتان: ٢٥ يناير و٣٠ يونيو، فماذا كانت الحصيلة؟ مرسي والسيسي، ودقي يا مزيكا.. فلا حرية ولا ديموقراطية، ولا تنمية اقتصادية، ولا مكانة قيادية، ولا حماية لماء النيل، ولا فكاك من اطاعة كامب ديفد وتسول المعونات الامريكية والخليجية.

ما علينا، فقد اخذنا حديث السياسة الوعر من بهاء الاحتفال بعيد ميلاد ضيف استثنائي وفد الى هذه الدنيا قبل مئة وعامين.. ففي يوم ١٥ يناير/ كانون الثاني من عام ١٩١٨ تلقفت سواعد الحياة مولوداً مصرياً صعيدياً له طلة الخير، واشراقة الصبح، وصيحة الحق، وهيئة البشرى، وامارات الوعد الصادق والعابق باريج الاماني والآمال والنبوءات العظيمة.
منذ اول انفاسه الى يوم رحيله، تميز “ابو خالد”باشرف واطهر منظومة اخلاقية شبه ملائكية، وتفوق على نفسه في الزهد والتقشف والنزاهة والمثابرة وامانة المسؤولية ومداومة الاشغال الشاقة.. فما بطر بالنعمة، ولا حفل بالابهة، ولا اغتر بالحكم، ولا اكترث بالمال، ولا تكبر على الشعب، ولا اقترب من موبقات الفساد بانواعه كافة، حتى انه حيّر وكالة المخابرات المركزية الامريكية التي اعترفت بالصوت العالي انها لم تستطع اختراقه، شأن ما فعلت مع حكام آخرين، لانها لم تجد لديه ثغرة اخلاقية او سياسية واحدة تنفذ منها.
هذه السجايا والشمائل والفضائل الناصرية تزداد تألقاً وتوهجاً كلما اشتدت عتمة الواقع العربي الراهن، وهي تضاعف التقدير والتوقير والاحترام العميق لهذا الناسك الزاهد، كما تشكل اسوة وقدوة وقوة مثال للجماهير العربية التي فقدت ثقتها بمعظم حكامها، بعدما تكشفوا عن تلاميذ نجباء لـ “علي بابا”، ولصوص محترفين في نهب المال العام.. بدءاً من ابن سلمان، ومروراً بمبارك والقذافي وبوتفليقة والسنيورة وميقاتي وابن علي ونوري المالكي وبقية عملاء بريمر، وانتهاءً بعمر البشير الذي اتضح انه اخواني حرامي يكتنز الملايين من مختلف العملات، فيما يتضور شعبه السوداني جوعاً وعُرياً ومرضاً.
قصر الكلام.. نهنئ “ابا خالد” بعيد ميلاده السعيد، ونترحم على ايامه الغراء الميمونة، ونثمن عالياً احتقاره للثراء الشخصي ومعظم الاثرياء، ونتبرأ من هذا الواقع العربي التعيس الذي حلّل الحرام وحرّم الحلال، واعتبر القناعة والامانة ونظافة اليد صفات ديناصورية منقرضة، وافعال استحالة ممنوعة من الصرف، واضغاث اوهام عدمية وسرابية.. بينما اباح لعربان الردة التنصل من ارومتهم، والتبرؤ من هويتهم، والتنكر لعروبتهم حتى لكأنها تهمة فظيعة يتعين دفعها، او كذبة كبيرة يتوجب نفيها، ومن ثَم “التنقيب” عن اسماء وهويات ومخلّفات عرقية وجهوية وقبلية وطائفية بديلة.. والعياذ بالله.

 

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. لا تتوقف عن الكتابة يا أستاذ فهد؛ فحروف النور التي تنثرها مقالاتك، حتمًا ستضيء الطريق يومًا أمام رائد جديد يصنع منها شمسًا أبدية!
    وكل عام وأمتنا بخير بمناسبة ميلاد الناصر.

زر الذهاب إلى الأعلى